الآيات 37 - 40
﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـئِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ( 37 ) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنْفِقُونَ( 38 ) وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ( 39 ) وَجَزَؤُاْ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـلِمِينَ( 40 )﴾
التّفسير
المؤمنون لا يستسلمون للظلم:
هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر الإلهي للمؤمنين المتوكلين.
فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبية، تشير هذه الآيات إلى سبعة أنواع من البرامج العملية للصفتين السابقتين سواء كانت إيجابية أو سلبية، فردية أو إجتماعية، مادية أو معنوية، وهذه البرامج توضح أسس المجتمع الصالح والحكومة الصالحة القوية.
والملفت للنظر أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة - كما يظهر - وفي ذلك اليوم لم يكن قد تأسس المجتمع الإسلامي بعد، ولم يكن هناك وجود للحكومة الإسلامية، إلاّ أن هذه الآيات أعطت التفكير الإسلامي الصحيح في هذا الخصوص منذ ذلك اليوم، حيث كان الرّسول الكريم(ص) يعلّمهم ويربّيهم لغرض الإستعداد لبناء المجتمع الإسلامي في المستقبل.
فأوّل صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أن الثواب الإلهي العظيم سوف يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش)(1).
"كبائر" جمع "كبيرة" وتعني الذنوب الكبيرة، أمّا ما هو المعيار في الكبائر؟ البعض فسّرها بالذنوب التي توعد القرآن في آياته بعذاب النّار لها، وأحياناً الذنوب التي تستوجب الحدّ الشرعي.
وقد احتمل البعض أنّها إشارة للبدع وإيجاد الشبهات الإعتقادية في أذهان الناس.
ولكننا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي كلمة "كبيرة" فإنّها تعني الذنب الذي يكون كبيراً ومهماً من وجهة نظر الإسلام، وأحد علائم أهميته أنّه ورد في القرآن المجيد وتوعد بالعذاب عليه، وقد ورد تفسير للكبائر في روايات أهل البيت(عليهم السلام)بأنّها: "التي أوجب الله عزّوجلّ عليها النّار"(2).
وعلى هذا الأساس فلو توضحت أهمية وعظمة الذنب بطرق اُخرى، عندها سيشمله عنوان (الكبائر).
"فواحش" جمع "فاحشة" وتعني الأعمال القبيحة للغاية والممقوتة، وذكر هذه العبارة بعد كلمة (الكبائر) من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وفي الحقيقة فإنّ التأكيد على الذنوب القبيحة للغاية بعد ذكر اجتناب المؤمنين الحقيقيين عن جميع الذنوب الكبائر، للتأكيد على أهمية ذلك.
وعلى هذا الأساس فإنّ أوّل علائم الإيمان والتوكل هو الإجتناب عن (الكبائر)، فكيف يمكن للإنسان أن يدعي الإيمان والتوكل على الخالق، في حين أنّه مصاب بأنواع الذنوب وقلبه وكر من أوكار الشيطان؟!
أمّا ثاني صفة، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضاً، فهي السيطرة على النفس عند الغضب الذي يعتبر من أشدّ حالات الإنسان حيث تقول الآية: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون).
فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم عنده، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو والغفران.
وهذه الصفة لا تتوفر إلاّ في ظل الإيمان الحقيقي والتوكل على الحق.
والطريف في الأمر أن الآية لا تقول: إنّهم لا يغضبون، لأنّ الغضب من طبيعة الإنسان، وهناك ضرورة له في بعض الأحيان خاصةً عندما يكون لله وفي طريق إحقاق الحق، بل تقول: إنّهم لا يلوثون أنفسهم بالذنب عند الغضب، وبكل بساطة يعفون ويغفرون، ويجب أن يكونوا هكذا، فكيف يمكن للإنسان أن ينتظر العفو الإلهي في حين أن أعماقه مليئة بالحقد وحب الإنتقام، ولا يعترف بأي قانون عند الغضب؟ وإذا شاهدنا التأكيد على الغضب هنا، فذلك لأنّ هذه الحالة كالنار الحارقة التي تلتهب في داخل أعماق الإنسان، وهناك الكثيرون الذين لا يستطيعون ضبط أنفسهم في تلك الحالة، إلاّ أن المؤمنين الحقيقيين لا يستسلمون أبداً للغضب.
