الآيات 63 - 65
﴿وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَـتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْم أَلِيم (65)﴾
التّفسير
الذين غالوا في المسيح:
مرت الإِشارة إلى جانب من خصائص حياة المسيح (ع) في الآيات السابقة، وتكمل هذه الآيات ذلك البحث، وتؤكّد بالخصوص على دعوة المسيح إلى التوحيد الخالص، ونفي كل شكل من أشكال الشرك.
تقول الآية أوّلاً: (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) وبهذا فقد كانت "البينات" - أي آيات الله والمعجزات - رأسمال عيسى، إذ كانت تبين حقانيته من جانب، وتبين من جانب آخر الحقائق المرتبطة بالمبدأ والمعاد واحتياجات حياة البشر.
ويصف عيسى (ع) محتوى دعوته بـ "الحكمة" في عبارته، ونحن نعلم أن أساس الحكمة هو المنع من شيء بقصد إصلاحه، ثمّ أُطلقت على كل العقائد الحقّة، وبرامج الحياة الصحيحة التي تصون الإِنسان من أنواع الإِنحراف في العقيدة والعمل، وتتناول تهذيب نفسه وأخلاقه، وعلى هذا فإن للحكمة هنا معنى واسعاً يشمل "الحكمة العلمية" و"الحكمة العملية".
ولهذه الحكمة - إضافة إلى ما مرّ - هدف آخر، وهو رفع الإِختلافات التي تخلّ بنظام المجتمع، وتجعل الناس حيارى مضطربين، ولهذا السبب نرى المسيح (ع) يؤكّد على هذه المسألة.
وهنا يطرح سؤال التفت إليه أغلب المفسّرين، وهو: لماذا يقول: (قد جئتكم بالحكمة ولأُبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) ولم لا يبيّن الجميع؟
وقد ذكرت أجوبة عديدة لهذا السؤال، وأنسبها هو:
إنّ الإِختلافات التي بين الناس نوعان: منها ما يكون مؤثراً في مصيرهم من الناحية العقائدية والعملية، ومنها ما يكون في الأُمور غير المصيرية، كالنظريات المختلفة حول نشأة المنظومة الشمسية والسماوات، وكيفية الأفلاك والنجوم، وماهية روح الإِنسان، وحقيقة الحياة، وأمثال ذلك.
ومن الواضح أنّ الأنبياء مكلّفون أن ينهوا الإِختلافات من النوع الأوّل ويقتلعوها بواسطة تبيان الحقائق، ولكنّهم غير مكلّفين برفع أي اختلاف كان حتى وإن لم يكن له تأثير في مصير الإِنسان مطلقاً.
ويحتمل أيضاً أن تبيان بعض الإِختلافات نتيجة وغاية لدعوة الأنبياء، أي إنّهم سيوفقون أخيراً في حل بعض هذه الإِختلافات، أمّا حلّ جميع الإِختلافات في الدنيا فإنّه أمر غير ممكن، ولذلك تبيّن آيات متعددة من القرآن المجيد أن أحد خصائص القيامة هو ارتفاع كل الإِختلافات وانتهاؤها، فنقرأ في الآية (92) من سورة النحل: (وليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون).
وقد جاء هذا المعنى في الآيات، 55 - آل عمران، 48 - المائدة، 164 - الأنعام، 69 - الحج، وغيرها (1).
وتضيف الآية في النهاية: (فاتقوا الله وأطيعون).
بعد ذلك، ومن أجل أن ترفع كل نوع من الإِبهام في مسألة عبوديته، تقول الآية: (إنّ الله هو ربّي وربّكم).
الملفت للإِنتباه تكرار كلمة "الرب" مرّتين في هذه الآية، مرّة في حقّه، وأُخرى في حق الناس، ليويضح للناس أنّي وإيّاكم متساوون، وربّي وربّكم واحد.
وأنا مثلكم محتاج في كل وجودي إلى الخالق المدبر، فهو مالكي ودليلي.
وللتأكيد أكثر يضيف: (فاعبدوه) إذ لا يستحق العبادة غيره، ولا تليق إلاّ به، فهو الرب والكل مربوبون، وهو المالك والكل مملوكون.
ثمّ يؤكّد كلامه بجملة أُخرى حتى لا تبقى لمتذرع ذريعة، فيقول: (هذا صرط مستقيم) (2).
نعم، إنّ الصراط المستقيم هو طريق العبودية لله سبحانه... ذلك الطريق الذي لا إنحراف فيه ولا اعوجاج، كما جاء في الآية (61) من سورة يس: (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم).
لكن العجب أن يختلف أقوام من بعده مع كل هذه التأكيدات: (فاختلف الأحزاب من بينهم) (3):
فالبعض ذهب إلى أنّه الرب الذي نزل إلى الأرض!
وبعض آخر اعتبره ابن ربّه.
وآخرون بأنّه أحد الأقانيم الثلاثة (الذوات المقدسة الثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس).
وهناك فئة قليلة فقط هم الذين اعتبروه عبدالله ورسوله، غير أن عقيدة الأغلبية هي التي هيمنت، وعمت مسألة التثليث والآلهة الثلاثة عالم المسيحية.
وقد نقل في هذا الباب حديث تاريخي جميل أوردناه في ذيل الآية (36) من سورة مريم.
ويحتمل أيضاً في تفسير الآية، أنّ هذا الإِختلاف لم يكن بين المسيحيين وحسب، بل حدث بين اليهود والنصارى في المسيح، فغالى أتباعه فيه، وأوصلوه إلى مقام الألوهية، في حين اتهمه وأُمَّه الطاهرة أعداؤه بأشنع الإِتهامات، وهكذا سلوك الجاهلين وعرفهم، بعضهم صوب الإِفراط، وآخرون نحو التفريط، أو هم - على حد تعبير أمير المؤمنين علي (ع) - بين محب غال وبين مبغض قال، حيث يقول (ع): "هلك فيّ رجلان: محب غال، ومبغض قال" (4)!
وكم هي متشابهة أحوال هذين العظيمين!
وهددهم الله سبحانه في نهاية الآية بعذاب يوم القيامة الأليم، فقال: (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) (5).
نعم، إنّ يوم القيامة يوم أليم، فطول حسابه أليم، وعقوباته أليمة، وحسرته وغمه أليمان، وخزيه وفضيحته أليمان أيضاً.
1- قال بعض آخر من المفسّرين: إن (بعض) هنا بمعنى الكل، أو أن التعبير بـ (بعض الذي تختلفون فيه) إضافة موصوف إلى الصفة، أو أن هذا التعبير إشارة إلى أنّي أبيّن لكم أُمور الدين وحسب، لا اختلافاتكم في أمر الدنيا. إلاّ أن أيّاً من هذه التفاسير لا يستحق الإِهتمام.
2- ورد نظير هذه الآية بتفاوت يسير في سورة مريم - 36، وسورة الأنعام - 51، وتكرار هذا المعنى تأكيد على أن عيسى (عليه السلام) قد أتمّ الحجة على جميع هؤلاء في مورد عبوديته وكونه عبداً لله سبحانه.
3- الضمير في (بينهم) يعود إلى الذين خاطبهم المسيح (عليه السلام) في الآية السابقة، ودعاهم إلى عبودية الله سبحانه.
4- نهج البلاغة. الكلمات القصار: 117.
5- ينبغي الإنتباه إلى أن (أليم) صفة لليوم لا للعذاب.