الآيات 57 - 62

﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُواْ ءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَـهُ مَثَلاً لِّبَنِى إِسْرءِيلَ (59) وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُم مَّلَـئِكَةً فِى الأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَـذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلاَيَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـنُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (62)﴾

سبب النّزول

جاء في سيرة ابن هشام: "وجلس رسول الله (ص) يوماً - فيما بلغني - مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله (ص) فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله (ص) حتى أفحمه ثمّ تلا عليه وعليهم: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون...).

ثمّ قام رسول الله (ص)، وأقبل عبدالله بن الزبعري السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً وما قعد، وقد زعم محمّد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبدالله: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمّداً: أكلُّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد عيسى بن مريم (عليهما السلام)، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبدالله بن الزّبعري، ورأوا أنّه قد احتجّ وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله (ص) من قول ابن الزبعري، فقال رسول الله (ص): "إن كل من أحبّ أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنّهم إنّما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته" (1).

فنزلت الآية الشريفة (101) من سورة الأنبياء: (إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أُولئك عنها مبعدون) وكذلك نزلت الآية: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون).

التّفسير

أي الآلهة في جهنم؟

تتحدث هذه الآيات حول مقام عبودية المسيح (ع)، ونفي مقولة المشركين بألوهيته وألوهية الأصنام، وهي تكملة للبحوث التي مرت في الآيات السابقة حول دعوة موسى ومحاربته للوثنية الفرعونية، وتحذير لمشركي عصر النّبي (ص) وكل مشركي العالم.

وبالرغم من أنّ الآيات تتحدث بإبهام، إلاّ أنّ محتواها ليس معقّداً ولا غامضاً للقرائن الموجودة في نفس الآيات، وآيات القرآن الأُخرى، رغم التفاسير المختلفة التي ذكرها المفسّرون.

تقول الآية الأولى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون) (2).

أىّ مثل كان هذا؟ ومن الذي قاله في حقّ عيسى بن مريم؟

هذا هو السؤال الذي اختلف المفسّرون في جوابه على اقوال، إلاّ أنّ الدقّة في الآيات التالية توضح أنّ المثل كان من جانب المشركين، وضرب فيما يتعلق بالأصنام، لأنّا نقرأ في الآيات التالية: (ما ضربوه إلاّ جدلاً).

بملاحظة هذه الحقيقة، وما جاء في سبب النّزول، يتّضح أن المراد من المثل هو ما قاله المشركون استهزاء لدى سماعهم الآية الكريمة: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) (3)، وكان ما قالوه هو أن عيسى بن مريم قد كان معبوداً، فينبغي أن يكون في جهنم بحكم هذه الآية، وأي شيء أفضل من أن نكون نحن وأصنامنا مع عيسى؟! قالوا ذلك وضحكوا واستهزؤوا وسخروا!

ثمّ استمرّوا: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو)؟فإذا كان من أصحاب الجحيم، فإنّ آلهتنا ليست بأفضل منه ولا أسمى.

ولكن، اعلم أنّ هؤلاء يعلمون الحقيقة، و (ماضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون) (4).

إنّ هؤلاء يعلمون جيداً أنّ الآلهة الذين يردون جهنم هم الذين كانوا راضين بعبادة عابديهم، كفرعون الذي كان يدعوهم إلى عبادته، لا كالمسيح (ع) الذي كان ولا يزال رافضاً لعملهم هذا، ومتبرءاً منه.

بل: (إن هو إلاّ عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل) فقد كانت ولادته من غير أب آية من آيات الله، وتكلمه في المهد آية أُخرى، وكانت كل معجزة من معجزاته علامة بينة على عظمة الله سبحانه، وعلى مقام النبوّة.

لقد كان عيسى مقِراً طوال حياته بالعبودية لله، ودعا الجميع إلى عبوديته سبحانه، ولما كان موجوداً في أُمته لم يسمح لأحد بالإِنحراف عن مسير التوحيد، ولكن المسيحيين أوجدوا خرافة ألوهية المسيح، أو التثليث، بعده (5).

والطريف أن نقرأ في روايات عديدة وردت عن طريق الشيعة والسنة، أنّ النبي (ص) قال لعلي (ع): "إن فيك مثلاً من عيسى، أحبّه قوم فهلكوا فيه، وأبغضه قوم فهلكوا فيه" فقال المنافقون: أما رضي له مثلاً إلاّ عيسى، فنزل قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون).

