الآيتان 52 - 53
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـبُ وَلاَ الاِْيمَـنُ وَلَـكِنْ جَعَلْنَـهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِن عِبَادِناً وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَط مُّسْتَقِيم( 52 ) صِرَطِ اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الاُْمُورُ( 53 )﴾
التّفسير
القرآن روح من الخالق:
بعد البحث العام الذي ورد في الآية السابقة بخصوص الوحي، تتحدث الآيات التي نبحثها عن نزول الوحي على شخص الرّسول الأكرم(ص) حيث تقول: (وكذلك أوحينا أليك روحاً من أمرنا).
قد تكون عبارة (كذلك) إشارة إلى الأنواع ثلاثة للوحي الواردة في الآية السابقة، والتي تحققت جميعها بالنسبة للنّبي(ص)، فأحياناً كان يرتبط بذات الخالق المنزهة والمطهرة بشكل مباشر، وأحياناً عن طريق ملك الوحي، وأحياناً عن طريق سماع لحن خاص يشبه الأمواج الصوتية، كما أشارت الرّوايات الإسلامية إلى جميع ذلك، وبيّنا شرح ذلك في نهاية الآية السابقة.
وهناك قولان للمفسرين بخصوص المقصود من كلمة (روح) في هذه الآية:
الأوّل: إن المقصود هو القرآن الكريم، لأنّه أساس حياة القلوب وحياة جميع الأحياء، وقد اختار هذا القول أكثر المفسّرين(1).
ويقول الراغب في مفرادته: سمي القرآن روحاً في قوله: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) وذلك لكون القرآن سبب للحياة الأخروية.
وهذا المعنى يتلاءم بشكل كامل مع القرائن المختلفة الموجودة في الآية مثل عبارة (كذلك) التي تشير إلى قضية الوحي، وعبارة (أوحينا) وعبارات اُخرى بخصوص القرآن وردت في نهاية هذه الآية.
وبالرغم من أن (روح) وردت غالباً بمعاني اُخرى سائر آيات القرآن، إلاّ أنّه - وفقاً للقرائن أعلاه - يظهر أنّها وردت هنا بمعنى القرآن.
وقد قلنا أيضاً في تفسير الآية 2 من سورة النحل: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) أن كلمة (روح) في هذه الآية - وفقاً للقرائن - وردت بمعنى (القرآن والوحي والنبوة) وفي الحقيقة فإن هاتين الآيتين تفسر إحداهما الأُخرى.
فكيف يمكن للقرآن أن لا يكون روحاً في حين أنّنا نقرأ في الآية (24) من سورة الأنفال: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
التّفسير الثّاني: أنّ المقصود هو (روح القدس) (أو ملك أفضل حتى من جبرائيل وميكائيل وكان يلازم النّبي دائماً).
ووفقاً لهذا التّفسير فإن (أوحينا) تكون بمعنى (أنزلنا) يعني أنزلنا روح القدس عليك، أو ذلك الملك العظيم (بالرغم من أنّنا لم نر كلمة (أوحينا) لهذا المعنى في الآيات القرآنية الأُخرى). ويؤيد ذلك بعض الروايات المذكورة في مصادر الحديث المعروفة، ولكن - كما قلنا - فإن التّفسير الأوّل ملاءمة مع الآية لوجود القرائن المتعددة، لذا يمكن أن تكون مثل هذه الرّوايات التي تفسر الروح بمعنى روح القدس أو الملك المقرب من الخالق، إشارد إلى المعنى الباطني للآية.
على أية حال، فإن الآية تضيف: (ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا).
فهذا هو اللطف الإلهي الذي شملك أنزل عليك هذا الوحي السماوي وآمنت بكل ما يحتويه.
فالإرادة الإلهية كانت تقتضي أن يهدي عباده الآخرين في ظل هذا النور السماوي، وأن يشمل الشرق والغرب - بل وجميع القرون والأعصار حتى النهاية - إضافة إلى هدايتك أنت إلى هذا الكتاب السماوي الكبير وتعليماته.
بعض المنحرفين فكرياً كانوا يتصورون أن هذه الجملة تبيّن أن الرّسول لم يكن يؤمن بالله قبل نبوته، في حين أن معنى الآية واضح، حيث أنّها تقول: إنّك لم تكن تعرف القرآن قبل نزوله ولم تكن تعرف تعليماته وتؤمن به وهذا لا يتعارض أبداً مع اعتقاد الرّسول التوحيدي ومعرفته العالية بأصول العبادة لله وعبوديته له .
والخلاصة، إن عدم معرفة محتوى القرآن يختلف عن موضوع عدم معرفة الله.
