الآيات 51 - 56

﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَـقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـذِهِ الأَنْهَـرُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْ هَـذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلآ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَب أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَـئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوْا قَوْماً فَـسِقِينَ (54) فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعلْنَـهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخَرِينَ (56)﴾

التّفسير

إذا كان نبياً فلم لا يملك أسورة من ذهب؟

لقد ترك منطق موسى (ع) من جهة، ومعجزاته المختلفة من جهة أُخرى، والإِبتلاءات والمصائب التي نزلت على رؤوس أهل مصر والتي رفعت ببركة دعاء موسى (ع) من جهة ثالثة، أثراً عميقاً في ذلك المحيط، وزعزعت أفكار الناس واعتقادهم بفرعون، ووضعت كل نظامهم الإِجتماعي والديني موضع سؤال واستفسار.

هنا أراد فرعون بسفسطته ومغالطته أن يمنع نفوذ موسى (ع) عن التأثير في أفكار شعب مصر، فالتجأ إلى القيم الواهية المنحطة التي كانت حاكمة في ذلك المحيط، وقارن بينه وبين موسى (ع) من خلال هذه القيم ليبدو متفوقاً على موسى، كما يذكر ذلك القرآن الكريم حيث يقول: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون) (1).

أمّا موسى فماذا يملك؟ لا شيء سوى عصا ولباس صوف! فلمن الشأن الرفيع والمكانة السامية، له أم لي؟ أهو يقول الحق أم أنا؟ افتحوا عيونكم جيداً وتأمّلوا دقيقاً في المسألة... وبهذا فقد عظم فرعون القيم المبتدعة السيئة، وجعل المال والمقام والجاه هي معايير الإنسانية، كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأصنام في عصر الجاهلية في موقفهم أمام نبيّ الإِسلام (ص).

التعبير بـ "نادى" يوحي بأن فرعون عقد مجلساً عظيماً لخبراء البلد ومستشاريه، وخاطبهم جميعاً بصوت عال فقال ما قال، أو أنّه أمر أن يوزع نداؤه كرسالة في جميع أنحاء البلاد.

والتعبير بالأنهار، المراد منه نهر النيل، بسبب أن هذا النهر العظيم كالبحر المترامي الأطراف، وكان يتشعب إلى فروع كثيرة تروي كل المناطق العامرة في مصر.

وقال بعض المفسّرين: كان لنهر النيل 360 فرعاً، وكان أهمها: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس.

أمّا لماذا يؤكّد فرعون على نهر النيل خاصّة؟ فذلك لأنّ كل عمران مصر وثروتها وقوتها وتطورها كان يستمد طاقته من النيل، من هنا فإنّ فرعون كان يُدِلّ به، ويفتخر به على موسى.

والتعبير بـ (تجري من تحتي) لا يعني أن نهر النيل يمر من تحت قصري، كما قال ذلك جمع من المفسّرين، لأنّ نهر النيل كان أعظم من أن يمرّ من تحت قصر فرعون ولو كان المراد أنّه يمرّ بمحاذاة قصره، فإنّ كثيراً من قصور مصر كانت على هذه الحال، وكان أغلب العمران على حافتي هذا الشط العظيم، بل المراد أنّ هذا النهر تحت أمري، ونظام تقسيمه على المزارع والمساكن حسب التعليمات التي أريدها.

ثمّ يضيف: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) (2) وبهذا يكون قد خص نفسه بافتخارين عظيمين - حكومة مصر، وملك النيل ـ، وذكر لموسى نقطتي ضعف: الفقر ولكنة اللسان.

هذا في الوقت الذي لم يكن بموسى أية لكنة في اللسان، لأنّ الله تعالى قد استجاب دعاءه، ورفع عنه عقدة لسانه، لأنّه سأل ربّه عند البعثة أن: (واحلل عقدة من لساني) (3)، ومن المسلّم أن دعاءه قد استجيب، والقرآن شاهد على ذلك أيضاً.

ليس عيباً عدم امتلاك الثروة الكثيرة، والألبسة الفاخرة، والقصور المزينة، والتي تحصل عادة عن طريق ظلم المحرومين والجور عليهم، بل هو فخر وكرامة وسمو.

إنّ التعبير بـ "مهين" لعله إشارة إلى الطبقات الإِجتماعيّة في ذلك الزمان، حيث كانوا يظنون أن الأشراف الأقوياء والأثرياء طبقة متعالية، والكادحين الفقراء طبقة واطئة، أو أنّه إشارة إلى أصل موسى حيث كان من بني إسرائيل، وكان الأقباط يرون أنهم ساداتهم وكبراؤهم.