وورد في حديث عن الإمام الباقر(ع): "من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب، وإذا غضب، حرم الله جسده على النّار"(3).
الآية الأُخرى تشير إلى الصفة الثّالثة والرّابعة والخامسة والسادسة، حيث تقول: (والذين استجابوا لربهم).
(وأقاموا الصلاة).
(أمرهم شورى بينهم)(4).
(وممّا رزقناهم ينفقون).
فالآية السابقة كانت تتحدث عن تطهير النفس من الذنوب والتغلب على الغضب، إلاّ أن الآية التي نبحثهاتتحدث عن بناء النفس في المجالات المختلفة، ومن أهمها إجابة دعوة الخالق، والتسليم حيال أوامره، حيث أن الخير كلّ الخير تجسد في هذا الأمر. فهم مستسلمون بكل وجودهم لأوامره، وليست لهم إرادة إزاء إرادته، ويجب أن يكونوا هكذا، لأنّ الإستسلام والإستجابة أمران حتميان بعد تطهير القلب والروح من آثار الذنب الذي يعيق السير نحو الحق.
ونظراً لوجود بعض القضايا المهمّة في التعليمات الإلهية يجب الإشارة إليها بالخصوص، لذا نرى أن الآية أشارت إلى بعض المواضيع المهمّة وخاصة (الصلاة) التي هي عمود الدين وحلقة الوصول بين المخلوق والخالق ومربية النفوس، وتعتبر معراج المؤمن وتنهى عن الفحشاء والمنكر.
بعد ذلك تشير الآية إلى أهم قضية اجتماعية وهي "الشورى" فبدونها تعتبر جميع الأعمال ناقصة، فالإنسان الواحد مهما كان قوياً في فكره وبعيداً في نظره، إلاّ أنّه ينظر للقضايا المختلفة من زاوية واحدة أو عدّة زوايا، وعندها ستختفي عنه الزوايا والأبعاد الأُخرى، إلاّ أنّه وعند التشاور حول القضايا المختلفة تقوم العقول والتجارب المختلفة بمساعدة بعضها البعض، عند ذلك ستتوضح الأُمور وتقل العيوب النواقص ويقل الإنحراف.
لذا فقد ورد في حديث عن الرّسول(ص) أنّه قال: "ما من رجل يشاور أحداً إلاّ هدي إلى الرشد".
والملفت للنظر أن العبارة وردت هنا على شكل برنامج مستمر للمؤمنين، ليس في عمل واحد ومؤقت، بل يجب أن يكون التشاور في جميع الأعمال. والطريف في الأمر أن الرّسول(ص) كان أيضاً يتشاور مع أتباعه وأنصاره في القضايا الإجتماعية المهمّة والتنفيذية والصلح والحرب والأمور المهمّة الأُخرى بالرغم من تكامل عقله وارتباطه بمصدر الوحي، وكان يشاور أصحابه أحياناً بالرغم من المشكل التي تحصل من جراء ذلك، لكي يكون أسوة وقدوة للناس، لأن بركات الإستشارة أكثر بكثير من احتمالات ضررها.
وهناك تفصيلات في نهاية الآية (159) من سورة آل عمران بخصوص (الإستشارة) و (شروط الشورى) و(أوصاف الذين يجب استشارتهم) و(مسؤولية المستشار) حيث لا نرى ضرورة إلى إعادة ذلك، إلاّ أنّه يجب أن نضيف بعض الملاحظات الأُخرى:
أ - الشورى تختص بالأعمال التنفيذية ومعرفة الموضوع وليست لمعرفة الأحكام، لأنّها يجب أن تؤخذ من مصدر الوحي ومن الكتاب والسنة، وعبارة (أمرهم) تشير إلى هذا المعنى أيضاً، لأن الأحكام ليست من شأن الناس، بل هي من أمر الخالق.
