الآيات 47 - 50

﴿اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمَ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَإ يَوْمَئِذ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِير( 47 ) فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَـكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَـغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الاِْنْسَـنَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ فَإِنَّ الاِْنْسَـنَ كَفُورٌ( 48 ) للهِ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَآءُ إِنَـثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَآءُ الذُّكُورَ( 49 ) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ قَدِيرٌ عَلِيمٌ( 50 )﴾

التّفسير

الأولاد...هبة الرحمن:

بما أنّ الآيات السابقة ذكرت جانباً من العقاب الأليم الموحش للكافرين والظالمين، فإنّ الآيات اعلاه تحذر جميع الناس من هذا المصير المشؤوم، وتدعوهم إلى الإستجابة لدعوة الخالق والعودة إلى طريق الحق.

فأوّل آية تقول: (استجيبوا لربّكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله)(1).

وإذا كنتم تتصورون وجود ملجأ آخر سوى لطفه، وأحداً يحميكم غير رحمته، فإنّكم على خطاً، لأن: (ما لكم من ملجأ يومئذ ومالكم من نكير).

عبارة (يوم لا مرد له من الله) تشير إلى يوم القيامة، وليس إلى يوم الموت. كما أن عبارة (من الله) تشير إلى أن أحداً لا يستطيع أن يتخذ قراراً بعدم العودة قبال أمر الخالق جلّ وعلا.

وعلى أية حال، فجميع الطرق التي يعتقد أنّها تنقذ الشخص من العذاب الإلهي تكونن مغلقة في ذلك اليوم، وأحدها هوالعودة إلى عالم الدنيا والتكفير عن الذنوب والخطايا.

أمّا الآخر فهو وجود ملجاً يأمن الإنسان عند اللجوء إليه.

وأخيراً وجود من يقوم بالدفاع عن الإنسان.

فكل جملة من الجمل الثلاث - للآية أعلاه - تنفي واحداً من هذه الطرق.

وقد فسّر بعضهم جملة (ما لكم من نكير) بمعنى أنكم لا تستطيعون أن تنكروا ذنوبكم هناك، لأن الأدلة والشهود كثيرون بحيث لا مجال للإنكار، إلاّ أن المعنى الأوّل أفضل كما يبدو.

الآية التي بعدها تخاطب الرّسول(ص) وتواسيه قائلة: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً) فلا تحزن عليهم لأنّك لست مسؤولا عن حفظهم من الإنحراف.

(إن عليك إلا البلاغ) سواء قبلوا بذلك أم لم يقبلوا.

يجب عليك أن تقوم بإبلاغ الرسالة الإليهية بأفضل وجه، وتُتِم الحجّة عليهم، أمّا القلوب المهيأة فسوف تقبل بذلك بالرغم من أن كثيراً من الجاهلين سوف يعرضون عنها، ولكنك لست مسؤولا عنهم.

وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في بداية هذه السورة في قوله تعالى: (وما أنت عليهم بوكيل)(2).

ثمّ ترسم صورة لحال هذه الجماعة غير المؤمنة والمعرضة عن الحق فتقول: (وإنا إذا أذقنا الإنسان منّا رحمة فرح بها) ويغفل عن ذكر الخالق: (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور).

فلا النعم الإلهية وشكر المنعم توقظ هذا الإنسان وتجرّه نحو الشكر والمعرفة والطاعة، ولا العقوبات التي تصيبه بسبب الذنوب توقظه من نوم الغفلة، ولا تؤثر فيه دعوة الرّسول (ص).

فعوامل الهداية من حيث "التشريع" هي دعوة رُسُل الخالق، ومن حيث "التكوين" قد تكون النعم وقد تكون المصائب، إلاّ أن هؤلاء الجهلة ذوي القلوب الميتة لا تؤثر فيهم أيّ من هذه العوامل، وهذا بسببهم أنفسهم وليس بسببك، لأنّك قمت بمسؤوليتك في الإبلاغ.

وقد تكون عبارة "إذا أذقنا" في الآية أعلاه (وهي هنا بخصوص رحمة الخالق، وفي آيات قرآنية اُخرى بخصوص العذاب الإلهي) إشارة إلى أن النعم والمصائب في هذه الدنيا تعتبر لا شيء بالنسبة إلى نعم ومصائب الآخرة. أو قد تكون بمعنى أن هؤلاء الأشخاص يصابون بالغرور والطغيان بمجرّد قليل من النعمة، واليأس والكفر بقليل من المصائب.

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أن الخالق يوكل النعم إلى نفسه، لأن رحمته تقتضي ذلك، بينما يوكل المصائب والإبتلاءات إليهم، لأنّها نتيجة أعمالهم.

واستخدام كلمة (الإنسان) في مثل هذه الآيات تشير إلى طبيعة (الإنسان غير المهذّب) حيث أنّه ذو تفكير قصير ونفسية ضعيفة، وتكرار ذلك - في الآية أعلاه - يؤكّد على هذا المعنى.

