الآيتان 31 - 32

﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـذا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُل مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَـت لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيَّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾

التّفسير

لمَ لم ينزل القرآن على أحد الأغنياء؟

كان الكلام في الآيات السابقة في ذرائع المشركين في مواجهة دعوة الأنبياء، فكانوا يتّهمونهم بالسحر تارة، ويتوسلون تارة أخرى بتقليد الآباء وينبذون كلام الله وراء ظهورهم، وتشير الآيات - مورد البحث - إلى حجّة واهية أُخرى من حجج أُولئك المشركين، فتقول: (وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) أي مكّة والطائف.

لقد كانوا معذورين بتشبثهم بمثل هذه الذريعة من جهة، إذ كان المعيار في تقييمهم للبشر هو المال والثروة والمقام الظاهري والشهرة.

إنّ صغار العقول هؤلاء كانوا يتصوّرون أنّ الأثرياء، وزعماء قبائلهم الظلمة هم أقرب الناس إلى الله سبحانه، ولذلك فإنّهم كانوا يتعجبون لماذا لم تنزل موهبة النبوّة والرحمة الإِلهيّة العظيمة هذه على رجل من قبيل هؤلاء الأفراد ونزلت على يتيم فقير خالي اليد اسمه محمّد! إن هذا لشيء عجاب لا يكاد يصدق!

نعم، إنّ نظام القيم الخاطيء يستتبع مثل هذا الإِستنباط، وهذا هو السبب في بلاء المجتمعات البشرية العظيم، والعامل الأساس في انحرافها الفكري، حيث تقلب الحقائق تماماً في بعض الأحيان.

إنّ حامل هذه الدعوة الإِلهيّة يجب أن يكون إنساناً تغمر وجوده روح التقوى... أن يكون إنساناً واعياً، ذا إرادة وتصميم، شجاعاً عادلاً، عارفاً بآلام المحرومين والمظلومين، ذائقاً لمرارتها... هذه هي القيم التي يلزم توفّرها من أجل حمل هذه الرسالة السماويّة، لا الألبسة الفاخرة الجميلة، والقصور الفخمة الفارهة المزيّنة بأنواع الزينة والزخارف، خاصّة وإن أيّاً من أنبياء الله لم يكن متمتعاً بهذه الصفات والمزايا المادية، لئلاّ تشتبه القيم الأصيلة بالقيم المزيّفة.

وللمفسّرين أقوال في مراد المشركين من الرجل في مكّة والطائف؟ إلاّ أنّ أغلبهم اعتبروا "الوليد بن المغيرة" رجل مكّة، و"عروة بن مسعود الثقفي" رجل الطائف، وإن كان البعض قد ذكر أن عتبة بن ربيعة من مكّة، وحبيب بن عمر الثقفي من الطائف.

إلاّ أنّ الظاهر أن قول أُولئك المشركين لم يكن يدور حول شخص معين، بل كان هدفهم الإِشارة إلى أحد الأثرياء المعروفين، وله عشيرة مشهورة.

ويردّ القرآن الكريم بأجوبة قاطعة على هذا النمط من التفكير المتسافل الخرافي، ويجسد النظرة الإِلهيّة الإِسلاميّة تماماً، فيقول أوّلاً: (أهم يقسمون رحمة ربك) فيمنحوا النبوّة من يشاؤون، وينزلوا عليه الكتاب السماوي، وإذا لم يعجبهم إنسان أهملوه؟

هؤلاء على خطأ كبير، فإنّ ربّك هو الذي يقسم رحمته، وهو يعلم - أفضل من سواه - من يستحق هذا المقام العظيم، ومن هو أهل له، كما ورد ذلك في الآية (124) من سورة الأنعام أيضاً: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).

فضلاً عن ذلك، فإنّ وجود التفاوت والإِختلاف بين البشر من ناحية مستوى المعيشة، لا يدلّ على تفاوتهم في المقامات والمنازل المعنويّة مطلقاً، بل: (نحن قسّمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليّتخذ بعضهم بعضاً سخرياً).