ولذا فلا أساس لما يقوله بعض المفسّرين كالآلوسي من أن الشورى تشمل الأحكام أيضاً، حيث لا يوجد نص خاص بذلك، خاصة وأنّنا نعتقد بعدم وجود أي أمر في الإسلام ليس له نص عام أو خاص صادر بشأنّه، وإلاّ فما فائدة (اليوم
أكملت لكم دينكم)(5) ( يجب قراءة تفصيلات عن هذا المعنى في كتب أصول الفقه بخصوص بطلان الإجتهاد بمعنى التقنين في الإسلام).
ب - قال بعض المفسّرين إن شأن نزول عبارة: (أمرهم شورى بينهم)خاص بالأنصار بخصوص الأنصار، إما لأن أعمالهم قبل الإسلام كانت وفقاً للشورى، أو هي إشارة إلى تلك المجموعة من الأنصار الذين آمنوا قبل هجرة النّبي(ص)وبايعوه في (العقبة)، ودعوه إلى المدينة (لأن هذه السورة مكية، والآيات أعلاه نزلت في مكّة كما يظهر أيضاً).
وعلى أية حال، فإن الآية لا تختص بسبب نزولها، بل توضح برنامجاً عاماً وجماعياً.
وننهي هذا الكلام بحديث عن أمير المؤمنين الإمام علي(ع) حيث يقول: "لا ظهير كالمشاورة، والإستشارة عين الهداية"(6).
ومن الضروري الإشارة إلى أن آخر صفة وردت في هذه الآية لا تشير إلى الإنفاق المالي فحسب، وإنّما إنفاق كلّ ما أعطاه الخالق من الرزق كالمال والعقل والذكاء والتجربة، والتأثير الإجتماعي، والخلاصة: الإنفاق من كلّ شيء.
وتقول الآية بخصوص سابع صفة للمؤمنين الحقيقيين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) أيّ أنّهم إذا تعرضوا للظلم لا يستسلمون له، بل يطلبون النصر من الآخرين.
وواضح أنّ الآخرين مكلفون بالإنتصار ضد الظلم، لأن طلب النصر دون النصرة يعتبر لغو ولا فائدة فيه، وفي الحقيقة فإن المظلوم مكلف بمقاومة الظالم وطلب النصرة، وأيضاً فإن المؤمنين مكلفون بإجابته، كما ورد في الآية (72) من سورة الأنفال حيث نقرأ: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر).
هذا البرنامج الإيجابي البناء يحذر الظالمين من مغبة ظلم المؤمنين، حيث أنّهم لا يسكتون على ذلك ويقفون بوجوههم. وهو أيضاً يؤمّل المظلومين بأن الآخرين سوف ينصرونكم عند استغاثتكم.
"ينتصرون" من كلمة "انتصار" وتعني طلب النصر، إلاّ أن البعض فسرها بمعنى "التناصر" والنتيجة واحدة للتوضيح الذي ذكرناه.
على أية حال، فأي مظلوم إذا لم يستطع أن يقف بوجه الظلم بمفرده، فعليه ألا يسكت، بل يستفيد من طاقات الآخرين والنهوض بوجه الظلم، ومسؤولية جميع المسلمين الإستجابة لإستغاثته وندائه.
ولكن بم أنّ التناصر يجب أن لا يخرج عن حد العدل وينتهي إلى الإنتقام والحقد والتجاوز عن الحد، لذا فإن الآية التي بعدها اشترطت ذلك بالقول: (وجزاء سيئة سيئة مثلها).
يجب أن لا تتجاوزوا عن الحد بسبب أن أصدقاءكم هم الذين ظلموا فتنقلبوا إلى أشخاص ظالمين، وخاصة الافراط في الرد على الظلم في مجتمعات كالمجتمع العربي في بداية الإسلام، لذا يجب التمييز بين نصرة المظلوم والإنتقام.
وعمل الظالم يجب أن يسمى بـ (سيئة) إلاّ أن جزاءه وعقابه ليس (سيئة) وإذا وجدنا أنّ الآية عبّرت عن ذلك بالسيئة فبسبب التقابل بالألفاظ واستخدام القرائن، أو أنّ الظالم يعتبرها (سيئة) لأنّه يعاقب، أو يحتمل أن يكون استخدام لفظة (السيئة) لأنّ العقاب أليم ومؤذ، والألم والأذى بحدّ ذاته (سيء) بالرغم من أن قصاص الظالم ومعاقبته يعتبر عملا حسناً بحد ذاته.
وهذا يشبه العبارة الواردة في الآية (194) من سورة البقرة: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله).
على أية حاله، فإنّ هذه العبارة يمكن أن تكون مقدمة للعفو الوارد في الجملة التي بعدها، وكأنّما تريد الآية القول: إنّ العقاب مهما كان فهو نوع من الأذى، وإذا ندم الشخص عندها يستحق العفو.
لذا ففي مثل هذه الموارد ينبغي عليكم العفو، لأن (فمن عفا وأصلح فأجره على الله).
صحيح أنّه فقد حقه ولم يحصل على شيء في الظاهر، إلاّ أنّه بسبب عفوه، العفو الذي يعتبر أساس انسجام المجتمع والتطهّر من الأحقاد وزيادة أواصر الحب وزوال ظاهرة الإنتقام والإستقرار الإجتماعي، فقد تعهد الخالق بأن يعطيه من فضله الواسع، ويا لها من عبارة لطيفة (على الله) حيث أن الخالق يعتبر نفسه مديناً لمثل هؤلاء الأشخاص ويقول بأن أجرهم علىّ.
وتقول الآية في نهايتها: (إنه لا يحب الظالمين).
وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى بعض الملاحظات:
فأوّلا: قد يكون العفو بسبب أن الإنسان لا يستطيع أحياناً السيطرة على نفسه بدقة عند العقاب والقصاص، وقد يتجاوز الحد ويكون في عداد الظالمين.
وثانياً: إن هذا العفو ليس بمعنى الدفاع عن الظالمين، لأن الله لا يحب الظالمين أبداً، بل إن الهدف هو هداية الضالين وتثبيت الأواصر الإجتماعية.
وثالثاً: إنّ الذين يستحقون العفو هم الذين يكفون عن الظلم ويندمون على ما ارتكبوه في الماضي، ويقومون بإصلاح أنفسهم، وليس للظالمين الذين يزدادون جرأة بواسطة هذا العفو.
وبعباة أوضح، فإنّ كلاّ من العفو والعقاب له موقعه الخاص، فالعفو يكون عندما يستطيع الإنسان الإنتقام، وهذا يسمى العفو البناء، لأنّه يمنح المظلوم المنتصر قابلية السيطرة على النفس وصفاء الروح، وأيضاً يفرض على الظالم المغلوب إصلاح نفسه.
والعقاب والإنتقام والردّ بالمثل يكون عندما يبقى الظالم مستمراً في غيه وضلاله، والمظلوم لم يثبّت أركان سيطرته بعد، فالعفو هنا يكون من موقع الضعف فيجب الردّ بالمثل.
وقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرم(ص) أنّه قال: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على الله فليدخل الجنّة، فيقال: من ذا الذى أجره على الله؟ فيقال: العافون عن الناس، فيدخلون الجنّة بغير حساب"(7).
وهذا الحديث - في الحقيقة - هو النتيجة المستوحاة من آخر آية في هذا البحث، والإسلام الأصيل هو هذا.
1- تفسير علي بن إبراهيم ـ طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 583.
2- يقول بعض المفسّرين أنّه متى ماكانت (شورى) مصدراً وتعني المشاورة يجب أن تضاف لها كلمة (ذو) ويصبح تقدير الجملة (أمرهم ذو شورى بينهم) ... أو للمبالغة والتأكيد، لأن ذكر (المصدر) بدلا من (الصفة) يوصل هذا المعنى عادة، لكن إذا كانت شورى كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى (الأمر الذي يتشاور فيه) عندها لا حاجة للتقدير (لاحظ ذلك).
3- المائدة، الآية 3.
4- وسائل الشيعة، المجلد الثامن، ص425 (باب 21 من أبواب الأحكام العشرة).
5- مجمع البيان ـ نهاية الآية التي نبحثها.
6- عبارة (ظلمه) هي من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
7- تفسير (الكشاف)، (روح المعاني) و(روح البيان) نهاية الآيات التي نبحثها.