فحياة الرّسول(ص) قبل مرحلة النبوة والواردة في كتب التاريخ، تعتبر دليلا حياً على هذا المعنى. والأوضح من ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين علي(ع) في نهج البلاغة: "وقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره"(2).
وتضيف الآية في نهايتها: (وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم).
فالقرآن نور للجميع وليس لك فحسب، وهو وسيلة لهداية البشر إلى الصراط المستقيم، وموهبة إلهية عظيمة بالنسبة للسائرين على طريق الحق، وهو ماء الحياة بالنسبة للعطاشى كي ينتهلوا منه.
وقد ورد نفس هذا المعنى بعبارة اُخرى في الآية (44) من سورة فصلت حيث تقول الآية: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر).
ثم تقول الآية مفسرة للصراط المستقيم: (صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض).
وهل هناك طريق أكثر استقامة من الطريق الذي ينتهي بخالق عالم الوجود؟
وهل هناك أحسن من هذا الطريق؟
فالسعادة الحقيقية هي السعادة التي يدعو إليها الخالق، والوصول إليها يجب أن يكون عبر الطريق الوحيد الذي انتخبه الباريء لها.
أمّا آخر جملة في هذه الآية - وهي آخر آية في سورة الشورى - فهي في الحقيقة دليل على أن الطريق المستقيم هو الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الخالق، حيث تقول: (ألا إلى الله تصير الأمور).
فبما أنّه يملك عالم الوجود ويحكمه ويدبره لوحده، وبما أن برامج تكامل الإنسان يجب أن تكون تحت إشراف هذا المدبّر العظيم، لذا فإن الطريق المستقيم هو الطريق الوحيد الذي يوصل إليه، والطرق الأُخرى منحرفة وتؤدي إلى الباطل، وهل هناك حق في هذا العالم غير ذاته المقدسة؟!
هذه الجملة بُشرى للمتقين، وهي في نفس الوقت تهديد للظالمين والمذنبين، لأن الجميع سوف يرجعون إلى الخالق.
وهي دليل على أن الوحي يجب أن يكون من الخالق فقط، لأن جميع الأُمور ترجع إليه وتدبير كلّ شيء بيده، ولهذا السبب وجب أن يكون الباري تعالي هو مصدر الوحي بالنسبة للأنبياء حتى تتمّ الهداية الحقيقية.
وهكذا نرى أن بداية ونهاية هذه الآيات منسجمة فيما بينها ومترابطة، ونهاية السورة - أيضاً - يتلاءم مع بديتها والموضوع العام الساري عليها.
ملاحظات
1ـ ماذا كان دين الرّسول الأعظم قبل نبوته؟
لا يوجد شك في أن الرّسول الأكرم(ص) لم يسجد لصنم قبل بعثته أبداً، ولم ينحرف عن خط التوحيد، فتاريخ حياته يعكس بوضوح هذا المعنى، إلاّ أن العلماء يختلفون في الدين الذي كان عليه:
فذهب بعضهم أنّه دين المسيح(ع)، لأن المسيحية كانت الدين الوحيد الرسمي غير المنسوخ قبل بعثة الرّسول(ص).
وقال البعض الآخر: إنه دين إبراهيم(ع)، لأنّه (شيخ الأنبياء) وأبوهم، وقد ذكرت بعض آيات القرآن أن دين الإسلام هو دين إبراهيم: (ملة أبيكم إبراهيم)(3).
أمّا البعض الآخر فلم يذكر شيئاً واكتفى بالقول بأننا نعلم بأنّه كان على دين معين إلاّ أنّه لم يتوضح لنا ما هو.
وبالرغم من أن كلا من هذه الأقوال يستند إلى دليل معين، إلاّ أنّها ليست قطعية، وأفضلها قول آخر وهو: لقد كان الرّسول(ص) يملك برنامجاً خاصاً من قبل الخالق وكان يعمل به، وفي الحقيقة فقد كان له دين خاص حتى زمان نزول الإسلام عليه .
والدليل على هذا الكلام الجملة التي ذكرناها قبل قليل، والوارد في نهج البلاغة، وهو "ولقد قرن الله به ومن لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته،
يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره".
فوجود مثل هذا الملك يدل على وجود برنامج خاص.
والدليل الآخر هو أنّ التاريخ لم يذكر لنا أبداً أن الرّسول(ص) انشغل بالعبادة في معابد اليهود أو النصارى أو الأديان الأُخرى، ولم يكن إلى جوار الكفار في معابدهم، ولا إلى جوار أهل الكتاب في كنائسهم، وفي نفس الوقت فقد استمر في سلوك طريق التوحيد وكان متمسكاً بقوة بالأصول الأخلاقية والعبادة الإلهية.