لقد نسي هؤلاء أنّ حياة البشر حياة جماعيّة، ولا يمكن أن تدار هذه الحياة إلاّ عن طريق التعاون والخدمة المتبادلة، فإذا ما تساوى كلّ الناس في مستوى معيشتهم وقابليّاتهم ومكانتهم الإِجتماعية، فإنّ أصل التعاون والخدمة المتبادلة سيتزلزل.

بناء على هذا فينبغي أن لا يخدعهم هذا التفاوت، ويظنّوا أنّه معيار القيم الإِنسانية، إذ: (ورحمة ربّك خير ممّا يجمعون) بل إن كل المقامات والثروات لا تعدل جناح بعوضة في مقابل رحمة الله والقرب منه.

إنّ التعبير بـ "ربّك" الذي تكرّر مرّتين في هذه الآية، إشارة لطيفة إلى لطف الله الخاص بنبي الإِسلام الأكرم (ص)، ومنحه مقام النبوّة والخاتميّة.

سؤالين مهمّين:

عند مطالعة الآية أعلاه يتبادر إلى الذهن سؤالان يستخدمهما أعداء الإِسلام كحربة للطعن في الفلسفة الإِسلاميّة:

الأوّل: كيف أقرّ القرآن استخدام الإِنسان وتسخيره من قبل الإِنسان؟ ألا يماثل هذا نظام الطبقات الإِقتصاديّة، أي نظام المستثمِرين والمستثمرين؟

الثّاني: أنّ الأرزاق والمعايش إذا كانت مقسّمة من قبل الله تعالى، فأي ثمرة يمكن أن تنتج عن جهودنا ومساعينا؟ ألاّ يعني هذا إطفاء مشاعل السعي ومصابيح الجهاد من أجل الحياة؟

إنّ الإِجابة على هذه الأسئلة تتّضح بالتدقيق في متن الآية، لأنّ هؤلاء يتصورون أنّ معنى الآية هو أنّ جماعة معيّنة من البشر تسخر جماعة أُخرى لأنفسها تسخيراً ظالماً يمتصّ الدماء والجهود، في حين أن الأمر ليس كذلك، بل هو استخدام الناس بعضهم بعضاً، أي أنّ كل جماعة من الناس لهم إمكانيّات واستعدادات خاصّة يستطيعون العمل بواسطتها في مجال ما من شؤون الحياة، وهم بطبيعة الحال يقدمون خدماتهم في ذلك الحقل إلى الآخرين، كما أنّ خدمات الآخرين في الحقول الأُخرى تقدم إليهم.

والخلاصة: هو استخدام متبادل، وخدمة ذات طرفين، وبتعبير آخر: فإنّ الهدف من التسخير هو التعاون في أمر الحياة، ولا شيء آخر.

ولا يخفى أنّ البشر لو كانوا متساوين جميعاً من ناحية الذكاء والإِستعداد الروحي والجسمي، فسوف لن تتهيّأ مستلزمات الحياة الإِجتماعيّة، والنظم الحياتيّة مطلقاً، كما أن خلايا جسم الإِنسان لو كانت متشابهة من ناحية البنية والرقة والمقاومة لاختل نظام الجسم، فأين خلايا عظم كعب القدم القويّة جدّاً من خلايا العين الرقيقة؟ إن لكل من هاتين مهمّة خاصّة بنيت على أساسها.

والمثال الحي الذي يمكن أن يضرب لهذا الموضوع هو الخدمات المتبادلة في جهاز التنفّس، ودوران الدم، والتغذية، وسائر أجهزة بدن الإِنسان، التي هي مصداق واضح لـ (ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً) في إطار نشاطات البدن الداخليّة، فهل يمكن الإِشكال على مثل هذا التسخير؟ وهل فيه خلل أو نقص؟

فإن قيل: إنّ جملة: (رفعنا بعضهم فوق بعض درجات) دليل على عدم العدالة الإِجتماعية.

