الآيات 17 - 21
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إلى عِبَادَ اللهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّى ءَاتِيكُم بِسُلْطَـن مُّبِين (19) وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ (21)﴾
التّفسير
إذا لم تؤمنوا فلا تصدّوا الآخرين عن الإِيمان:
متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول تمرد مشركي العرب وعدم إذعانهم للحق، تشير هذه الآيات إلى نموذج من الأمم الماضية التي سارت في نفس هذا المسير، وابتليت أخيراً بالعذاب الأليم والهزيمة النكراء، ليكون ذلك تسلية للمؤمنين، وتحذيراً للمنكرين المعاندين.
وذلك النموذج هو قصّة موسى وفرعون، حيث تقول الآية: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون).
"فتنّا" من مادة فتنة، وهي في الأصل تعني وضع الذهب في فرن النّار لتخليصه من الشوائب، ثمّ أطلقت على كل امتحان واختبار يجري لمعرفة نسبة خلوص البشر... ذلك الاختبار الذي يعم كل حياة الإِنسان والمجتمعات البشرية، وبتعبير آخر، فإن كل مراحل حياة الإِنسان في هذه الدنيا تطوى في هذه الإِختبارات، فإن هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء.
لقد كان قوم فرعون يعيشون أوج قوتهم وعظمتهم بامتلاكهم حكومة قوية، وثروات ضخمة، وإمكانيات واسعة، فغرتهم هذه القدرة العظيمة، وتلوثوا بأنواع المعاصي والظلم والجور.
ثمّ تضيف الآية (وجاءهم رسول كريم) فهو كريم من ناحية الخلق والطبيعة، وكريم من ناحية العظمة والمنزلة عند الله، وكريم من ناحية الأصل والنسب، ولم يكن هذا الرّسول إلا موسى بن عمران (ع).(1)
لقد خاطبهم موسى (ع) بأُسلوبه المؤدب جدّاً، المليء بالود والمحبة، فقال: (أن أدوا إليّ عباد الله).(2)
وطبقاً لهذا التّفسير، فإنّ (عباد الله) بحكم المخاطب، والمراد منهم الفراعنة، وبالرغم من أنّ هذا التعبير يستعمل في آيات القرآن في شأن العباد الصالحين، إلا أنّه أطلق أيضاً في موارد عديدة على الكفار والمجرمين، من أجل تحريك وجدانهم، وجذب قلوبهم نحو الحق (3).
بناء على هذا، فإنّ المراد من (أدّوا) إطاعة أمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.
وقد ذكر جماعة من المفسّرين تفسيراً آخر لهذه الجملة، فقالوا: المراد من (عبادالله) بنو إسرائيل، ومن (أدّوا) إيداعهم بيد موسى، ورفع الذلة والعبودية عنهم، كما جاء في الآية (17) من سورة الإِسراء (أن أرسل معنا بني إسرائيل) وورد نظير هذا المعنى في الآية 105 - الأعراف، و 47 - طه أيضاً.
والأمر الذي لا ينسجم مع هذا التّفسير، هو أن جملة (أدّوا) تستعمل عادة في أداء الأموال والأمانات والتكاليف، لا في مورد إيداع الأشخاص، ويتّضح هذا الموضوع جيداً بملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة.
وعلى أية حال، فإنّه يضيف في بقية الآية (إنّي لكم رسول أمين) وذلك لنفي كل اتهام عن نفسه.
إنّ هذا التعبير - في الحقيقة - داحض للإتهامات الباطلة التي ألصقها به الفراعنة، كالسحر، والسعي إلى التفوق واستلام الحكم في أرض مصر، وطرد أصحابها الأصليين، والتي أشير إليها في الآيات المختلفة.
ثمّ يقول لهم موسى (ع) بعد أن دعاهم إلى طاعة الله سبحانه، أو إطلاق سراح بني إسرائيل وتحريرهم: إنّ مهمّتي الأُخرى أن أقول لكم: (وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين) معجزاته بينة، وأدلته منطقية واضحة.