ثمّ لبيان حقيقية أن أي نعمة ورحمة في هذا العالم مصدرها الخالق، ولا يملك الأفراد شيئاً من عندهم، أشارت الآية إلى قضية عامة ومصداق واضح لهذه الحقيقة، حيث تقول: (لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء).

ولهذا السبب فإنّ الكل يأكل من مائدة نعمه، ويحتاج إلى لطفه ورحمته، فليس منطقياً الغرور عند النعمة، ولا اليأس عن المصيبة.

و"نموذج" واضح لهذه الحقيقة وأن كلّ ما موجود هو منه، والأفراد لا يملكون شيئاً من عندهم هو أنّه: (يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً واناثاً ويجعل من يشاء عقيماً).

وبهذا الترتيب فإن الناس يُقسّمون إلى أربع مجاميع: من عنده الأولاد الذكور ويريد البنات، ومن عنده البنات ويريد الذكور، ومن عنده الذكور والإناث، والجموعة التي تفتقد الأبناء ويأملون ويرغبون فيهم.

والعجيب أن أي شخص لا يستطيع الإنتخاب في هذا المجال سواء في الماضي أو في الوقت الحاضر، بالرغم من تقدم وتطور العلوم، ورغم المحاولات العديدة فإن أحداً لم يستطع أن يهب الأبناء للعقيم الحقيقي، أو يعين نوع المولود وفقاً لرغبة الإنسان بالرغم من دور بعض الأطعمة أو الأدوية في زيادة احتمال ولادة الذكر أو الأنثى، إلاّ أن هذا يبقى مجرّد احتمال ولا توجد أية نتيجة حتمية لهذا الأمر.

وهذا نموذج واضح لعجز الإنسان، ودليل على المالكية والحاكمية والخالقية للباريء جلّ وعلا، وهل هناك مثال أوضح من هذا؟

والطريف في الأمر أن هذه الآيات قدّمت الإناث على الذكور، لكي توضح الأهمية التي يعطيها الإسلام لمنزلة المرأة، ومن جانب ثان تقول للذين لهم تصورات خاطئة عن ولادة البنت أو الأنثى - ويكرهونها - أن الخالق يعطي الشيء الذي يريده هو وليس ما تريدونه أنتم، وهذا دليل على أنّه هو الذي ينتخب.

إن استخدام عبارة (يهب) تعتبر دليلا واضحاً على أن الإناث والذكور من هدايا الخالق وهباته، وليس صحيحاً للمسلم الحقيقي التفريق بين الإثنين.

كما أن استخدام عبارة (يزوجهم) لا تعني التزويج هنا، بل تعني جمع الهبتين (الإناث والذكور) لبعض الناس وبعبارة اُخرى فإن مصطلح (التزويج) يأتي أحياناً بمعنى الجمع بين الأشياء المختلفة أو الأنواع المتعددة، لأن (زوج) تعني في الأصل شيئين أو شخصين متقارنين.

واعتبر بعضهم هذه الآية بمعنى ولادة الذكور والإناث على الترتيب، والبعض الآخر اعتبرها بمعنى ولادة التوائم، يعني الذكر والأنثى.

ولكن العبارة أعلاه لا تدل على أي من التفاسير المذكورة.

إضافةٌ إلى ذلك فإنها لا تتناسب مع ظاهر الآية، لأن الآية تريد الكلام عن مجموعة ثالثة رزقها الله البنات والبنين.

وعلى أية حال، فإن المشيئة الإلهية هي التي تتحكم في كلّ شيء وليس في قضية ولادة الأبناء فحسب، فهو القادر والعليم والحكيم، حيث يقترن علمه بقدرته، لذا فإنّ الآية تقول في نهايتها: (إنّه عليم قدير).

ومن الضروري أن نشير إلى أن كلمة (عقيم) المأخوذة من كلمة (عقم) - على وزن (بخل) وكذلك على وزن (فهم)ـ وتعني في الأصل الجفاف والتصلب المانع من قبول التأثير، والنساء العقيمات تطلق على اللواتي تكون أرحامهن غير مستعدة لتقبل النطفة ونمو الطفل، كما تسمى بعض الرياح بالرياح العقيمة لعدم قدرتها على ربط الغيوم الممطرة، و "اليوم العقيم" يطلق على اليوم الذي ليس فيه سرور وفرح، كما يسمى يوم القيامة باليوم العقيم بسبب عدم وجود يوم بعد ذلك اليوم يمكن فيه التعويض عن الماضي.

وأخيراً فإن الغذاء (المعقم) يطلق على الغذاء الذي تم القضاء على جميع ميكروباته، بحيث لا يمكنها النمو في ذلك المحيط.


1- تفسير القرطبي، المجلد الثامن، ص5873.

2- المؤمنون، الآية 27.