الآيات 27 - 31
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاَْرْضِ وَلَـكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَر مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ( 27 ) وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ ( 28 )وَمِنْ ءَايَـتِهِ خَلْقُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّة وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ( 29 ) وَمَآ أَصَـبَكُم مِّن مُّصِيبِة فَبَِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَنْ كَثِير( 30 ) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاَْرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِن وِلِىٍّ وَلاَ نَصِير( 31 )﴾
سبب النّزول
نقل عن الصحابي المعروف (خباب بن الأرث) أن الآية الأولى: (ولو بسط...)نزلت فينا، وذلك بسبب أنّنا كنّا ننظر إلى الأموال الكثيرة لبني قريظة وبني النظير وبني القينقاع من اليهود، وكنّا نرغب بامتلاكنا لمثل هذه الأموال، إلاّ أن هذه الآية نزلت وحذرتنا من أن الخالق لو بسط لنا في الرزق فسوف نطغى(1).
وفي تفسير (الدر المنثور) ورد حديث آخر، وهو أن هذه الآية نزلت في أهل الصُفّة، لأنّهم كانو يأملون بتحسن وضع دنياهم(2).
وهناك تفصيل في نهاية الآيات بخصوص أصحاب الصفة ومن هم؟
التّفسير
المترفون الباغون:
قد يكون ارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة بلحاظ ما ورد في آخر آية من الآيات السابقة من أن الخالق يستجيب دعوة المؤمنين، وفي أعقاب ذلك يطرح هذا السؤال: لماذا نرى البعض منهم فقراء، ولا ينالون ما يرغبونه مهما يدعون؟ تقول الآية: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء).
وبهذا الترتيب فإنّ تقسيم الأرزاق يقوم على حساب دقيق من قبل الخالق تجاه عباده، وهذا يحدث بسبب: (إنّه بعباده خبير بصير).
فهو يعلم بمقدار استيعاب أي شخص فيعطيه الرزق وفقاً لمصلحته، فلا يعطيه كثيراً لئلا يطغى، ولا قليلا لئلا يستغيث من الفقر.
وجاء ما يشبه هذا المعنى في الآية (السادسة) و(السابعة) من سورة العلق: (إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).
وهو حقّاً كذلك، فالبحث في أحوال الناس يدل على هذه الحقيقة الصادقة، وأنّه عندما تقبل الدنيا عليهم ويعيشون في رفاهية وسعة، ينسون الخالق ويبتعدون عنه ويغرقون في بحر الشهوات، ويفعلون ما لا ينبغي فعله، ويشيعون الظلم والجور والفساد في الأرض.
وفي تفسير آخر عن (ابن عباس) في هذه الآية ورد أن المقصود من (البغي) ليس الظلم والجور، وإنّما (بغى) تعني(طلب) أي يكون معنى الآية أنّهم يطلبون أكثر ولا يشبعون.
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل مقبول من قبل عدّة مفسّرين وهو الأفضل كما يظهر، لأن عبارة: (يبغون في الأرض) وردت عدة مرات في الآيات القرآنية بمعنى الفساد والظلم في الأرض، مثل: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق)(3) و(إنّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق)(4).
صحيح أن (بغى) وردت بمعنى (طلب) أيضاً، إلاّ أنّها متى ما تذكر مع كلمة (في الأرض) فإنها تعني الفساد والظلم في الأرض.
وهنا يطرح سؤالان:
الأوّل: لو كان تقسيم الأرزاق وفق هذا البرنامج، فلماذا إذن نرى أشخاصاً لهم رزق وفير وقد أفسدوا وطغوا كثيراً في الدنيا ولم يمنعهم الخالق، سواء على مستوى الأفراد، أو الدول الناهبة والظالمة؟
وفي الجواب على هذا السؤال يجب الإنتباه إلى هذه الملاحظة، وهي أن بسط الرزق أحياناً قد يكون أسلوباً للإمتحان والإختبار، لأن جميع الناس يجب أن يُختبروا في هذا العالم، فقسم منهم يختبرون بواسطة المال.
وأحياناً قد يكون بسط الرزق لبعض الافراد لكي يعلموا بأن الثروة لا تجلب السعادة، فعسى أن يعثروا على الطريق ويرجعوا إلى خالقهم، و نحن الان نرى بعض المجتمعات غرقى بأنواع النعم والثروات، وفي نفس الوقت شملتهم مختلف المصائب والمشاكل، كالخوف، والقتل، والتلوث الخلقي، والقلق بأنواعه المختلفة.
فأحياناً تكون الثروة غير المحدودة نوعاً من العقاب الإلهي الذي يشمل بعض الناس، فإذا نظرنا إلى حياتهم من بعيد نراها جميلة، أمّا إذا تفحصناها عن قرب فسوف نشاهد التعاسة بأدنى حالاتها!، وفي هذا المجال هناك قصص عديدة لسلاطين الثروة في الدنيا، حيث يطول بنا المقام لو أردنا سردها.
