الآيات 36 - 40
﴿وَمَنْ يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمـنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَـناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جَآءَنَا قَالَ يَـلَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلـل مُّبِين (40)﴾
التّفسير
أقران الشياطين!
لما كان الكلام في الآيات السابقة عن عبدة الدنيا الذين يقيّمون كل شيء على أساس المعايير المادية، فإن الآيات - مورد البحث - تتحدث عن أحد الآثار المميتة الناشئة عن الإِرتباط بالدنيا والتعلق بها، ألا وهو الإِبتعاد عن الله سبحانه.
تقول الآية الأولى: (ومن يعش عن ذكر الرحمـن نقيض له شيطاناً فهو له قرين) (1) (2).
نعم، إنّ الغفلة عن ذكر الله، والغرق في لذات الدنيا، والإِنبهار بزخارفها ومغرياتها يؤدي إلى تسلط شيطان على الإِنسان يكون قرينه دائماً، ويلقي لجاماً حول رقبته يشدّه به، ويجرّه إليه ليذهب به حيث يشاء!
من البديهي أنّه لا مجال لأن يتصور أحد معنى الجبر في هذه الآية لأنّ هذه نتيجة الأعمال التي قام بها هؤلاء أنفسهم، وقد قلنا مراراً: إنّ أولى نتائج أعمال الإِنسان - وخاصة الإِنغماس في ملاذ الدنيا، والتلوث بأنواع المعاصي - هو تكوّن حجاب على القلب والسمع والبصر يبعده عن الله سبحانه، ويسلط الشياطين عليه، وقد يستمرّ هذا الحال بالنسبة إليه حتى يغلق بوجهه باب الرجوع، لأنّ الشياطين والأفكار الشيطانية تكون حينئذ قد أحاطت به من كل جانب، وهذه نتيجة عمل الإِنسان نفسه، وإن كانت نسبتها إلى الله سبحانه بلحاظ كونه سبب الأسباب صحيحة أيضاً، وهذا هو نفس الشيء الذي عبّر عنه في آيات القرآن الأُخرى بعنوان تزيين الشياطين (فزين لهم الشيطان أعمالهم) (3)، أو بعنوان ولاية الشيطان (فهو وليهم اليوم).(4)
وممّا يستحق الإِنتباه أن جملة (نُقَيِّض) وبالإِلتفات إلى معناها اللغوي، تدل على إستيلاء الشياطين، كما تدل على كونهم أقراناً، وفي الوقت نفسه فقد جاءت جملة: (فهو له قرين) بعدها لتؤكّد هذا المعنى، وهو أنّ الشياطين لا يفارقون مثل هؤلاء الأفراد، ولا يبتعدون عنهم مطلقاً!
والتعبير بـ"الرحمـن" إشارة لطيفة إلى أنّه كيف يعرض هؤلاء عن الله الذي عمّت رحمته العامّة الجميع وشملتهم، ويغفلون عن ذكره؟ فهل يستحق أمثال هؤلاء غير هذا المصير ويكونون أقراناً للشياطين، يتبعون أوامرهم، وينفذون ما يملون عليهم؟
واحتمل بعض المفسّرين أن يكون للشياطين هنا معنى واسع بحيث يشمل حتى شياطين الإِنس، واعتبروا الكلمة إشارة إلى رؤوس الضلالة وزعمائها الذين يتسلطون على الغافلين عن ذكر الله سبحانه فيكونون أقراناً لهم، وهذا التوسع في المعنى ليس ببعيد.
ثمّ أشارت الآية التالية إلى أمر مهم كانت الشياطين تقوم به في شأن هؤلاء الغافلين، فقالت: (وإنّهم ليصدونهم عن السبيل) (5).
فكلما صمّموا على التوبة والرجوع إلى طريق الصواب والرشاد كانت الشياطين تلقي في طريقهم الأحجار والعقبات، وتنصب الموانع في طريق عودتهم حتى لا يعودوا إلى الصراط المستقيم أبداً.
وتزين الشياطين طريق الضلال لهم إلى الحد الذي يظنون: (ويحسبون أنهم مهتدون) كما نقرأ ذلك في الآية (38) من سورة العنكبوت حول عاد وثمود: (وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين).
وهكذا تستمر هذه الحالة على هذا المنوال، فيبقى الإِنسان الغافل الجاهل على ضلاله، وتستمر الشياطين في إضلاله، حتى ترفع الحجب، وتنفتح عين رؤيته على الحقيقة: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين).
إنّ كل أنواع العذاب من جهة، ومجالسة قرين السوء هذا من جهة اُخرى والنظر إلى وجهه المشؤوم يجسد أمام عينيه كل ذكريات ضياعه وتعاسته، فويل له إذ أصبح قرين من كان يزين له كل القبائح ويسلكه طريق الضلال على أنّه سبيل الخير والفلاح، وطريق الإِنحراف على أنّه طريق الهدى والصلاح، وويل له إذا أصبح مقيّداً معه بنفس الأصفاد في نفس السجن!
نعم، إن عرصة القيامة تجسيد واسع لمشاهد هذه الدنيا، والقرين والرفيق والقائد والدليل هنا وهناك واحد، بل إنّهما - برأي بعض المفسّرين - يقرنان بسلسلة واحدة!
من المعلوم أنّ المراد من المشرقين: المشرق والمغرب، لأنّ العرب عندما يريدون أن يثنوا جنسين مختلفين بلفظ واحد، فإنّهم يختارون أحد اللفظين، كما يقولون: الشمسان، إشارة إلى الشمس والقمر، والظهران، إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر، والعشاءان، إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء.