قلنا: هذا يصحّ في حالة تفسير العدالة بالمساواة، في حين أنّ العدالة تعني وضع كلّ شيء في محلّه ضمن منظومته، فهل أنّ وجود سلسلة المراجع والرتب في فرقة عسكريّة، أو تنظيم إداري، أو في الدولة، دليل على وجود الظلم في تلك الأجهزة؟

من الممكن أن يستعمل بعض الناس كلمة "المساواة" في مجال الشعارات من دون الإِلتفات إلى معناها الواقعي، أمّا في الواقع العملي فلا يمكن أن يتمّ أو يقوم أي نظام بدون الإِختلاف والتفاوت، غير أنّ هذا التفاوت يجب أن لا يكون ذريعة لأنّ يستغل الإِنسان أخاه الإِنسان أبداً، بل يجب أن يكون الجميع أحراراً في استعمال قواهم الخلاقة، وتنمية نبوغهم وإبداعهم، والإِستفادة من نتائج نشاطاتهم بدون زيادة أو نقصان، وأمّا في حال عجزهم فيجب على القادرين أن يجدوا ويجتهدوا في رفع النواقص وسد ما يحتاجونه.

وأمّا فيما يتعلق بالسؤال الثّاني، وهو: كيف يمكن المحافظة على شعلة الجهاد والسعي والإِجتهاد وهاجة مع كون الرزق معيناً؟ فإنّ الإشتباه ناشيء من تصورهم أن الله سبحانه لم يجعل لسعي الإِنسان واجتهاده أي أثر أو دور.

صحيح أنّ الله سبحانه خلق القابليات متفاوتة لمختلف النشاطات، وصحيح أنّ العوامل الخارجة عن إرادة الإِنسان مؤثّرة في مسير حياته، لكن مع ذلك فإنّه سبحانه قد جعل سعيه واجتهاده أيضاً أحد العوامل الأساسيّة، وأوضح سبحانه ببيان أصل: (أنّ ليس للإنسان إلاّ ما سعى) (1)، أنّ سعادة الإِنسان وما يجنيه ويحصل عليه يرتبط بسعيه واجتهاده.

وعلى أيّة حال، فإنّ النكتة الغامضة والدقيقة تكمن في أنّ البشر ليسوا كالأواني المتساوية الصفات الي صنعت في معمل واحد، في شكل واحد، وعلى وتيرة واحدة، وبحجم واحد، ولغاية واحدة في الإِستعمال، ولو كانوا كذلك لما أمكنهم التعايش بعضهم مع البعض الآخر يوماً واحداً.

وأيضاً ليس الناس من قبيل أجهزة وأدوات سيارة نظمها مهندسها على هيئة ما، فهي تقوم بعملها بصورة إجبارية، بل لديهم حرية الإِرادة، وعليهم مسؤولية وواجب في نفس الوقت الذي تختلف فيه قابلياتهم ولياقاتهم، وهذا هو المركب الخاص الذي يسمونه الإِنسان، والإِعتراضات والإِيرادات التي تطرح غالباً تنبع من عدم معرفة هذا الإنسان.

وخلاصة القول: إنّ الله سبحانه لم يفضل أي إنسان على الآخرين من كل الجهات، بل إنّ جملة: (رفع بعضهم فوق بعض درجات) إشارة إلى الإِمتيازات التي تمتاز بها كل جماعة على الجماعة الأُخرى، وتسخير كل فئة لأُخرى واستخدامها لها نابع من هذه الإِمتيازات تماماً، وهذا عين العدالة والتدبير والحكمة (2).


1- النجم، الآية 39.

2- كان لنا بحث مفصّل في هذا الباب في ذيل الآية (32) من سورة النساء، وبحث آخر في ذيل الآية (165) من سورة الأنعام.