الآيات 81 - 85

﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَـبِدِينَ (81) سُبْحَـنَ رَبِّ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَـقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـهٌ وَفِى الأرْضِ إِلَـهٌ وَهُوَ الْحَكيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَـوتِ والأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)﴾

التّفسير

ذرهم في خوضهم يلعبون:

لما كان البحث في الآيات السابقة - وخاصة في بداية السورة - عن مشركي العرب واعتقادهم بأنّ لله ولداً، وأنّهم كانوا يظنون الملائكة بنات الله، ولما مر البحث في عدة آيات مضت عن المسيح (ع) ودعوته إلى الوحدانية الخالصة والعبودية لله وحده، فقد ورد البحث في هذه الآيات في نفي هذه العقائد الفاسدة عن طريق آخر.

تقول الآية: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) لأن ايماني بالله أقوى من ايمانكم جميعاً، ومعرفتي به أكبر، وعليه فيجب أن أعظّم ولده وأطيعه قبلكم.

وبالرغم من أنّ مضمون هذه الآية بدا معقداً لجماعة من المفسّرين، فذكروا توجيهات مختلفة له كان بعضها عجيباً جدّاً (1)، لكن لا يوجد في الواقع أي تعقيد في محتوى الآية، وهذا الأسلوب الرائع يستعمل مع الأفراد العنودين المتعصبين، كما لو قال شخص: إن فلاناً أعلم من الجميع، في حين أنّه لا يعلم شيئاً، فيقال له: إذا كان هو الأعلم فأنا أوّل من يتبعه، وذلك ليبذل القائل جهده في البحث عن دليل يدعم به مدعاه، وعندما يصطدم بصخرة الواقع يستيقظ من غفلته.

غاية ما في الأمر أنّ هناك نكتتين يجب الإِلتفات إليهما:

الأولى: أنّ العبادة لا تعني العبادة في كل الموارد، فقد تأتي أحياناً بمعنى الطاعة والتعظيم والإِحترام، وهي هنا بهذا المعنى، فعلى فرض أن لله ولداً - وهو فرض محال - فلا دليل على عبادته، لكنّه لما كان - طبقاً لهذا الفرض - ابن الله فيجب أن يكون مورد احترام وتقدير وطاعة.

والأُخرى: أنّ (لو) تستعمل بدل (أن) في مثل هذه الموارد عادة في أدب العرب، وهي تدل على كون الشيء مستحيلاً، وإنّما لم تستعمل في الآية - مورد البحث - مماشاة وانسجاماً في الكلام مع الطرف المقابل.

وعلى هذا، فإنّ النّبي الأكرم (ص) يقول: لو كان لله ولد لبادرت قبلكم إلى احترامه وتعظيمه، ليطمئن هؤلاء من إستحالة أن يكون لله ولد.

بعد هذا الكلام ذكرت الآية دليلاً واضحاً على نفي هذه الادعاءات، فقالت:

(سبحان ربّ السماوات والأرض ربّ العرش عما يصفون) فإنّ من كان مالكاً للسماوات والأرض ومدبراً لها، وربّاً للعرش العظيم، لا يحتاج إلى الولد، فهو الوجود اللامتناهي، والمحيط بكل عالم الوجود، ومربي كل عالم الخلقة، بل يحتاج الولد من يموت، ولا يستمر وجوده إلاّ عن طريق الولد.

الولد لازم لمن يحتاج العون والأنس في وقت العجز والوحدة.

وأخيراً فإن وجود الولد دليل على الجسمانية والانحصار في حيّز الزمان والمكان.

إنّ ربّ العرش، والسماء والأرض، والمنزّه عن كل هذه الأُمور، غني عن الولد.

والتعبير بـ (رب العرش) بعد (رب السماوات والأرض) من قبيل ذكر العام بعد الخاص، لأنّ العرش - وكما قلنا سابقاً - يقال لمجموع عالم الوجود، والذي هو عرش حكومة الله عزَّ وجلّ.

ويحتمل أيضاً أن يكون العرش إشارة إلى عالم ما وراء الطبيعة، فيكون في مقابل السماوات والأرض التي تشير إلى عالم المادة.

لمزيد الإِطلاع على معنى العرش، راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (255) من سورة البقرة، وأوسع منه ما جاء في ذيل الآية (7) من سورة المؤمن.

ثمّ تضيف الآية الأُخرى كاحتقار لهؤلاء المعاندين وتهديد لهم، وهو بحد ذاته أسلوب آخر من أساليب البحث مع أمثال هؤلاء الأفراد (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) ليجنوا عاقبة أعمالهم، وليذوقوا وبال أمرهم.

من الواضح أن المراد من هذا اليوم الموعود هو يوم القيامة، وما احتمله البعض من أن المراد هو لحظة الموت فيبدوا بعيداً جدّاً، لأنّ الجزاء على الأعمال يكون في يوم القيامة لا في لحظة الموت.

إنّه نفس اليوم الموعود الذي أقسمَ الله تعالى به في الآية (2) من سورة البروج، حيث تقول الآية: (واليوم الموعود).

وتواصل الآيتان التاليتان البحث حول مسألة التوحيد، وهما تشكلان نتيجة للآيات السابقة من جهة، ومن جهة أُخرى دليلاً لتكملتها وإثباتها.

وفيهما سبع من صفات الله سبحانه، ولجميعها أثر في تحكيم وتقوية مباني التوحيد.

