الآيات 70 - 73
﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَاف مِّن ذَهَب وَأَكْوَاب وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـلِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَـكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ (73)﴾
التّفسير
فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين:
تبيّن هذه الآيات جزاء عباد الله المخلصين، والمؤمنين الصالحين الذين مرّ وصفهم في الآيات السابقة، وتبشرهم بالجنّة الخالدة مع ذكر سبع نعم من نعمها النفيسة الغالية.
تقول أوّلاً: (ادخلوا الجنّة) وبذلك فإنّ مضيفهم الحقيقي هو الله تعالى الذي يدعو ضيوفه ويقول لهم: أدخلوا الجنّة.
ثمّ أشارت إلى أول نعمة من تلك النعم، فقالت: (أنتم وأزواجكم) ومن الواضح أنّ كون المؤمنين الرحماء إلى جانب زوجاتهم المؤمنات يمنحهما معاً اللذة والسرور، فإذا كانا شريكين في همّ الدنيا، فإنّهما سيكونان شريكين في سرور الآخرة ونشوتها.
وقد فسّر بعضهم "الأزواج" هنا بالمتساوين في الدرجة والأصدقاء والأقارب، فلو صحَّ فوجودهم نعمة عظيمة، إلاّ أنّ ظاهر الآية هو المعنى الأوّل.
ثمّ تضيف: (تحبرون).
"تحبرون" من مادة حِبْر - وزن فكر - أي الأثر المطلوب، وتطلق أحياناً على الزينة وآثار الفرح التي تظهر على الوجه، وإذا قيل للعلماء أحبار، فلآثارهم التي تبقى بين المجتمعات البشرية، كما يقول أمير المؤمنين علي (ع): "العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة" (1).
وتقول في بيان النعمة الثالثة: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) فهم يُضافون ويخدمون بأفضل الأواني، وألذّ الأطعمة، في منتهى الهدوء والإِطمئنان والصفاء.
"الصحاف" جمع صحفة، وهي في الأصل من مادة صحف، أي التوسع، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب جمع كوب، وهي أقداح الماء التي لا عروة لها.
ومع أنّ الكلام في الآية عن الصحاف الذهبية، دون طعامهم وشرابهم، إلاّ أن من البديهي أنّ الذين يخدمونهم لا يطوفون عليهم بصحاف خالية مطلقاً.
وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين أُخريين جمعت فيهما كلّ نعم العالم المادية والمعنوية، فتقول: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين)، وعلى قول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: لو أنّ جميع الخلائق قد اجتمعت لوصف أنواع نعم الجنّة، فسوف لا يقدرون أن يضيفوا شيئاً على ما جاء في هذه الجملة أبداً.
وأي تعبير أجمل من هذا التعبير وأجمع منه؟ فهو تعبير بسعة عالم الوجود، وبسعة ما يخطر في أذهاننا اليوم وما لا يخطر، تعبير ليس فوقه تعبير.
والطريف أن مسألة شهية النفس قد بيّنت منفصلة عن لذة العين، وهذا الفصل عميق المعنى: فهل هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام، من جهة أن للذّة النظر أهمية خاصّة تفوق اللذات الأُخرى؟ أم هو من جهة أن جملة: (ما تشتهيه الأنفس) تبيّن لذات الذوق والشم والسمع واللمس، أمّا جملة: (تلذ الأعين) فهي تبيان للذة العين والنظر.
ويعتقد البعض أنّ جملة: (ما تشتهيه الأنفس) إشارة إلى كلّ اللذات الجسمية، في حين أن جملة: (تلذ الأعين) مبينة للذات الروحية، وأي لذة في الجنة أسمى من أن ينظر الإِنسان بعين القلب إلى جمال الله الذي لا يشبهه جمال، فإنّ لحظة من تلك اللحظات تفوق كل نعم الجنة المادية.
ومن البديهي أنّ شوق الحبيب كلما زاد، كانت لذة الالقاء أعظم.