ثمّ تشبث فرعون بذريعتين أخريين، فقال: (فلولا أُلقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين) (4) فلو أنّ الله قد جعله رسوله فلماذا لم يعطه أساور من ذهب، ومعاونين له كباقي الرسل؟

يقولون: إنّ الفراعنة كانوا يعتقدون أنّ الرؤساء يجب أن يزينوا أنفسهم بالأساور والقلائد الذهبية، ولذلك فإنّهم يتعجبون من موسى إذ لم يكن معه مثل آلات الزينة هذه، بل كان قد لبس بدل ذلك ملابس الرعي الصوفية، وهذا هو حال المجتمع الذي يكون معيار تقييم الشخصية في نظره الذهب والفضة وأدوات الزينة.

أمّا أنبياء الله فإنّهم باطراحهم هذه المسائل - بالذات - جانباً كانوا يريدون أن يبطلوا هذه المقاييس الكاذبة، وأن يزرعوا محلها القيم الإِنسانية الأصيلة - أي العلم والتقوى والطهارة - لأنّ نظام القيم إذا لم يُصلح في مجتمع فسوف لن يرى ذلك المجتمع وجه السعادة أبداً.

على أية حال، فإنّ ذريعة فرعون هذه تشبه الذريعة التي نقلت عن مشركي مكّة قبل عدّة آيات حيث كانوا يقولون: لِمَ لَم ينزل القرآن على عظيم من مكّة والطائف؟!

والحجّة الثانية هي تلك الحجّة المعروفة التي كانت تطرحها كثير من الأُمم الضالة العاصية في مواجهة الأنبياء، فكانوا يقولون أحياناً: لماذا أرسل الله بشراً وليس ملكاً؟ وأحياناً أُخرى: إذا كان إنساناً فلماذا لم يأت معه ملك؟

في حين أنّ الرسل المبعوثين إلى البشر يجب أن يكونوا من جنسهم ليلمسوا حاجاتهم، ويحسوا بمشاكلهم ومسائلهم ويجيبوهم، وليقدروا على أن يكونوا من الناحية العملية قدوة وأسوة لهم (5).

ويلزم أن نذكر هنا أن "الأسورة" جمع سوار، سواء كان من الذهب أم من الفضة.

وتشير الآية التالية إلى نكتة لطيفة، وهي: إنّ فرعون لم يكن غافلاً عن واقع الأمر تماماً، وكان ملتفتاً إلى أن لا قيمة لهذه القيم والمعايير، إلاّ أنّه: (فاستخف قومه فأطاعوه).

إنّ طريقة كل الحكومات الجبارة الفاسدة من أجل الإِستمرار في تحقيق أهدافها وأنانياتها، هي الإِبقاء على الناس في مستوى مترد من الفكر والثقافة والوعي، وتسعى إلى تركهم حمقى لا يعون ما حولهم باستخدام أنواع الوسائل، فتجعلهم غرقى في حالة من الغفلة عن الوقائع والأحداث والحقائق، وتنصب لهم قيماً وموازين كاذبة منحطة بدلاً من الموازين الحقيقية، كما تمارس عملية غسل دماغ تام متواصل لهذه الشعوب، وذلك لأن يقظتها ووعيها، وتنامي رشدها الفكري يشكل أعظم خطر على الحكومات، ويعتبر أكبر عدو للحكومات المستبدة، فهذا الوعي بمثابة مارد يجب أن تحاربه بكل ما أوتيت من قوّة.

إنّ هذا الأسلوب الفرعوني - أي استخفاف العقول - حاكم على كل المجتمعات الفاسدة في عصرنا الحاضر، بكل قوّة واستحكام، وإذا كان تحت تصرف فرعون وسائل محدودة توصله إلى نيل هدفه، فإن طواغيت اليوم يستخفون عقول الشعوب بواسطة وسائل الإِتصال الجماعية، الصحف والمطبوعات، شبكات الراديو والتلفزيون، أنواع الأفلام، بل وحتى الرياضة في قالب الإِنحراف، وابتداع أنواع الأساليب المضحكة المستهجنة، لتغرق هذه الشعوب في بحر الغفلة، فيطيعوهم ويستسلموا لهم، ولهذا كانت المسؤولية الملقاة على عاتق علماء الدين والملتزمين به - والذين يحيون خط الأنبياء الفكري والعقائدي - ثقيلة في محاربة برامج استخفاف العقول، فهي من أهم واجباتهم.