وما قلناه متن رواية أوردها الحافظ أبو بكر بن مردويه - من علماء أهل السنة المعروفين - في كتاب المناقب.

طبقاً لنقل كشف الغمة صفحة 95.

وقد نقل جمع آخر من علماء السنة، وكبار علماء الشيعة هذه الحادثة في كتب عديدة، تارة بدون ذكر الآية أعلاه، وأُخرى مع ذكرها (6).

إنّ القرائن الموجودة في الآيات توحي بأن هذا الحديث المعروف من قبيل تطبيق المصداق، لا أنه سبب النّزول، وبتعبير آخر: فإنّ سبب نزول الآية هو قصة عيسى وقول المشركين وأصنامهم، لكن لما وقع لعلي (ع) حادث شبيه لذاك بعد ذلك القول التاريخي للنبي (ص)، فإنه (ص) تلا هذه الآية هنا ليبين أنّ هذا الحادث كان مصداقاً لذاك من جهات مختلفة.

ولئلا يتوهموا أنّ الله سبحانه محتاج لعبوديتهم، وأنّه يصر عليها، فإنّه تعالى يقول في الآية التالية: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) ملائكة تخضع لأوامر الله، ولا تعرف عملاً إلاّ طاعته وعبادته.

واختار جمع من المفسّرين تفسيراً آخر للآية، يصبح معنى الآية على أساسه: ولو نشاء لجعلنا أبناءكم ملائكة يخلفونكم في الأرض.

بناء على هذا فلا تعجبوا من أن يولد المسيح من دون أب، فإنّ الله عزَّوجلّ قادر على أن يخلق ملكاً من الإِنسان، وهو نوع يختلف عنه (7).

ولما كان تولد الملك من الإِنسان لا يبدوا مناسباً، فقد فسّره بعض كبار المفسّرين بولادة الأبناء الذين يتمتعون بصفات الملائكة، وقالوا: إن المراد: لا تعجبوا من أن تكون لعبد كالمسيح القدرة على إحياء الموتى، وإبراء المرضى بإذن الله، وهو في الوقت نفسه عبد مخلص مطيع لأمر الله، فإنّ الله قادر على أن يخلق من ابنائكم من تكون فيه كل صفات الملائكة وطبائعهم (8).

إلاّ أن التّفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية أكثر من الجميع، وهذه التفاسير بعيدة (9).

والآية التالية إشارة إلى خصيصة أُخرى من خصائص المسيح (ع) فتقول: إن عيسى سبب العلم بالساعة (وإنه لعلم للساعة) إمّا أن ولادته من غير أب دليل على قدرة الله اللامتناهية، فتحُل على ضوئها مسألة الحياة بعد الموت، أو من جهة نزول المسيح (ع) من السماء في آخر الزمان طبقاً لروايات عديدة، ونزوله هذا دليل على اقتراب قيام الساعة.

يقول جابر بن عبدالله: سمعت رسول الله (ص) يقول: "ينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم: تعال صلّ بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة من الله لهذه الأُمّة" (10).

ونقرأ في حديث آخر عن النّبي (ص) أنّه قال: "كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم" (11).

وعلى أية حال، فإنّ إطلاق (العلم) على المسيح نوع من التأكيد والمبالغة، وهو إشارة إلى أن نزوله من علامات القيامة حتماً.

واحتمل أيضاً أن يعود الضمير في (أنه) على القرآن، وعلى هذا يكون معنى الآية: إنّ نزول القرآن الذي هو آخر الكتب السماوية، دليل على اقتراب الساعة، ويخبر عن قيام القيامة.

غير أنّ الآيات السابقة واللاحقة حول عيسى تقوي التّفسير الأوّل.

ثمّ تقول الآية بعد ذلك: إن قيام الساعة حتم، ووقوعها قريب: (فلا تمترنَّ بها)

لا من حيث الإِعتقاد بها ولا من حيث الغفلة عنها.

(واتبعون هذا صراط مستقيم) وأي صراط أكثر استقامة من الذي يخبركم بالمستقبل الخطير الذي ينتظركم، ويحذركم منه، ويدلكم على طريق النجاة من أخطار يوم البعث؟!