وقد ذكروا تفاسير أُخرى لا تبدو مناسبة للآية من أي وجه، كقولهم: إنّ المراد هو مشرق بداية الشتاء، ومشرق بداية الصيف، وإن كان هذا التّفسير مناسباً في موارد أُخرى.
وعلى أية حال، فإنّ هذا التعبير كناية عن أبعد مسافة يمكن تصورها، حيث يضرب المثل ببعد المشرق عن المغرب في هذا الباب.
إلاّ أن هذا الأمل لا يتحقق مطلقاً، ولا يمكن أن يقع الإِفتراق أو البون بين هؤلاء وبين الشياطين، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) فيجب أن تذوقوا عذاب قرين السوء هذا مع أنواع العذاب الأُخرى إلى الأبد (6).
وبهذا فإنَّ القرآن الكريم يبدل أمل هؤلاء في الإِفتراق عن الشياطين إلى يأس دائم، وكم هو مضن تحمل هذا الجوار؟
وهناك احتمالات اُخرى في تفسير هذه الآية، منها أن الإِنسان قد يشعر بخفة آلامه عند رؤية متألمين آخرين، لأنّ المعروف (أن البلية إذا عمّت طابت) غير أنّه يقال لهؤلاء: لا يوجد هناك مثل تسلية الخاطر هذه، بل ستغوصون في العذاب، وعذاب الشياطين المشتركين معهم لا يبعث على تسلية الخاطر (7).
واحتملوا أيضاً أن المصيبة عندما تقع، تخف وطأتها عندما يجد الإِنسان ثقلها موزعاً بينه وبين أصدقائه، ولكن هذه المسألة لا توجد هناك أيضاً، لأنّ لكل فرد سهماً وافراً من العذاب، من دون أن ينقص من عذاب الآخرين شيء!
لكن بملاحظة أن هذه الآية تكملة للآية السابقة، فإنّ التّفسير الأوّل الذي اخترناه هو الأنسب.
ويترك القرآن هنا هذه الفئة وشأنها، ويوجه الخطاب إلى النّبي (ص) ويتحدث عن الغافلين عمي القلوب الذى كذبوا ارتباطه بالله، وهم من جنس من تقدم الكلام عنهم في الآيات السابقة، فيقول: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين).
وقد ورد نظير هذا المعنى في آيات أخرى من القرآن الكريم، حيث شبه المعاندين الذين لا أمل في هدايتهم، والغارقين في الذنوب بالعمي والصم، بل وبالأموات أحياناً.
فقد جاء في الآية (42) من سورة يونس: (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون).
وجاء في الآية (80) من سورة النمل: (إنّك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين).
وآيات أُخرى.
إن كل هذه التعابير توضح أن القرآن يقول بنوعين من السمع والبصر والحياة للإِنسان: السمع والبصر والحياة الظاهريّة، والسمع والبصر والحياة الباطنية، والمهم هو القسم الثّاني من الإِدراك والنظر والحياة، فإنّها إذا تعطلت فلا ينفع حينئذ موعظة وإرشاد، ولا إنذار وتحذير!
ومما يستحق الإِنتباه أنّ الآيات السابقة قد شبهت هذه الفئة بالأفراد العمش العيون، والمحدودي البصر، وتشبههم الآية الأخيرة هنا بالصم والعمي، وذلك لأنّ الإِنسان إذا اشتغل بالدنيا فحاله كمن يشكو ألماً بسيطاً في عينه، فكلما زاد تعلقه بالدنيا واشتغاله بها، ومال إلى الماديات أكثر، وأهمل المسائل الروحية والمعنوية، فسيضعف بصره نتيجة ذلك الألم في عينه، حتى يصل بعدها إلى مرحلة العمى، وهذا هو الشيء الذي أثبتته الأدلّة القطعية في مجال التشديد على المعنويات السلبية والإِيجابية في الإِنسان، ورسوخ الملكات فيه نتيجة تكرار العمل والإِصرار عليه، وقد راعى القرآن الكريم هذا التسلسل أيضاً (8).
1- "يَعْشُ" من مادة العشو، فإن عديت بـ(إلى): (عشوت إليه) فهي تعني الهداية بواسطة شيء ما بعين ضعيفة، وإن عديت بـ(عن): (عشا عنه)، أعطت معنى الإعراض عن الشيء، وهو المراد في الآية المذكورة. لسان العرب (عشو).
2- "نُقَيِّض" من مادة قيض، وهي في الأصل بمعنى الغشاء الذي يغطي البيضة، ثمّ جاءت بمعنى جعل شيء مستولياً على شيء آخر.
3- النحل، الآية 63.
4- النحل، الآية 63.
5- ضمير الجمع في "أنّهم" والجملة التالية يعود إلى الشياطين، ومع أنه قد جاء بصيغة المفرد من قبل، إلاّ أنّه كان بمعنى الجمع.
6- على هذا فإن فاعل "ينفع" هو القول السابق حيث كانوا يأملون أن يكون البعد بينهم وبين الشياطين كما بين المشرق والمغرب، وجملة (إذ ظلمتم) بيان لعلة عدم النفع، وجملة (إنّكم في العذاب مشتركون)نتيجة هذا الظلم والجور.
7- بناء على هذا التّفسير، فإن جملة: (إنكم في العذاب مشتركون) ستكون فاعل (ينفع) لا نتيجته.
8- التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد 27، صفحة 214 - 215.