وقد وردت عدّة روايات - وفقاً لنقل العلاّمة المجلسي في بحار الأنوارـ في المصادر الإسلامية عن أن الرّسول(ص) كان مؤيداً منذ بداية عمره بروح القدس. وحتماً فإنّه كان يعمل وفقاً لما يستلهمه من روح القدس(4).
ويرى العلاّمة المجلسي أن الرّسول(ص) كان نبياً قبل أن يكون رسولا، فالملائكة كانت تتحدث معه أحياناً وكان يسمع صوتها، وأحياناً كان الإلهام الإلهي ينزل عليه ضمن الرؤيا الحقيقية الصادقة، وبعد أربعين سنة وصل إلى منزلة الرسالة ونزل القرآن والإسلام عليه، وقد ذكر لذلك ستة أدلة حيث يتلاءم بعضها مع ما ذكرناه أعلاه (للإستزادة راجع المجلد 18 من بحار الأنوار ص277 فما بعدها).
2ـ الجواب على سؤال
بعد هذا البحث قد يُطرح هذا السؤال: لماذا تقول الآية: (ماكنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) رغم ما ذكرناه من إيمان وأعمال النّبي(ص) قبل نبوّته؟
وبالرغم من أنّه ورد جواب هذا السؤال بشكل موجز في تفسير الآية، إلاّ أنّه من الأفضل إعطاء توضيح أكثر بهذا الخصوص.
المقصود أنّ الرّسول(ص) لم يكن يعرف بتفصيلات هذا الدين ولا بمحتوى القرآن، قبل نزوله وقبل تشريع الإسلام.
أمّا كلمة الإيمان، فلو لا حظنا أن هذه الكلمة وردت بعد الكتاب، وبملاحظة الجمل الأُخرى الواردة بعدها في الآية، يتضح أن المقصود بها هو الإيمان بمحتوى هذا الكتاب السماوي وليس مطلق الإيمان، لذا لا يوجد أي تعارض مع ذكرناه، ولا يمكن أن تكون هذه الجملة وسيلة لذوي النفوس المريضة كي يستدلوا بها على نفي الإيمان بشكل مطلق عن الرّسول، وينكرون الحقائق التاريخية في هذا المجال.
وقد ذكر بعض المفسّرين أجوبة اُخرى لهذا السؤال منها:
أ - المقصود من الإيمان ليس الإعتقاد لوحده، بل مجموع الإعتقاد والإقرار باللسان والأعمال وهذا هو المقصود به في التعبير الإسلامي.
ب - المقصود من الإيمان هو الإعتقاد بالتوحيد والرسالة، ونحن نعلم أن النّبي كان موحداً، إلاّ أنّه لم يكن يؤمن برسالته بعد.
ج - المقصود من الإيمان هو أركان الإيمان التي لا يتوصل إليها الإنسان عن طريق العقل، والطريق الوحيد لذلك هو الأدلة النقلية (مثل العديد من خصوصيات المعاد).
د - هناك محذوف في هذه الآية وفي التقدير: ما كنت تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان(5).
ولكن حسب اعتقادنا فإن المعنى الأوّل أفضل المعاني وأكثرها تلاؤماً مع محتوى الآية.
3ـ ملاحظة أدبية
هناك كلام كثير حول الضمير في جملة: (لكن جعلناه نوراً) لمن يعود، فذهب البعض أن المقصود هو القرآن نفسه، الكتاب السماوي العظيم لرسول الإسلام(ص)، ويحتمل أن يكون هذا النور هو النور الإلهي لـ(الإيمان).
ولكن الأفضل أن يعود هذا الضمير إلى الإثنين (القرآن والإيمان)، فما داما ينتهيان بحقيقة واحدة، لذا فلا مانع من أن يعود الضمير المفرد إليهما.
إلهي، نور قلوبنا دائماً بنور إيمانك، واهدنا بلطفك إلى الخير والسعادة.
إلهي، ترحّم علينا بالصبر والتحمل حتى لا نطغى عند النعم ولا نجزع عند المصائب والفتن.
إلهي، اجعلنا في صفّ المؤمنين المخلصين في ذلك اليوم الذي يكون فيه الظالمون والمستكبرون حيارى تائهين، والمؤمنون مصونين في ظل حمايتك.
آمين ربّ العالمين
نهاية سورة الشورى
1- نهج البلاغة ـ الخطبة 192 (الخطبة القاصعة).
2- الحج، الآية 78.
3- بحار الأنوار، ج 18، ص288.
4- مجمع البيان بداية سورة الزمر.
5- مجمع البيان وثواب الأعمال و تفسير نور الثقلين.