إلاّ أن الشيطان يريد أن يبقيكم في عالم الغفلة والإِرتباط بها، فاحذروا: (ولا يصدنكم الشيطان إنّه لكم عدو مبين).

لقد أظهر عداءه لكم منذ اليوم الأوّل، مرّة عند وسوسته لأبيكم وأمكم - آدم وحواء - وإخراجهما من الجنّة، وأُخرى عندما أقسم على إضلال بني آدم وإغوائهم، إلاّ المخلَصين منهم، فكيف تخضعون أمام هكذا عدو لدود أقسم على أذاكم ودفعكم إلى الهاوية السحيقة؟ وكيف تسمحون له أن يتسلط على قلوبكم وأرواحكم، وأن يمنعكم عن طريق الحق بوساوسه المستمرة؟!


1- سيرة ابن هشام، المجلد الأوّل، صفحة 385، بتلخيص قليل.

2- "يصدون" من مادة صد، ويكسر مضارعها، وهي تعني الضحك والصراخ، وإحداث الضجيج والغوغاء، حيث يضعون يداً بيد عند السخرية والإستهزاء عادة. يراجع لسان العرب، مادة: صدد.

3- الأنبياء، الآية 98.

4- "خصمون" جمع خصم، وهو الشخص الذي يجادل ويخاصم كثيراً.

5- احتملوا في تفسير الآيات أعلاه احتمالات أُخرى، وكل منها لا يتناسب مع محتوى الآيات:

فقال البعض: إنّ المراد من المثل الذي ضربه المشركون هو أنّهم قالوا بعد ذكر المسيح وقصته في آيات القرآن: إنّ محمّداً يهيء الأرضية ليدعونا إلى عبادته، والقرآن في مقام الدفاع عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لم يكن المسيح مدعياً للألوهية، وسوف لن يدعيها هو أيضاً.

وقال البعض الآخر: إنّ المراد من المثل في الآيات المذكورة هو التشبيه الذي ذكره الله سبحانه في شأن المسيح في الآية (59) من سورة آل عمران، حيث يقول: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون)فإذا كان عيسى قد ولد من غير أب فإن ذلك لا يثير العجب، لأنّ آدم قد ولد من غير أب وأم، بل من التراب بأمر الله تعالى.

واحتمل بعض آخر أنّ المراد من المثل هو قول المشركين حيث كانوا يقولون: إذا كان النصارى يعبدون المسيح، فلماذا لا تكون آلهتنا التي هي أسمى منه، لائقة للعبادة وأهلاً لها؟

غير أنّ الإلتفات إلى الخصوصيات التي ذكرت في هذه الآيات يوضح أن أيّاً من هذه التّفسيرات الثلاثة لا يصح، لأنّ الآيات تبيّن جيداً:

أوّلاً: أنّ المثل كان من ناحية المشركين.

ثانياً: كان الموضوع قد أثار ضجة وصخباً، وكان مضحكاً بنظرهم.

ثالثاً: كان شيئاً على خلاف مقام عبودية المسيح (عليه السلام).

رابعاً: أنّه كان يحقق هدف هؤلاء، وهو الجدال في أمر كان كاذباً.

وهذه الخصائص لا تتناسب إلاّ مع ما قلناه في المتن فقط.

6- لمزيد الإطلاع راجعوا: كتاب إحقاق الحق، المجلد 3، صفحة 398 وما بعدها، تفسير نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 609 وما بعدها، وتفسير مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.

7- اختار التّفسير الأوّل، الطبرسي في مجمع البيان، والشيخ الطوسي في التبيان، وأبو الفتوح الرازي وآخرون. أما التّفسير الثّاني فقد نقله القرطبي والآلوسي في روح المعاني، والزمخشري في الكشاف، والمراغي، على أنه المعنى الوحيد للآية، أو أنّه أحد معنيين لها.

8- الميزان، ذيل الآية مورد البحث.

9- طبقاً للتفسير الأوّل، فإن (من) للبدلية، وبناء على التّفسيرين الثّاني والثّالث فإن (من) للإنشاء والإبتداء.

10- نقل هذا الحديث صاحب مجمع البيان عن صحيح مسلم في ذيل الآيات مورد البحث.

11- مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، وتفسير روح المعاني، المجلد 5، صفحة 88.