الآيات 86 - 89
﴿وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَـعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِن سَألْتَهُم مَّن خَلَقهُمْ لَيقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَـرَبِّ إِنَّ هَـؤُلآءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ (88) فاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)﴾
التّفسير
من يملك الشفاعة؟
لا زال الحديث في هذه الآيات - وهي آخر آيات سورة الزخرف - حول إبطال عقيدة الشرك وتفنيدها، وعاقبة المشركين المُرّة، وهي توضح بطلان عقيدتهم بدلائل أُخرى.
تقول الآية الأولى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) فلا تقام الشفاعة عند الله إلاّ بإذنه، ولم يأذن الله الحكيم بها لهذه الأحجار والأخشاب التي لا قيمة لها، والفاقدة للعقل والشعور والإِدراك مطلقاً.
لكن لما كانت الملائكة وأمثالها من بين آلهة هؤلاء، فقد استثنوا في ذيل الآية، فقالت: (إلاّ من شهد بالحق) وهم الذين أسلموا لوحدانية الله سبحانه في جميع المراحل، وأذعنوا لها.
نعم، هؤلاء هم الذين يشفعون بإذن الله تعالى.
لكن ليس الأمر كما تتوهمون أنّهم يشفعون لأي كان، حتى وإن كان وثنياً ومشركاً ومنحرفاً عن طريق التوحيد وضالاً عن الصراط المستقيم، بل (وهم يعلمون) جيداً لمن يشفعون.
وعلى هذا فإنّهم يقطعون الأمل من شفاعة الملائكة لسببين:
الأوّل: أنّها كانت بنفسها تقرّ بوحدانية الله وتشهد بها، ولذلك حصلت على إذن الشفاعة.
والآخر: أنهم يعرفون جيداً من له أهلية الشفاعة ومستحقها (1).
واعتبر البعض جملة (وهم يعلمون) مكملة لجملة (إلاّ من شهد بالحق) وعلى هذا يصبح معنى الآية: إن الذين يشهدون بالتوحيد ويعلمون حقيقته هم الذين يملكون حق الشفاعة فقط.
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.
وعلى أية حال، فإن هذه الآية تبيّن الشرط الأساس الذي ينبغي توفره في الشفعاء عند الله تعالى، وهم الشاهدون بالحق، والعالمون به على الدوام والمحيطون بروح التوحيد جيداً، وهم كذلك عالمون بأحوال المشفوع لهم وأوضاعهم.
ثمّ تدين المشركين من أفواههم، وتجيبهم جواباً قاطعاً، فتول: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله).
لقد قلنا مراراً إن من النادر أن يوجد من بين مشركي العرب وغيرهم من يعتقد أن الأصنام هي الخالقة لهم، فإنّ الأعم الأغلب منهم يعتبرون الأصنام وسائط وشفعاء يقربونهم إلى الله زلفى، أو أنها دلائل وعلامات لأولياء الله المقدسين، ثمّ يضمون إليها ذريعة أن معبودنا يجب أن يكون موجوداً ملموساً ومحسوساً لنأنس به، فيعبدونها، ولذا فإنّهم متى ما سئلوا عن خالقهم فسيقولون: الله.
وقد ذكّر القرآن مراراً بحقيقة أن العبادة لا تليق إلاّ بخالق هذا الكون ومدبره، وإذا كنتم تعلمون أن الله هو الخالق والمدبر، فلم يبق لكم إلاّ أن تقصروا عبادتكم عليه، وتخصوه بها.
ولذلك فإنّ الآية تقول في نهايتها (فأنى تؤفكون) وهو لوم وتوبيخ لهم... فإنّكم إذا علمتم حقيقة الأمر فلم تعرضون عن الله وتعبدون غيره؟
وتحدثت الآية التالية عن شكوى النّبي (ص) إلى الله سبحانه من هؤلاء القوم المتعصبين الذين لا منطق لديهم، فقالت: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون).
