الآيات 32 - 36

﴿وَمِنْ ءَايَـتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاَْعْلَـمِ( 32 ) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيْحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهـرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـتِ لِّكُلِّ صَبَّار شَكُور( 33 ) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعْفُ عَنْ كَثِير ( 34 )وَيَعْلَمُ الَّذِينَ يُجَـدِلُونَ فِى ءَايَـتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيص( 35 ) فَمَا أُوْتِيتُم مِّن شَىْء فَمَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( 36 )﴾

التّفسير

هبوب الرياح المنتظمة وحركة السفن (عليهم السلام)

مرّة اُخرى نشاهد أنّ هذه الآيات تقوم بتبيان علائم الخالق وأدلة التوحيد، وتستمر في البحث الذي أشارت إليه الآيات السابقة بهذا الخصوص.

وهنا تذكر موضوعاً يتعامل معه الإنسان كثيراً في حياته المادية، خصوصاً المسافرين عبر البحار وسكان السواحل، حيث تقول الآية: (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام).

"جوار" جمع (جارية) وهي صفة للسفن حيث لم تذكر للإختصار، وعادةً فإن الآية تقصد حركة السفن، ولذا فقد استخدمت هذه الصفة.

ويقال للبنت الشابة "جارية" لأن الشباب والنشاط يجري في عروقها ووجودها.

"أعلام" جمع (علم) على وزن (قلم) وتعني الجبل، إلاّ أنّها في الأصل بمعنى العلامة والأثر الباقي الذي يخبر عن شيء معين، مثل (علم الطريق) و(علم الجيش) وما شابه.

أمّا لماذا سمّي الجبل بالعلم؟ فذلك لأنّه ظاهر من بعيد، وأحياناً كانوا يشعلون النّار فوق قمته حتى تكون مناراً للسائرين، إلاّ أن وجود النّار وعدمها لا يؤثر في التسمية.

وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن يعتبر حركة السفن العملاقة في هذه الآية - كما في الآيات المتعددة الأُخرى - بسبب هبوب الرياح المنتظمة، من آيات الخالق.

فليس مهمّاً حركة السفينة الصغيرة أو الزوارق على سطح الماء بسبب هبوب الرياح، المهم حركة السفن والبواخر العملاقة بحمولتها الكبيرة ومسافريها المتعددين عند هبوب الرياح، فتقطع آلاف الأميال وتصل إلى مرساها.

فمن الذي خلق هذه المحيطات بخصوصياتها ومياهها و عمقها؟ من أعطى للخشب الذي تصنع منه السفن خاصية الطفو على سطح الماء؟

ومن يأمر الرياح بالهبوب بشكل منظم على سطح البحار والمحيطات كي يستطيع الانسان أن يصل من نقطة إلى اُخرى بالإستفادة من هذه الرياح؟

نعم، فلو أخذنا بعين الإعتبار الخرائط التي يملكها البّحارة بخصوص حركة الرياح، والمعلومات التي يملكها البشر حول هبوب الرياح من القطبين نحو خط الإستواء ومن خط الإستواء إلى القطبين، وأيضاً هبوب الرياح المتناوبة من السواحل واليابسة نحو البحار وبالعكس، عندها سندرك أن هذا الأمر مخطط وله نظام.

في زماننا، تقوم المحركات الضخمة بتحريك السفن ودفعها إلى الأمام، إلاّ أنّ الرياح تبقى مؤثرة أيضاً في حركة هذه السفن.

وللتأكيد أكثر تقول الآية: (إنّ يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره). وكإستنتاح تضيف الآية في نهايتها: (إنّ في ذلك لآيات لكل صبار شكور).

نعم، فهبوب الرياح، وحركة السفن، وخلق البحار، والنظام الخاص المتناسق الذي يتحكم بهذه الأُمور... كلّها آيات مختلفة للذات المقدسة.

ونعلم أن هبوب الرياح يتمّ بسبب الإختلاف في درجة الحرارة بين منطقتين على الكرة الأرضية، لأنّ الهواء يتمدد بسبب الحرارة ويتحرك نحو الأعلى، ويضغط على الهواء المحيط به ويقوم بتحريكه، ومن جانب آخر يترك مكانه للهواء المجاور له عند تحركه نحو الطبقات العليا، فلو سحب الخالق هذه الخاصية (خاصية التمدد) من الهواء، عندها سيطغى السكون والهدوء القاتل وستقف السفن الشراعية في عرض البحار دون أية حركة.

"صبار" و(شكور) صيغتا مبالغة حيث تعطي الأولى معنى كثرة الصبر، والثانية كثرة الشكر. وهذان الوصفان الواردان في هذه الآية - وفي موارد اُخرى(1) - يشيران إلى ملاحظات لطيفة.

فهاتان الصفتان توضحان حقيقة الإيمان، لأن المؤمن صبور في المشاكل والإبتلاءات وشكور في النعم، وقد ورد في حديث عن الرّسول(ص): "الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر"(2).

إضافةً إلى ذلك، فإنّ البحث في أسرار نظام الخلق يحتاج إلى الصبر والإستمرار وتخصيص الوقت الكافي، ومن جانب ثان يستحق شكر لمنعم.

فمتى ما توفر هذان العاملان عندها يكون الإنسان مؤهلا للبحث في هذه الآيات، وعادةً فإنّ البحث في أسرار الخلق يعتبر بحد ذاته نوعاً من الشكر.

ومن جانب ثالث، فإنّ هاتين الصفتين تتجسدان في الإنسان أكثر من أي وقت مضى متى ما ركب في السفينة، حيث الصبر حيال حوادث ومشاكل البحار، والشكر عند الوصول إلى الساحل.

مرّة اُخرى، لتجسيد عظمة هذه النعمة الإلهية، تقول الآية الأُخرى: (أو يوبقهن بما كسبوا) أيّ لو شاء لأباد هذه السفن بسبب الأعمال التي ارتكبها المسافرون.

وكما قرأنا في الآيات الماضية، فإنّ المصائب التي تصيب الإنسان غالباً ما ما تكون بسبب أعماله.

إلاّ أنّه بالرغم من ذلك فإن اللطف الإلهي يشمل الإنسان: (ويعف عن كثير). فلولا عفو الخالق لم يكن لينجو أحد من عذاب الخالق سوى المعصومين والخواص والطاهرين، كما نقرأ ذلك في الآية (45) من سورة فاطر: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخر هم إلى أجل مسمى).

نعم، فهو يستطيع أن يمنع الرياح من الهبوب حتى تقف السفن في وسط البحار والمحيطات، أو يحوّل هذه الرياح إلى عواصف هوجاء تدمر هذه السفن والبواخر، إلاّ أن لطفه العام يمنع هذا العمل.

(ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص)(3) وما لهم من ملجأ سوى ذاته المنزهة.

فهؤلاء سوف لا يشملهم العفو الإلهي، لأنّهم عارضوه بعلم ووعي، واستمروا في محاربته عن عداوة وعناد، فهؤلاء سوف لا يشملهم عفوه ورحمته، ولا خلاص لهم من عذابه.

"محيص" مأخوذة من كلمة (حيص) على وزن (حيف) وتعني الرجوع والعدول عن أمر ما، وبما أن (محيص) اسم مكان، لذا وردت هذه الكلمة، بمعنى محل الهروب أو الملجأ.

والكلام في آخر آية موجّه إلى الجميع حيث تقول: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا).

فلا تتصوروا أنّه سيبقى لكم، لأنّه كالوميض الذي يبرق ثمّ يخبو، وكالشمعة في مهبّ الريح والفقاعة على سطح الماء، ولكن (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون).

فلو استطعتم أن تستبدلوا هذا المتاع الدنيوي الزائل المحدود التافه بمتاع أبدي خالد، فتلك هي التجارة المربحة العديمة النظير.

فالمواهب في هذه الدنيا لا تخلو من المشاكل، حيث توجد الأشواك دائماً إلى جانب الورود، والمحبطات إلى جانب الآمال، في حين أن الأجر الإلهي لا يحتوي على أي إزعاجات، بل هو خير خالص ومتكامل.

ومن جانب آخر فإن هذه المواهب مهما كانت فستزول حتماً، إلاّ أن الجزاء الأُخروي أبدي خالد، عندها هل يقبل العقل أن يستغني الإنسان عن هذه التجارة المربحة، أو يصاب بالغرور والغفلة وتبهره زخارف الدنيا؟

لذا فإننا نقرأ في الآية 38 من سورة التوبة: (ارضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل).

واساساً، فإنّ "الحياة الدنيا" (بالمعنى المتقدم) تشير إلى الحياة الدنية والحقيرة، وطبيعي أن أي متاع أو وسائل للإستفادة من مثل هذه الحياة ستكون - أيضاًـ مثلها في القيمة.

لذا فقد ورد في حديث عن الرّسول(ص) أنّه قال: "والله ما الدنيا في الآخرة إلاّ مثل أن يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع؟!"(4).

والملفت للنظر أنّه ورد في هذه الآية التأكيد على الإيمان والتوكل، وهذا بسبب أن نيل الأجر الإلهي هو للذين يفوضون أُمورهم في جميع الأعمال ويستسلمون له تعالى إضافة إلى الإيمان، لأن التوكل يعني تفويض الأمور. وتقابل هذه المجموعة أشخاص يجادلون في آيات الله بسبب حب الدنيا والإرتباط بالمتاع الزائل، ويقلبون الحقائق، وبهذا الترتيب فإن آخر آية هي بمثابة تعليل للآية التي قبلها، والتي كانت تتحدث عن الذين يجادلون في آيات الله.


1- جملة (ويعلم الذين يجادلون...) كما يقول الزمخشري في كشافه: وردت منصوبة بسبب عطفها على تعليل محذوف وتقديره: لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون... فالهدف أن ينتقم الخالق من هذه المجموعة، والهدف أن يعلم المجادلون بعدم وجود طريق للنجاة.

2- روح البيان، المجلد الثّالث، ص429 (نهاية الآية 38 من سورة التوبة) .

3- يعتقد غالب المفسّرين أن (الذين يجتنبون) عطف لـ(الذين آمنوا) في الآية السابقة، بالرغم من احتمال البعض أنّها مبتدأ خبره محذوف (وفي التقدير والذين يجتنبون... لهم مثل ذلك من الثواب) إلاّ أن المعنى الأوّل أفضل ظاهراً.

4- نور الثقلين، المجلد الأوّل، ص473.