الآيات 51 - 57
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَام أَمِين (51) فِى جَنَّـت وَعُيُون (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُس وَإِسْتَبْرَق مُتَقَـبِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْنَـهُم بِحُور عِين (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَـكِهَة آمِنِينَ (55) لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاُْولَى وَوَقَـهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِن رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)﴾
التّفسير
المتقون ومختلف نعم الجنّة:
لما كان الكلام في الآيات السابقة عن العقوبات الأليمة لأهل النّار، فإنّ هذه الآيات تذكر المواهب والنعم المعدة لأهل الجنّة، لتتضح أهمية كلّ منهما من خلال المقارنة بينهما.
وقد لخصت هذه المواهب في سبعة أقسام:
الأولى: هي (إن المتقين في مقام أمين) (1) على هذا فلا يصيبهم أي إزعاج أو خوف، بل هم في أمن كامل من الآفات والبلايا، من الغم والأحزان، ومن الشياطين والطواغيت.
ثمّ تطرقت الآيات إلى النعمة الثانية فقال: (في جنات وعيون).
إن التعبير بالجنات يمكن أن يكون إشارة إلى تعدد الحدائق والبساتين التي يتمتع بها كلّ فرد من أهل الجنّة، فهي تحت تصرفه، أو تكون إشارة إلى مقاماتهم المختلفة ودرجاتهم المتفاوتة، لأنّ حدائق الجنّة وبساتينها غير متساوية، بل تختلف باختلاف درجات أصحاب الجنّة.
وتشير الثالثة إلى ملابسهم الجميلة، فتقول: (يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين).
"السندس" يقال للأقمشة الحريرية الناعمة الرقيقة، وأضاف البعض قيد كونها مذهَّبة.
و"الإستبرق" هي الأقمشة الحريرية السميكة، ويعتقد بعض المفسّرين وأهل اللغة أنها معربة من الكلمة الفارسية (أستبر) أو (ستبر) أي السميك.
ويحتمل أن يكون أصلها عربياً مأخوذاً من البرق أي التلألؤ، حيث أنّ لهذه الأقمشة بريقاً خاصّاً.
طبعاً، ليس في الجنّة حرّ شديد أو برد قارص ليتوقاه أهل الجنّة بارتداء هذا الملابس، بل هذه إشارة إلى الألبسة المتنوعة المعدة لهم.
وكما قلنا سابقاً، فإنّ كلماتنا وألفاظنا - هذه التي وضعت لرفع حاجات الحياة اليومية في دنيانا - عاجزة عن وصف مسائل ذلك العالم الكامل العظيم، بل هي قادرة على الإشارة إليها وحسب.
واعتقد البعض أنّ اختلاف هذه الألبسة إشارة إلى تفاوت مقامات القرب بين أصحاب النعيم.
ثمّ إنّ كون أهل الجنّة متقابلين مع بعضهم البعض، وزوال أي تفاوت وتكبر لأحد على آخر، إشارة إلى روح الأُنس والأخوة التي تسود مجالسهم، تلك المجالس والحلقات التي لا يرى فيها إلاّ الصفاء والمودّة وتسامي الروح.
وتصل النوبة في النعمة الرابعة إلى أزواجهم، فتقول: (كذلك وزوجناهم بحور عين).
"الحور" جمع حوراء وأحور، وتقال لمن اشتد سواد عينه، واشتد بياض بياضها.
و"العين" جمع أعين وعيناء، أي أوسع العين، ولما كان أكثر جمال الإنسان في عينيه، فإنّ الآية تصف عيون الحور العِين الجميلة الساحرة.
وقد ذكرت محاسنهن الأُخرى بأسلوب رائع في آيات أُخرى من القرآن.
ثمّ تناولت الآية الأُخرى النعمة الخامسة لأصحاب الجنّة فقالت: (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) فلا توجد في الجنّة تلك هنا المشكلات والصعوبات التي كانوا يعانونها في تناول فاكهة الدنيا، فإنّها قريبة منهم وفي متناولهم، وعلى هذا فليس هناك بذل جهد لاقتطاف الأثمار من الأشجار العالية، إذ (قطوفها دانية) (2).
وإليهم يرجع اختيار الفاكهة التي يشتهونها: (وفاكهة مما يتخيرون) (3).
