الآيات 66 - 69
﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ (66) الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يَـعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلآ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِئَايَـتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ (69)﴾
التّفسير
ماذا تنتظرون غير عذاب الآخرة؟
كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول عبدة الأوثان العنودين، وكذلك حول المنحرفين والمشركين في أُمّة عيسى (ع)، والآيات مورد البحث تجسد عاقبة أمرهم، يقول تعالى: (هل ينظرون إلاّ الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) ؟
لقد طرح هذا السؤال بصورة الإِستفهام الإِنكاري، وهو في الحقيقة بيان لواقع حال أمثال هؤلاء الأفراد، كما نقول في مقام ذم شخص لا يصغي إلى نصيحة ناصح، ويهيء عوامل فنائه بيده: إنّه بانتظار حتفه فقط!
والمراد من "الساعة" في هذه الآية - ككثير من آيات القرآن الأُخرى - هو يوم القيامة، لأنّ الحوادث تقع سريعة حتى كأنّها تحدث في ساعة واحدة.
وجاءت هذه الكلمة - أيضاً - بمعنى لحظة انتهاء الدنيا، ولما لم يكن بين هذين المعنيين كبير فرق، فمن الممكن أن يكون هذا التعبير شاملاً لكلا المعنيين.
وعلى أية حال، فقد وصف قيام الساعة، الذي يبدأ بانتهاء الدنيا المفاجىء، بوصفين في الآية أعلاه: الأوّل: كونه بغتة، والآخر: عدم علم عامة الناس بتأريخ وقوعها وحدوثها.
من الممكن أن يحدث حدث فجأة، ولكنّا نتوقع حدوثه من قبل، ونكون على استعداد لمواجهة المشاكل التي تنجم عنه، إلاّ أن سوء الحظ والتعاسة في أن تقع فاجعة قاسية وصعبة جدّاً، بصورة مفاجئة ونحن غافلون عنها تماماً.
هكذا بالضبط حال المجرمين، فهم يؤخذون وهم في غفلة تامة، بحيث تصور الروايات الواردة عن نبيّ الإِسلام الأكرم (ص) ذلك فتقول: "تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعجة، والرجلان يطويان الثوب، ثمّ قرأ (ص): (هل ينظرون إلاّ الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) " (1).
وأي شيء آلم من أن يكون الإِنسان غافلاً أمام مثل هذه الحادثة التي ليس فيها أي طريق أو منفذ للرجوع والخلاص، ويغرق في أمواجها من دون أن يكون مُعِدّاً لمستلزمات النجاة؟
ثمّ رفعت الآية الغطاء عن حالة الأخلاء الذين يودّ بعضهم بعضاً، ويسيرون معاً في طريق المعصية والفساد، والإِغترار بزخارف الدنيا، فتقول: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتقين) (2).
إن هذه الآية التي تصف مشهداً من مشاهد القيامة، تبيّن بوضوح أنّ المراد من الساعة في الآية السابقة هو يوم القيامة أيضاً، اليوم الذي تنفصم فيه عرى العلاقات الأخوية والصداقة والرفقة، إلاّ العلاقات التي قامت لله وفي الله وباسمه.
إن تبدل مثل هذه المودة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعي، لأنّ كلاً منهم يرى صاحبه أساس تعاسته وسوء عاقبته، فأنت الذي دللتني على هذا الطريق ودعوتني إليه، وأنت الذي زينت الدنيا في نظري ورغبتني فيها وأطمعتني.
نعم، أنت الذي أغرقتني في بحر الغفلة والغرور، وجعلتني جاهلاً بمصيري، غافلاً عنه.
وهكذا يقول كل واحد منهم لصاحبه مثل هذه المطالب، إلاّ المتقين الذين تبقى روابط أخوتهم، وأواصر مودّتهم خالدة، لأنّها تدور حول محور القيم والمعايير الخالدة، وتتّضح نتائجها المثمرة في عرصة القيامة أكثر، فتمنحها قوّة إلى قوّتها.
من الطبيعي أنّ الأخلاء يعين بعضهم بعضاً في أُمور الحياة، فإن كانت خلتهم على أساس الشرّ والفساد، فهم شركاء في الذنب والجريمة، وإن كانت على أساس الخير والصلاح فهم شركاء في الثواب والعطية، وعلى هذا فلا مجال للعجب من أن يتبدل الخليل من القسم الأوّل إلى عدوّ، ومن القسم الثّاني إلى خليل يشتد حبّه ومودّته أكثر من ذي قبل.
يقول الإِمام الصادق (ع): "ألا كل خُلّة كانت في الدنيا في غير الله عزَّ وجلّ فإنّها تصير عداوة يوم القيامة" (3).
والآية التالية - في الحقيقة - تبيان لأوصاف المتقين وأحوالهم، وبيان لعاقبتهم التي تبعث على الفخر والإِعتزاز.
في ذلك اليوم العصيب يقول لهم الله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون).
كم هو جميل هذا النداء؟! نداء مباشر من الله سبحانه من دون واسطة توصله... نداء يبدأ بأحسن الصفات: يا عباد الله! نداء يزيل قلق الإِنسان في يوم ليس فيه إلاّ القلق والإِضطراب... نداء يطهر القلب من غم الماضي وحزنه، وينقيه... نعم، لهذا النداء هذه المزايا الأربعة المذكورة.
وتبيّن آخر آية - من هذه الآيات - هؤلاء المتقين والعباد المكرمين بصورة أكثر وضوحاً، بذكر جملتين أُخريين، فتقول: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين).
أجل، هؤلاء هم الذين يخاطبون بمثل هذا الخطاب العظيم، ويسبحون في تلك النعم.
إن هاتين الجملتين تعريف بليغ باعتقادات هؤلاء وأعمالهم، فهما تبينان إيمانهم الذي هو أساس عقيدتهم الثابت، وتبينان إسلامهم في تسليمهم لأمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.
1- تفسير روح البيان، المجلد 25، صفحة 89.
2- "الأخلاء" جمع (خليل) - من مادة خلة - بمعنى المودّة والمحبّة، وأصلها من الخلل - على وزن شرف - أي الفاصلة بين جسمين، ولما كانت المحبة والصداقة كأنّها تنفذ في أعماق القلب وثناياه، فقد استعملت فيها هذه الكلمة.
3- تفسير علي بن إبراهيم، طبق نقل نور الثقلين، ج 4، صفحة 612.