الآيات 1 - 8

﴿حم (1) وَالكِتَـبِ المُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَـهُ قُرْءناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَـبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحَاً أَن كُنْتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِىٍّ فِى الأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِىٍّ إِلاَّ كَانُوْا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (7) فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الأَوَّلِينَ (8)﴾.

التّفسير

ذنوبكم لا تمنع رحمتنا!

مرّة أُخرى نواجه الحروف المقطّعة في بداية هذه السورة، وهي حروف (حم)، وهذه رابع سورة تبدأ بـ (حم) وتتلوها ثلاث سور أُخرى أيضاً، فتشكّل هذه السور السبعة بمجموعها (أسرة حم) وهي بالترتيب: المؤمن، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، والأحقاف.

وقد بحثنا الحروف المقطّعة بصورة مفصّلة فيما سبق (راجع بداية سورة البقرة، بداية آل عمران، أوّل الأعراف، بداية سورة "فصلت" في خصوص حم).

ويقسم تعالى بالقرآن الكريم في الآية الثّانية، فيقول: (والكتاب المبين).

قسماً بهذا الكتاب الواضحة حقائقه، والبيّنة معانيه ومفاهيمه، والظاهرة دلائل صدقه، والمبيّنة طرق هدايته ورشاده.

ثمّ يضيف: (إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون) (1).

إنّ كون القرآن عربيّاً، إمّا بمعنى أنّه نزل بلغة العرب التي هي أوسع لغات العالم في بيان الحقائق، وقادرة على تبيان دقائق المطالب بكل جمال ودقّة في التعبير.

أو بمعنى فصاحته - لأنّ أحد معاني كلمة (عربي) هو "الفصيح" وهي إشارة إلى أنا قد جعلناه في منتهى الفصاحة وغايتها، لتظهر الحقائق جيّداً من خلال كلماته وجمله، ويدركها الجميع جيداً.

والطّريف أنّ القسم وجوابه - هنا - شيء واحد، فهو تعالى يقسم بالقرآن أنّه جعل القرآن عربيّاً ليستفيد الجميع منه ويعقلوا آياته، وربّما كان هذا إشارة إلى أنّه لم يكن هناك شيء أجلّ من القرآن ليقسم به، فإنّ ما هو أسمى من القرآن نفس القرآن، لأنّه كلام الله سبحانه، وكلام الله مبيّن لذاته المقدّسة.

ولا يدلّ التعبير بـ (لعل) على أنّ الله سبحانه يشك في تأثير القرآن، أو أنّ الكلام هنا عن الرجاء والأمل الذي يصعب الوصول إليه وتحقّقه، بل إنّه يشير إلى تفاوت الأرضيّات الفكرية والأخلاقيّة لسامعي آيات القرآن الكريم، ويشير أيضاً إلى أنّ تأثير القرآن يستلزم توفر شروطاً معيّنة أُشير إليها إجمالاً بكلمة (لعل).

وقد أوردنا تفصيلاً أكثر لهذا المعنى في ذيل الآية (200) من آل عمران.

ثمّ يتطرق القرآن إلى بيان ثلاث صفات أُخرى لهذا الكتاب السماوي، فيقول: (وإنّه في أُم الكتاب لدينا لعلي حكيم) ويشير في الصفة الأُولى إلى أن القرآن الكريم قد حُفظ وأُثبت في أُمّ الكتاب لدى الله سبحانه، كما نقرأ ذلك أيضاً في الآية (22) من سورة البروج: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ).

والآن، لنر ما هو المراد من "أم الكتاب"، أو "اللوح المحفوظ"؟

"الأُم " في اللغة تعني أصل كل شيء وأساسه، وإنّما يقول العرب للأم أمّاً لأنّها أساس العائلة ومأوى الأولاد، وعلى هذا فإنّ (أم الكتاب) يعني الكتاب الذي يكون أساساً لكل الكتب السماويّة، وهو ذلك اللوح المحفوظ لدى الله سبحانه، والمصون من كل تغيير وتبديل وتحريف... إنّه كتاب علم الله المحفوظ لديه، والذي أُدرجت فيه كل حقائق العالم، وكل حوادث الماضي والمستقبل، وكل الكتب السماويّة، ولا يستطيع أي أحد أن يصل إليه ويعلم ما فيه، إلاّ إذا أراد الله سبحانه أن يُعلم أحداً بالمقدار الذي يريده عزَّوجلّ.

وهذا وصف عظيم للقرآن الذي ينبع من علم الله اللامتناهي، وأصله وأساسه لديه سبحانه، ولهذا يقول في الصفة الثّانية: (لَعَلِيّ) وفي الثالثة (حكيم).

إنّ الشيء الذي ينبعث من علم الله اللامتناهي يجب أن يكون بهذه الصفات.

واعتقد البعض أنّ سموّ القرآن وعلوَّ مقامه نابع من أنّه فاق كلّ الكتب السماويّة، ونسخها جميعاً، وهو في أرفع مراتب الإعجاز.

واعتبر البعض الآخر علوّ القرآن لاحتوائه على حقائق لا تدركها أفكار البشر، وهي بعيدة عن مدى ما تستوعبه عقولهم - إضافة إلى الحقائق التي يفهمها الجميع من ظاهر القرآن.

ولا تتضارب هذه المعاني فيما بينها حيث تجتمع كلّها في مفهوم (عَلِيّ).

وهنا مسألة تستحق الإِنتباه، وهي أنّ (الحكيم) صفة للشخص عادة، لا الكتاب، لكن لمّا كان هذا الكتاب السماوي بنفسه معلماً عظيماً وناطقاً بالحكمة ناشراً لها، فإنّ هذا التعبير في محله تماماً.