والطريف أنّ الآية المذكورة تنتهي بجملة: (إنّهم كانوا قوماً فاسقين)، إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم الضالين لو لم يكونوا فاسقين ومتمردين على طاعة الله عزَّوجلّ وحكم العقل، لما كانوا يستسلمون لمثل هذه الدعايات والخزعبلات ويصغون إليها، فهم قد هيؤوا أسباب ضلالهم بأيديهم، ولذلك فإنّهم ليسوا معذورين في هذا الضلال أبداً.

صحيح أنّ فرعون قد سرق عقول هؤلاء وحملهم على طاعته، إلاّ أنّهم قد أعانوه على هذه السرقة باتباعهم الأعمى له.

نعم، كان هؤلاء قوماً فاسقين يتبعون فاسقاً.

كانت هذه جنايات فرعون وآل فرعون ومغالطاتهم في مواجهة رسول الله موسى (ع)، لكننا نرى الآن إلى أين وصلت عاقبة أمرهم بعد كل هذا الوعظ والإِرشاد وإتمام الحجج من طرق مختلفة، إذ لم يسملوا للحق:

تقول الآية: (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) فقد اختار الله سبحانه لهؤلاء عقوبة الإِغراق بالخصوص من بين كل العقوبات، وذلك لأنّ كلّ عزّتهم وشوكتهم وافتخارهم وقوّتهم كانت بنهر النيل العظيم وفروعه الكثيرة الكبيرة، والذي كان فرعون يؤكّد عليه من بين كل مصادر قوته، إذ قال: (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) ؟

نعم، يجب أن يكون مصدر حياتهم وقوّتهم، سبب هلاكهم وفنائهم، ويكون قبراً لهم ليعتبر الآخرون!

"آسفونا" من مادة الأسف، وهو الحزن والغم، ويأتي بمعنى الغضب، بل إنّه يقال للحزن المقترن بالغضب أحياناً - على قول الراغب في مفرداته (6) - وقد يقال لكل منهما على الإِنفراد.

وحقيقته ثوران دم القلب، شهوة الإِنتقام، فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضباً، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزناً، ولذلك سئل ابن عباس عن الحزن والغضب فقال: "مخرجهما واحد واللفظ مختلف".

وفسر بعضهم "آسفونا" بـ (آسفوا رسلنا)، إلاّ أن هذا التّفسير يبدو بعيداً، ولا ضرورة لمثل هذا الخلاف الظاهري.

وهنا نكتة تستحق الإِنتباه، وهي أنه لا معنى للحزن والغم بالنسبة إلى الله سبحانه، ولا الغضب بالمعنى المتعارف بيننا، بل إن غضب الله يعني "إرادة العقاب"، ورضاه يعني "إرادة الثواب".

وتقول الآية الأخيرة كاستخلاص لنتيجة مجموع ما مر من كلام: (فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين).

"السلف" في اللغة يعني كل شيء متقدم، ولذلك يقال للأجيال السابقة: سلف، وللأجيال الآتية: خلف، ويسمّون المعاملات التي تتمّ قبل الشراء "سلفاً"، لأنّ ثمن المشتري يدفع من قبل.

والمثل يقال للكلام الدائر بين الناس كعبرة، ولما كانت قصة فرعون والفراعنة ومصيرهم المؤلم عبرة عظمى، فقد ذكرت في هذه القصة كعبرة للأقوام الآخرين.


1- الواو في جملة (وهذه الأنهار تجري من تحتي) يمكن أن تكون عاطفة على (ملك مصر) ويمكن أن تكون حالية (تفسير الكشاف). إلاّ أن الإحتمال الأوّل يبدو هو الأنسب.

2- اعتبر جماعة (أم) في الجملة أعلاه منقطعة، وأنها بمعنى (بل)، وذهب البعض أنها متصلة ومتعلقة بجملة (أفلا تبصرون)، وتقدير الجملة: أفلا تبصرون أم تبصرون أنا خير من هذا...

3- طه، الآية 27.

4- جاءت كلمة "مقترنين" هنا بمعنى المتتابعين أو المتعاضدين، وقال البعض: إن الإقتران هنا بمعنى التقارن.

5- ورد في التّفسير الأمثل، ذيل الآية (9) من سورة الأنعام بحث مفصل في هذا الباب.

6- مفردات الراغب، مادة (أسف).