والمراد من عدم العلو على الله سبحانه، هو عدم القيام بأي عمل لا ينسجم مع أصول العبودية، من المخالفة والتمرد، وحتى إيذاء رسل الله، أو ادعاء الألوهية وأمثال ذلك.
ولما كان المستكبرون وعبيد الدنيا لا يدعون أي تهمة وافتراء، إلاّ وألصقوهما بمن يرونه مخالفاً لمنافعهم ومصالحهم اللامشروعة بل لا يتورعون حتى عن قتله وإعدامه، لذا فإنّ موسى (ع) يضيف للحد من مسلكهم هذا (وإنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون).
إنّ هذا التعبير لعله إشارة إلى أنّي لا أخاف تهديداتكم، وسأصمد حتى آخر نفس، والله حافظي وحارسي، وكانت مثل هذه التعبيرات تمنح القادة الإِلهيين حزماً أكبر في دعوتهم، وتزيد في انهيار إرادة الأعداء ومعنوياتهم، وتزيد من جانب آخر ثبات المحبين والمؤمنين واستقامتهم، لأنّهم يعلمون أن إمامهم وقائدهم يقاوم حتى اللحظات الأخيرة.
وربّما كان التأكيد على مسألة الرجم من جهة أن كثيراً من رسل الله قبل موسى (ع) قد هددوا بالرجم، ومن جملتهم نوح (ع) (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) (4).
وكذلك الحال بالنسبة إلى إبراهيم (ع) لما هدده آزر وقال له: (لئن لم تنته لأرجمنك) (5)، وشعيب لما هدده الوثنيون قالوا له: (ولو لا رهطك لرجمناك) (6).
أمّا اختيار الرجم من بين أنواع القتل، فلأنّه أشدّها جميعاً.
وعلى قول بعض أرباب اللغة فإن هذه الكلمة جاءت بمعنى مطلق القتل أيضاً.(7)
واحتمل كثير من المفسّرين أن يكون الرجم بمعنى الإِتهام وإساءة الكلام، لأن هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى أيضاً.
وكانت هذه الإستعاذة في الحقيقة مانعاً من تأثير التهم التي اتهموا بها موسى فيما بعد.
ويمكن أن تكون هذه الكلمة قد استعملت في معناها الواسع الذي يشمل كلا المعنيين.
وتخاطب الآية الأخيرة هؤلاء القوم فتقول: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) لأن موسى (ع) كان واثقاً من نفوذه بين أوساط الناس، ومختلف طبقاتهم، بامتلاكه تلك المعجزات الباهرات، والأدلة القوية، والسلطان المبين، وأن ثورته ستؤتي أكلها بعد حين، ولذلك كان يرضى من هؤلاء القوم أن يتنحوا عن طريقه ولا يكونوا حاجزاً بينه و بين الناس.
لكن، هل يمكن أن يهدأ هؤلاء الجبابرة المغرورون وهم يرون الخطر يهدد مصالحهم وثرواتهم اللامشروعة، ويقبلوا مثل هذا الاقتراح ويدعوا موسى وشأنه؟الآيات الآتية كفيلة بأن تبيّن تتمة هذه الأحاديث.
1- يقول الراغب في المفردات: الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه، نحو قوله: (إن ربّي غني كريم) وإذا وصف ربّه الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه. ولقد ورد هذا الوصف لأمور أخرى أيضاً القرآن المجيد، مثل: كتاب كريم، كل زوج كريم، رزق كريم مقام كريم، أجر كريم.
2- "أن" في جملة: (أن أدوا إليّ عباد الله) تفسير لفعل مقدر يفهم من الكلام السابق، والتقدير: (جئتكم أن أدّوا إليّ عبادالله).
3- كالآية 17 - الفرقان، و 13 - سبأ، و 58 - الفرقان، وغيرها.
4- الشعراء، الآية 116.
5- مريم، الآية 46.
6- هود، الآية 91.
7- لسان العرب، ماده رجم.