الآيات 23 - 25
﴿وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى قَرْيَة مِّن نَّذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى ءَاثَـرِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَـلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَـفِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)﴾
التّفسير
عاقبة هؤلاء المقلدين:
تواصل هذه الآيات موضوع الآيات السابقة حول الدليل الأصلي للمشركين في عبادتهم للأصنام، وهو تقليد الآباء والأجداد، فتقول: إن هذا مجرّد ادعاء واه من مشركي العرب: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون).
يستفاد من هذه الآية جيداً أنّ المتصدين لمحاربة الأنبياء، والذين كانوا يقولون بمسألة تقليد الآباء ويدافعون عنها بكل قوّة، كانوا من المترفين والأثرياء السكارى والمغرورين، لأنّ (المترف) من مادة (التَرَفُّه) أي كثرة النعمة، ولما كان كثير من المنعمين يغرقون في الشهوات والأهواء، فإنّ كلمة "المترف" تعني مَن طغى بالنعمة وغرق في سكرتها وأصبح مغروراً (1)، ومصداق ذلك - على الأغلب - الملوك والجبابرة والأثرياء المستكبرون والأنانيون.
نعم، هؤلاء هم الذين تتعرض مصالحهم وأنانيّاتهم للفناء بثورة الأنبياء، ويحدق الخطر بمنافعهم وثرواتهم اللامشروعة، ويتحرّر المستضعفون من مخالبهم، ولهذا كانوا يسعون إلى تخدير الناس وإبقائهم جهلاء بمختلف الأساليب والحيل.
وأغلب فساد الدنيا ينبع من هؤلاء المترفين الذين يتواجدون في أماكن الظلم والتعدي والمعصية والفساد والرذيلة.
وجدير بالذكر، أنّنا قرأنا في الآية السابقة أن هؤلاء كانوا يقولون: (إنّا على آثارهم مهتدون) وهنا يذكر القرآن أنّهم يقولون: (وإنا على آثارهم مقتدون) وبالرغم من أن التعبيرين يعودان إلى معنى واحد في الحقيقة، إلاّ أنّ التعبير الأوّل إشارة إلى دعوى أحقيّة مذهب الآباء، والتعبير الثّاني إشارة إلى إصرار هؤلاء وثباتهم على اتباع الآباء والإِقتداء بهم.
وعلى أية حال فإنّ هذه الآية نوع من التسلية لخاطر النّبي الأكرم (ص) والمؤمنين ليعلموا أن ذرائع المشركين واستدلالاتهم هذه ليست بالشيء الجديد، إذ أنّ هذا الطريق سلكه كل المنحرفين الضالين على مر التأريخ.
وتبيّن الآية التالية جواب الأنبياء السابقين على حجج هؤلاء المشركين والمنحرفين بوضوح تام، فتقول: (قال أو لو جئتكم بأهدى ممّا وجدتم عليه آباءكم) (2) ؟
هذا التعبير هو أكثر التعابير المؤدبة الممكن طرحها أمام قوم عنيدين مغرورين، ولا يجرح عواطفهم أو يمسها مطلقاً، فهو لا يقول: إن ما تقولونه كذب وخرافة، بل يقول: إن ما جئت به أهدى من دين آبائكم، فتعالوا وانظروا فيه وطالعوه.
إنّ مثل هذه التعبيرات القرآنية تعلمنا آداب المحاورة والمجادلة وخاصّة أمام الجاهلين المغرورين.
ومع كل ذلك، فإنّ هؤلاء كانوا غرقى الجهل والتعصب والعناد بحيث لم يؤثّر فيهم حتى هذا المقال المؤدب الرقيق، فكانوا يجيبون أنبياءهم بجواب واحد فقط: (قالوا إنّا بما أرسلتم به كافرون) دون أن يأتوا بأيّ دليل على مخالفتهم، ودون أن يتأملوا في الإِقتراح المعقول المتين لأنبياء الله ورسله.
من البديهي أنّ مثل هؤلاء الأقوام الطاغين المعاندين، لا يستحقون البقاء، وليست لهم أهليّة الحياة، ولابدّ أن ينزل عذاب الله ليقتلع هذه الأشواك من الطريق ويطهره منها، ولذلك فإنّ آخر آية - من هذه الآيات - تقول: (فانتقمنا منهم) فبعضهم بالطوفان، وآخرون بالزلزلة المدمرة، وجماعة بالعاصفة والصاعقة، وخلاصة القول: إنّا دمّرنا كل فئة منهم بأمر صارم فأهلكناهم.
وأخيراً وجهت الآية الخطاب إلى النّبي (ص) من أجل أن يعتبر مشركو مكّة أيضاً، فقالت: (فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) فعلى مشركي مكّة المعاندين أن يتوقعوا مثل هذا المصير المشؤوم.
1- نقرأ في لسان العرب: أترفته النعمة، أي: أطغته.
2- لهذه الجملة محذوف تقديره: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم.تفسير الكشاف المراغي، القرطبي، وروح المعاني.