وقد وردت كلمة "الحكيم" بمعنى المستحكم الحصين أيضاً، وكلّ هذه المعاني جمعت في اللفظة المذكورة، وهي صادقة في شأن القرآن الكريم، لأنّه حكيم بكل هذه المعاني.

وفي الآية التّالية يخاطب المنكرين للقرآن والمعرضين عنه، فيقول: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين) ؟

صحيح أنّكم لم تألوا جهداً في مخالفتكم للحق وعدائه، ووصلتم في المخالفة إلى حدّ الإِفراط والإِسراف، إلاّ أنّ رحمة الله سبحانه واسعة بحدٍّ لا تشكل هذه الأعمال المناوئة حاجزاً في طريقها، ونظل نُنزل باستمرار هذا الكتاب السماوي الذي يوقظكم، وآياته التي تبعث الحياة فيكم، حتّى تهتزّ القلوب التي لها أدنى حظ من الإِستعداد وتثوب إلى طريق الحقّ، وهذا هو مقام رحمة الله العامّة، أي: رحمانيته التي تشمل العدوّ والصديق، والمؤمن والكافر.

جملة (أفنضرب عنكم) جاءت هنا بمعنى: أفنصرب عنكم، لأنّ الراكب إذا أراد أن يحوّل دابّته إلى طريق آخر، فإنّه يحوّله بضربه بالسوط أو بشيء آخر، ولذلك فإنّ كلمة الضرب تستعمل في مثل هذه الموارد بدلاً من الصرف (2).

"الصفح" في الأصل بمعنى جانب الشيء وطرفه، ويأتي أيضاً بمعنى العرض والسعة، وهو في الآية بالمعنى الأوّل، أي: أنحول عنكم هذا القرآن الذي هو أساس التذكرة إلى جانب وطرف آخر؟

"المسرف" من الإِسراف، وهو تجاوز الحدّ، إشارة إلى أنّ المشركين وأعداء النبي (ص) لم يقفوا عند حدّ في خلافهم وعدائهم مطلقاً.

ثمّ يقول في عبارة قصيرة كشاهد على ما قيل، وتسليةً لخاطر النبي (ص) وتهديداً للمنكرين المعاندين: (وكم أرسلنا من نبيّ في الأوّلين * وما يأتيهم من نبيّ إلاّ كانوا به يستهزئون).

إنّ هذه المخالفات وأنواع السخرية لم تكن لتمنع لطف الله ورحمته أبداً، فإنّها فيض متواصل من الأزل إلى الأبد، ووجود يعمُّ عطاؤه كلّ العباد، بل إنّه سبحانه قد خلقهم للرحمة (ولذلك خلقهم) (3)، ولهذا فإنّ إعراضكم وعنادكم سوف لا يمنع لطفه مطلقاً، وينبغي أن لا يفتر النّبي (ص) والمؤمنون الحقيقيّون، فإنّ لهذا الإِعراض عن الحق واتباع الشهوات والهوى والميول تاريخاً طويلاً.

لكن، ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء بأنّ لطف الله اللامتناهي سيحول دون عقابهم في النهاية، لأنّ العقاب بنفسه من مقتضى حكمته، ولذلك يضيف في الآية التالية: (فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً ومضى مثل الأوّلين).

فالآية تخاطب النّبي (ص) بأنّنا سبق وأن ذكرنا لك نماذج كثيرة من هذه الأقوام العاصية الطاغية، وأوحينا إليك تفصيل حالهم بدون زيادة أو نقصان، وكان من بينهم أقوام أقوى وأشدّ من مشركي العرب كثيراً، ولهم إمكانيّات وثروات وأفراد وجيوش وإمكانات واسعة... كفرعون وآل فرعون، والتاريخ، وأوضح من ذلك أن تتدبّروا ما نزل في القرآن في شأنهم لتعلموا أيّها الطغاة المعاندون أنّكم لستم في مأمن من عذاب الله الأليم أبداً.

"البطش" - كما يقول الراغب في المفردات - بمعنى أخذ الشيء بالقوّة، وهنا اقترن بكلمة "أشدّ" وتعطي مفهوم شدّة القوّة والقدرة أكثر.

والضمير في (منهم) يعود على مشركي العرب الذين خوطبوا في الآيات السابقة، إلاّ أنّهم ذكروا هنا بصيغة الغائب، لأنّهم ليسوا أهلاً للإستمرار في مخاطبتهم من قبل الله تعالى.

واعتبر بعض كبار المفسّرين جملة (ومضى مثل الأوّلين) إشارة إلى المطالب التي جاءت في السورة السابقة - سورة الشورى - حول جماعة من هؤلاء.

إلاّ أنّه لا دليل لدينا على هذا التحديد، خاصّة وأنّه قلّما أشير إلى حوادث الأُمم الماضية في سورة الشورى، في حين وردت بحوث مفصّلة حولهم في سور أُخرى من القرآن.

وعلى أيّة حال، فإنّ هذه الآية تشبه ما مرّ في الآية (78) من سورة القصص، حيث تقول: (أو لم يعلم أنّ الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشدّ منه قوّة وأكثر جمعاً) ؟!

أو ما مرّ في الآية (21) من سورة المؤمن حيث حذّرت مشركي العرب إذ تقول: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشدّ منهم قوّة وآثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق) ؟!


1- الواو في (والكتاب المبين) للقسم، وجواب هذا القسم جملة (إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً).

2- مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

3- هود، الآية 119.