سؤال:
وهنا يطرح سؤال، وهو: هل أنّ سعة عمومية مفهوم هذه الآية، دليل على أنّهم يطلبون من الله هناك أن يمنحهم أُموراً كانت حراماً في الدنيا؟
والجواب:
إنّ طرح هذا السؤال ناتج عن عدم الإِلتفات إلى نكتة، وهي أنّ المحرمات والقبائح كالغذاء المضر لروح الإِنسان، ومن المسلم أنّ الروح السالمة الصحيحة لا تشتهي مثل هذا الغذاء، وتلك التي تميل أحياناً إلى السموم والأغذية المضرة هي الأرواح المريضة.
إنّنا نرى بعض المرضى يميلون حتى في حالة المرض إلى تناول التراب أو أشياء أُخرى من هذا القبيل، إلاّ أنّهم بمجرّد أن يزول عنهم المرض تزول عنهم هذه الشهية الكاذبة.
نعم، إنّ أصحاب الجنّة سوف لا يميلون أبداً إلى مثل هذه الأعمال، لأن ميل الروح وانجذابها إليها من خصائص أرواح أصحاب الجحيم المريضة.
إنّ هذا السؤال يشبه ما ورد في الحديث من أن أعرابياً أتى النّبي (ص) وقال: هل في الجنّة إبل؟ فإنّي أحبّها حبّاً جمّاً، فالتفت إليه النّبي (ص) الذي كان يعلم أن في الجنّة نعماً سينسى معها الأعرابي الابل، وأجابه بعبارة قصيرة فقال: "يا أعرابي، إن أدخلك الله الجنّة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك" (2).
وبتعبير آخر: فهناك العالم الذي ينسجم فيه الإِنسان مع الحقائق تماماً.
وعلى كل حال، لما كانت قيمة النعمة في كونها خالدة، فقد طمأنت الآية أصحاب النعيم من هذه الجهة عندما ذكرت الصفة السادسة فقالت: (وأنتم فيها خالدون) لئلاّيكدر التفكير في زوال هذه النعمة صفو عيشهم ولذّتهم، فيقلقوا من المستقبل وما يخبئه.
وهنا، من أجل أن يتّضح أن كل نعم الجنّة هذه تعطى جزاءً لا اعتباطاً وعبثاً، تضيف الآية: (وتلك الجنّة التي أورثتموها بما كنت تعملون).
والطريف في الأمر أنّ الآية تطرح مجازاة الأعمال وكون الجنّة في مقابلها من جهة، ومن جهة أُخرى تجعلها إرثاً، وهو يستعمل عادة في الموارد التي تصل فيها النعمة إلى الإِنسان من دون أن يبذل جهداً أو سعياً في تحصيلها، وهذه إشارة إلى أنّ أعمالكم هي أساس خلاصكم ونجاتكم، إلاّ أن ما تحصلون عليه إذا ما قورن بأعمالكم فهو كالشيء المجاني المعطى من قبل الله تعالى، وكالهبة حصلتم عليها بفضله.
ويعتبر البعض هذا التعبير إشارة إلى ما قلناه سابقاً من أن لكل إنسان منزلاً في الجنّة ومحلاً في الجحيم، فيرث أصحاب الجنّة منازل أصحاب النّار، ويرث أصحاب النّار أمكنة أصحاب الجنّة!
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأنسب.
والكلام في النعمة السابعة والأخيرة في ثمار الجنّة التي هي من أفضل نعم الله، فتقول الآية: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون).
لقد كانت الصحاف والأكواب بياناً لأنواع الأطعمة والأشربة في الواقع، أمّا الفواكه فلها حسابها الخاص، وقد أُشير إليه في آخر آية من هذه الآيات.
والجميل أنّها تبيّن بتعبير (منها) حقيقة أنّ فاكهة الجنّة كثيرة جدّاً بحيث لا تتناولون إلاّ جزءاً منها، وعلى هذا فإنّها لا تفنى، وأشجارها مثمرة دائماً.
وجاء في الحديث: "لا ينزع رجل في الجنّة ثمرة من ثمرها إلاّ نبت مثلها مكانها" (3).
كانت هذه بعض نعم الجنّة التي تبعث الحياة في النفوس، وهي بانتظار ذوي الإِيمان القوي البيّن، والأعمال الصالحة النبيلة.
1- نهج البلاغة، الكلمات القصار 147.
2- روح البيان، المجلد 8، صفحة 391.
3- تفسير روح البيان، الجزء 8، صفحة 192.