إنّه يقول: لقد تحدثت مع هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، فأتيتهم من طريق التبشير والإِنذار، وذكرت لهم قصص الأقوام الماضين المؤلمة، وحذرتهم من عذابك، ورغبتهم في رحمتك إن هم رجعوا عن طريق الضلال، وخلاصة القول: إنّي أبلغتهم الأمر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وقلت كل ما ينبغي أن يقال، إلاّ أن حرارة كلامي لم تؤثر في برودة قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، فلم يؤمنوا (2).
ويأمر الله سبحانه نبيّه في آخر آية أن (فاصفح عنهم) ولا يكن إعراضك عنهم إعراض افتراق وغضب وأذى وجرح للمشاعر، بل أعرض عنهم (وقل سلام) لا سلام تحية ومحبّة، بل سلام وداع وافتراق.
إنّ هذا السلام يشبه ذلك السلام الذي ورد في الآية (63) من سورة الفرقان: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) سلام هو علامة اللامبالاة بهم ممتزجةً بالعلوّ والعزة.
ومع ذلك فإنّه تعالى يهددهم ويحذرهم بجملة عميقة المعنى، لئلا يتصوروا أن الله تاركهم بعد هذا الفراق والوداع، فيقول: (فسوف يعلمون).
نعم، سوف يعلمون أي نار محرقة قد أوقدوها لأنفسهم بعنادهم، وأي عذاب أليم قد هيأوا أسبابه ليطالهم فيما بعد؟
وقد ذكر البعض سبب نزول الآية (ولا يملك الذين يدعون...) وهو: أن "النضر بن الحارث" ونفراً من قريش قالوا: إنّ كان ما يقوله محمّد حقاً، فلا حاجة لنا بشاعته، فإننا نحبّ الملائكة وهم أولياؤنا، وهم أحق بالشفاعة، فنزلت هذه الآية ونبهتهم على أن الملائكة لا تشفع يوم القيامة إلاّ لمن يشهدون بالحق، أي للمؤمنين.
وهنا تنتهي سورة الزخرف.
اللّهم، قربنا منك ومن أوليائك يوماً بعد يوم، وزدنا حباً لك ولهم حتى تنالنا شفاعتهم.
اللّهم، احفظنا من كل شرك خفي وجلي.
إلهنا، قد وصفت يوم القيامة في كتابك بصفات مهولة ومفزعة وتجعل الناس سكارى وما هم بسكارى...
اللهم فعاملنا بفضلك في ذلك اليوم ولا تعاملنا بعدلك، يا أرحم الراحمين.
آمين ربّ العالمين
نهاية سورة الزخرف
1- طبقاً لهذا التّفسير فإن استثناء (إلاّ من شهد بالحق) استثناء متصل، لكنه يصبح منقطعاً فيما إذا كان المراد من جملة (الذين يدعون من دونه الشفاعة) خصوص الأصنام. لكن يبدو أن المعنى الأوّل هو الأنسب، خاصة بملاحظة (الذين) وهي للعاقل، أو التغليب من العاقل وغير العاقل.
2- هنا اختلاف كبير بين المفسّرين في أن (قيله) معطوفة على ماذا؟ فالبعض يعتقد أنها معطوفة على الساعة التي مرت قبل ثلاث آيات، وعلى هذا يصبح معنى الجملة: إنّ الله عنده علم الساعة، وشكوى النّبي من الكفار.
والبعض الآخر اعتبرها معطوفة على (علم الساعة) بشرط أن تكون (علم) مقدرة قبل (قيله) كمضاف محذوف. وهو لا يختلف كثيراً عن التّفسير الأول.
واعتبر جماعة الواو واو القسم. وهناك احتمالات أُخرى لو ذكرناها هنا لطال بنا المقام.
وهنا احتمال آخر لعله أفضل من كل ما قيل في هذا الباب، وهو أنّها معطوفة على محذوف جملة: (انى يؤفكون)، وتقدير ذلك: (أنى يؤفكون عن عبادته وعن قيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون).