المراءاة من الطرفين

وكلمة راءى من باب فاعل، مثل "ضارب، وقاتل، وعامل، وجاهد، فتارة ينظر في كلمة جاهد وقاتل إلى صدور الفعل "الجهاد" من نفس فاعله. وأخرى ينظر إلى أن المفاعلة لا بد أن تحصل من طرفين. فقاتل مثلاً: معناها أن هذا يريد قتل ذاك، وذاك يريد قتل هذا.

وكذلك الحال في كلمة راءى فهي تدل على أن هذا الإنسان يُري عمله لذاك، وذاك يريه الثناء عليه، والمدح له، والإعجاب به، فهذا يرائي ذاك في عمله، وذاك يرائي هذا بمدحه وثنائه، وإعجابه. فكل منهما ينتظر من الطرف الآخر ? لا من الله ? مقابل عمله، لأنه لم يراء الله بعمله بل راءى المخلوقين، وطلب منهم المثوبة.

فهذه هي حدود طموحات المرائي، وهذا هو مداه وأفقه الضيق والمحدود، يريد أن يأخذ مقابل عمله في هذه الحياة الدنيا، من هذا الشخص الذي يرائيه، ولا يريد أن يصل بعمله إلى الآخرة، لو كان يصدق بالآخرة، وكان لديه طموح لها.

فالمراءاة إذاً تصبح نتيجة طبيعية لصرف النظر عن الآخرة، إما لعدم التصديق بها، أو لعدم الرغبة فيها. وذلك يعني: أنه لا يدرك، قيمتها ولا يعرف خصوصياتها، أو لا يصدّق بها ولا يصدّق بوعد الله فيها. ولو أنه صدّق وعرف لرغب بها أشد ما تكون الرغبة. قد قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت/64) فقوله: لو كانوا يعلمون، يشير إلى ما ذكرناه.