فتقف الآية الأولى بوجه المشركين الذين كانوا يعتقدون بانفصال إله السماء عن إله الأرض، بل ابتدعوا للبحر إلهاً، وللصحراء إلهاً وآخر للحرب، ورابعاً للصلح والسلم، وآلهة مختلفة ومتعددة بتعدد الموجودات، فتقول: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) لأنّ كونه إلهاً في السماء والأرض يثبت كونه ربّاً ومعبوداً فيهما - وقد مرّ ذلك في الآيات السابقة - لأنّ المعبود الحقيقي هو ربّ العالم ومدبره، لا الأرباب المختلفة، ولا الملائكة، ولا المسيح ولا الأصنام، فكلها ليست أهلاً لأن تكون أرباباً وآلهة، إذ ليس لها مقام الربوبية، فكلها مخلوقة في أنفسها ومربوبة، وتتمتع بأرزاق الله، وكلها تعبده سبحانه.

وتقول في الصفتين الثّانية والثّالثة (وهو الحكيم العليم) فكل أعماله تقوم على أساس الدقّة والحساب والنظم، وهو عليم بكل شيء ومحيط به، وبذلك فإنّه يعلم أعمال العباد جيداً، ويجازيهم عليها طبقاً لحكمته.

وتتحدث الآية الثانية في الصفتين الرابعة والخامسة، بركات وجوده الدائمة الوفيرة، وعن امتلاكه السماء والأرض وما بينهما، فتقول: (تبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما).

"تبارك" من مادة بركة، وتعني امتلاك النعمة الوفيرة، أو الثبات والبقاء، أو كليهما، وكلاهما يصدقان في شأن الله تعالى، فإنّ وجوده باق وخالد، وهو مصدر النعم الكثيرة.

وليس للخير الكثير كمال المعنى إذا لم يكن ثابتاً وباقياً، فإنّ الخيرات مهما كانت كثيرة، فهي تعد قليلة إذا كانت مؤقتة وسريعة الزوال.

وتضيف في الصفتين السّادسة والسّابعة: (وعنده علم الساعة وإليه ترجعون) وعلى هذا فإذا أردتم الخير والبركة فاطلبوها منه لا من الأصنام، فإن مصائركم إليه يوم القيامة، وهو المرجع الوحيد لكم، وبيده كل شيء، وليس للأصنام والآلهة أي دور في هذه الأُمور.

ملاحظات

1 - لقد تكررت (السماوات والأرض) في هذه الآيات ثلاث مرات: مرّة لبيان كون الله ربّاً ومدبراً لهما، وأُخرى في كونه إلهاً فيهما، وثالثة في كونه مالكاً وحاكماً، وهذه الأُمور الثلاثة مترابطة ببعضها، وهي في الحقيقة علة ومعلول لبعضها البعض، فهو مالك، ولذلك فهو ربّ، وهو في النتيجة إله. ووصفه بالحكيم والعليم إكمال لهذه المعاني.

2 - يستفاد من بعض الرّوايات الإِسلامية أن تعبير الآيات المذكورة بـ (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) كان قد أصبح وسيلة لبعض الزنادقة والمشركين لإثبات مدعاهم، وكانوا يفسّرون الآية - حسب سفسطتهم - بأن في السماء إلهاً، وفي الأرض إلهاً آخر غيره، في حين أنّ الآية تقول بعكس ذلك، فهي تقول: إنّه الإِله الذي يعبد في السماء وفي الأرض، أي إنّه تعالى هو المعبود في كل مكان.

ومع ذلك، فإنّ الزنادقة عندما كانوا يطرحون هذا المطلب كسؤال أمام الأئمّة المعصومين، فإنّهم (ع) كانوا يجيبونهم على طريقة النقض والحل:

فمن جملة ذلك ما ورد في الكافي عن هشام بن الحكم، أنّه قال: قال أبو شاكر الديصاني (2): إن في القرآن آية هي قولنا، قلت: ما هي؟ قال: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) فلم أدر بما أجيبه.

فحججت فخبرت أبا عبدالله (ع)، فقال: "هذا كلام زنديق خبيث، إذا رجعت إليه فقل له: ما اسمك بالكوفة؟ فإنّه يقول: فلان، فقل له: ما اسمك في البصرة؟ فإنّه يقول: فلان، فقل: كذلك الله ربّنا، في السماء إله، وفي الأرض إله، وفي البحار إله، وفي القفار إله، وفي كل مكان إله".

قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته، فقال: هذه نقلت من الحجاز (3).

وذكر المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي لتكرار لفظ الإِله، في هذه الآية علتين:

إحداهما: التأكيد على كون الله تعالى إلهاً في كل مكان.

والأُخرى: أنه إشارة إلى أن ملائكة السماء تعبده، والبشر في الأرض يعبدونه أيضاً، وعلى هذا فإنه إله الملائكة وبني آدم وكل الموجودات في السماوات والأرض.


1- فمثلاً: إن بعض المفسّرين قد فسّر (إن) هنا بمعنى النفي، و(أنا أول العابدين) بمعنى أول من عبد الله، وعلى هذا التّفسير فإن معنى الآية يصبح: لا ولد لله أبداً، وأنا أوّل من عبد لله!

وفسر البعض الآخر (العابدين) بالذي يأبى العبادة، وعلى هذا يكون المعنى: إن كان لله ولد فإني سوف لا أعبد مثل هذا الرب أبداً، لأنه بأبوته لا يمكن أن يكون رباً.

وواضح أن مثل هذه التفاسير لا تنسجم مع ظاهر الآية بأي وجه من الوجوه.

2- كان أبوشاكر الديصاني أحد علماء فرقة الديصانية، الذين كانوا يعتقدون بعبادة إلهين، ويقولون بإله النور وإله الظلمة. (لغت نامه دهخدا مادة ديصان).

3- أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب الحركة والإنتقال حديث 10.