ولا أثر هنا للأمراض والإضطرابات التي قد تحدث في هذه الدنيا على أثر تناول الفواكه، وكذلك لا خوف من فسادها وقلتها، فهم في راحة وأمن واطمئنان من الجهات.
وعلى أية حال، فإذا كان الزقوم طعام أهل النّار الذي يغلي في بطونهم كغلي الحميم، فإنّ طعام الجنّة هي الفواكه اللذيذة الخالية من كلّ أذى وإزعاج.
خلود الجنّة ونعمها هي النعمة السادسة من نعم الله سبحانه على المتقين، لأنّ الذي يقلق فكر الإنسان عند الوصال واللقاء هو خوف الفراق، ولذلك تقول الآية:
(لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى).
والطريف أنّ القرآن الكريم قد بيّن كون نعم الجنّة خالدة بتعابير مختلفة، فيقول تارة: (خالدين فيها) (4) ويقول أُخرى: (عطاء غير مجذوذ) (5) أمّا لماذا عُبر بـ (الموتة الأولى) فسيأتي بيانه في التأملات، إن شاء الله تعالى.
وأخيراً يبيّن القرآن الكريم السابع من النعم وآخرها، فيقول: (ووقاهم عذاب الجحيم) فإنّ كمال هذه النعم إنما يتم عندما يخلو فكر أصحاب الجنّة من احتمال العذاب، وعدم انشغالهم به، لئلا يقلقوا فيتكدر صفوهم فلا تكمل تلك النعم حينئذ.
وهذا التعبير يشير إلى أنّ المتقين إن كانوا خائفين مما بدر منهم من هفوات، فإنّ الله سبحانه سيعفو عنها بلطفه وكرمه، ويطمئنهم بأنّ لا يدعوا للخوف إلى أنفسهم سبيلاً.
وبتعبير آخر، فإنّ غير المعصومين مبتلون بالهفوات شاؤوا أم أبوا، وهم في خوف وقلق منها ماداموا غير مطمئنين بشمول العفو الإلهي لهم، وهذه الآية تمنحهم الإطمئنان والراحة والأمان من هذه الجهة.
وهنا يطرح سؤال، وهو: إنّ بعض المؤمنين يقضون مدّة في الجحيم بذنوب اقترفوها، ليتطهروا منها، ثمّ يدخلون الجنّة، فهل تشملهم الآية المذكورة؟
ويمكن القول في معرض الإجابة عن هذا السؤال، بأنّ الآية تتحدث عن المتقين ذوي الدرجات السامية، والذين يردون الجنّة من أوّل وهلة، أما الفئة الأُخرى فهي ساكتة عنهم.
ويحتمل أيضاً أنّ هؤلاء عندما يدخلون الجنّة فلن يخشوا بعد ذلك العودة إلى النّار، بل يبقون من الأمن الدائم، وهذا يعني أنّ الآية أعلاه ترسم صورة هؤلاء وحالهم بعد دخولهم الجنّة.
وأشارت آخر آية - من هذه الآيات - إلى جميع النعم السبعة، وكنتيجة لما مر تقول: (فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم) (6).
صحيح، إنّ المتقين قد عملوا الكثير من الصالحات والحسنات، إلاّ أنّ من المسلّم أن تلك الأعمال جميعا لا تستحق كلّ هذه النعم الخالدة، بل هي فضل من الله سبحانه، إذ جعل كلّ هذه النعم والعطايا تحت تصرفهم ووهبهم إيّاها.
هذا إضافة إلى أنّ هؤلاء لم يكونوا قادرين على كسب كلّ هذه الحسنات ولا على فعل الحسنات لو لم يشملهم فضل الله وتوفيقه ولطفه، فهو الذي منحهم العقل والعلم، وهو الذي أرسل الأنبياء والكتب السماوية، وهو الذي غمرهم بتوفيق الهداية والعمل.
نعم، إنّ استغلال هذه المنح العظمى، والوصول إلى كلّ تلك العطايا والثواب، إنّما تمّ بفضله سبحانه إذ وهبهم إيّاها، ولم يكن هذا الفوز العظيم ليحصل إلاّ في ظل لطفه وكرمه.
بحث
ما هي الموتة الأولى؟
قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ أصحاب الجنّة لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى، وهنا تطرح أسئلة ثلاثة:
الأول: ما المراد من الموتة الأولى؟ فإنّ كان المراد الموت الذي تنتهي به الحياة الدنيا، فلما تقول الآية: (لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى) في حين أنّهم قد ذاقوها، وعليه يجب أن يأتي الفعل بصيغة الماضي لا المضارع؟
وللإجابة عن هذا السؤال اعتبر البعض (إلاّ) في جملة (إلاّ الموتة الأولى) بمعنى (بعد)، وقالوا: إنّ معنى الآية هو أنّهم لا يذوقون موتاً بعد موتتهم الأولى.
وقدّر البعض الآخر تقديراً في الكلام فقالوا: إنّ التقدير هو: إلاّ الموتة الأولى التي ذاقوها (7).
الثاني: هو: لماذا ورد الكلام عن الموتة الأولى فقط، في حين أننا نعلم أنّ الإنسان يذوق الموت مرّتين: مرّة عند انتهاء حياته، وأخرى بعد حياة البرزخ؟
وقد ذكروا للإجابة على هذا السؤال عدة إجابات كلها غير مرضية، فآثرنا عدم ذكرها لعدم استحقاقها الذكر.
والأفضل أن يقال: إنّ الحياة والموت في البرزخ لا يشبهان أبداً الحياة والموت العاديين، بل إنّ حياة القيامة تشبه الحياة الدنيا من وجوه عديدة بمقتضى المعاد الجسماني، غاية ما هناك أنّها في مستوى أعلى وأسمى، ولذلك يقال لأصحاب الجنّة: لا موتة بعد الموتة الأولى التي ذقتموها، ولما كانت الحياة والموت في البرزخ لا شباهة لهما بحياة الدنيا وموتها لذا لم يرد الكلام حولهما (8).
السؤال الثّالث هو: إنّ عدم وجود الموت في القيامة لا ينحصر بأصحاب الجنّة، بل أصحاب النّار لا يموتون أيضاً، فلماذا أكّدت الآية على أصحاب الجنّة؟
للمرحوم الطبرسي جواب رائع عن ذلك، فهو يقول: إنّ ذلك بشارة لأهل الجنّة، بأن لهم حياة خالدة هنيئة، أما أصحاب النّار الذين يعتبر كلّ لحظة من لحظات حياتهم موتاً، وكأنّهم يحيون ويموتون دائماً، فلا معنى لهذا الكلام في حقهم.
وعلى أية حال، فإنّ التعبير هنا بـ (لا يذوقون) إشارة إلى أنّ أصحاب الجنّة لا يرون ولا يعانون أدنى أثر من آثار الموت.
وجميلٌ أنّ نقرأ في حديث عن الإمام الباقر (ع) أنّ الله تعالى يقول لبعض أهل الجنّة: "وعزتي وجلالي، وعلوي وارتفاع مكاني لأنحلنّ لهم اليوم خمسة أشياء: ألا إنّهم شباب لا يهرمون، وأصحاء لا يسقمون، وأغنياء لا يفتقرون، وفرحون لا يحزنون، وأحياء لا يموتون" ثمّ تلا هذه الآية: (لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى) (9).
1- ممّا يستحق الإنتباه أنّ (أمين) قد ذكر وصفاً للمقام، فكأن مقام أهل الجنّة أمين بنفسه ولا يخون أهل الجنّة مطلقاً، ومثل هذه التعبيرات تأتي عادة للتأكيد والمبالغة.
2- سورة الحاقة، الآية 23.
3- سورة الواقعة، الآية 20.
4- ورد هذا التعبير في آيات كثير من القرآن، ومن جملتها: آل عمران - 15، 136، النساء - 13، 122، المائدة - 85، وغيرها.
5- سورة هود، الآية 110.
6- احتملت عدّة احتمالات في إعراب (فضلاً): أحدها: إنّها مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: فضلهم فضلاً، والآخر: أنّه مفعول لأجله، أو أنّها حال.
7- بناءً على هذا فإنّ الإستثناء أعلاه منقطع أيضاً لأنّ أصحاب الجنّة لا يذوقون مثل هذا الموت، بل ذاقوه من قبل (فتأمل!).
8- الحياة والموت في البرزخ في ذيل الآية (11) من سورة المؤمن.
9- أصول الكافي، طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 634.