السؤال الآخر هو: ألا يعني هذا الكلام أنّه متى ما كان الإنسان فقيراً فلا ينبغي له السعي للتوسع في الرزق، لأن الخالق جعل مصلحته في هذا الفقر؟
وللجواب على هذا السؤال نقول: إنه قد تكون قلة الرزق بسبب كسل الإنسان وتهاونه أحياناً، فهذا النقص والحرمان ليس ما يريده الله حتماً، بل بسبب أعماله، والإسلام يدعو الجميع إلى الجهد والجهاد والمثابرة وفقاً لتأكيده على أصل السعي وبذل الجهد الذي يشير إليه القرآن في آيات عديدة، وسنة الرّسول(ص) والائمة الأطهار(عليهم السلام).
ولكن عندما يبذل الإنسان منتهى جهده، ورغم ذلك تغلق الأبواب في وجهه، عليه أن يعلم بأن هناك مصلحة معينة في هذا الأمر، فلا يجزع، ولا ييأس، ولا ينطق بالكفر، ويستمر في محاولاته ويستسلم لرضا الخالق أيضاً.
وتجدر الإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن كلمة (عباده) لا تتعارض أبداً مع الطغيان عند بسط الرزق، لأن هذه العبارة تستخدم في الأفراد الصالحين والسيئين والمتوسطي الحال، مثل: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله).
صحيح أن الخالق ينزل الرزق بقدر حتى لا يطغي العباد، إلاّ أنّه لا يمنعهم أو يحرمهم، لذا فإن الآية التي بعدها تقول: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته).
ولماذا لا يكون هذا: (وهو الولي الحميد)؟
هذه الآية تتحدث عن آيات وعلائم التوحيد في نفس الوقت الذي تبيّن فيه نعمة ولطف الخالق، لأن نزول المطر يشتمل على نظام دقيق للغاية ومحسوب، فعندما تشرق الشمس على المحيطات تفصل ذرات الماء الدقيقة عن الأملاح وترسلها على شكل سحب إلى السماء، ثمّ تقوم طبقات الجو العليا الباردة بتكثيفها، ثمّ تحملها الرياح إلى الأراضي اليابسة، ثمّ تتحول أخيراً إلى قطرات مطر بسبب برودة الهواء وضغطه الخاص وتهطل على الأرض، وتنفذ فيها دون تخريب.
نعم، فلو دققنا النظر في هذا النظام، فسنجد علائم قدرة الخالق وعلمه متجلية فيه، فهو الولي الحميد الذي يقوم بتأمين كلّ حاجات العباد وتشملهم ألطافه العديدة.
ولابدّ القول أن كلمة (غيث) تعني المطر النافع، كما يقول العديد من المفسّرين وبعض علماء اللغة، في حين أن (المطر) يطلق على جميع الأنواع الأُخرى النافعة والضارة.
لذا، فبعد تلك الجملة وردت عبارة: (وينشر رحمته).
ياله من تعبير لطيف وشامل! فهو ينشر رحمته لإحياء الأراضي الميتة، ونمو النباتات وتنظيف الهواء، وتأمين ماء الشرب للإنسان وباقي الكائنات الحية، والخلاصة في جميع المجالات.
فلو أراد الإنسان أن يدرك مفهوم هذه الجملة القرآنية، فإنّ عليه أن يتوجه نحو الجبال والسهول بعد نزول المطر وعندما تشرق الشمس، كي يشاهد الجمال واللطافة ورحمة الخالق الواسعة وهي تعمر كلّ مكان.
وقد تكوه الإستفادة من كلمة (غيث) بسبب أن لها جذوراً مشتركة مع (غوث) المأخوذه من الإغاثة، ولهذا السبب فإن بعض المفسّرين اعتبر الكلمة أعلاه إشارة إلى أي إغاثة من قبل الخالق بعد اليأس ونشر رحمته(5).
ولهذه المناسبة - أيضاًـ فإن الآية التي بعدهاتتحدث عن أهم آيات علم وقدرة الخالق، حيث تقول: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة).
فالسموات بعظمتها، بمجراتها وكواكبها، بملايين الملايين من النجوم العظيمة اللامعة، بنظامها الدقيق الذي يبهت الإنسان عند مطالعته لها. والأرض بمنابعها الحياتية ونباتاتها المتنوعة ولورود والفواكه بمختلف البركات والمواهب والجمال! كلها تعتبر آيات وعلائم تدل عليه... هذا من جانب.
ومن جانب آخر فالأحياء في الأرض والسماء، كأنواع الطيور، ومئات الآلاف من الحشرات، وأنواع الحيوانات الأليفة والمتوحشة، والزواحف، والأسماك بأنواعها وأحجامها، والعجائب المختلفة الموجودة في كلّ نوع من هذه الأنواع، والأهم من ذلك حقيقة (الحياة) وأسرارها التي لم يستطع أحد التوصل إلى كنهها بعد آلآف السنين من البحوث لملايين العلماء، كلّ ذلك هو من آيات الخالق.
والملفت للنظر أن (دابة) تشمل الكائنات الحية المجهرية التي لها حركات لطيفة وعجيبة، وتشمل الحيوانات الكبيرة العملاقة التي يصل طولها إلى عشرات الأمتار ووزنها إلى عشرات الأطنان، فكل صنف يسبّح على طريقته الخاصة ويحمد الخالق، ويبيّن عظمته تعالى وقدرته وعلمه اللامحدود، بلسان حاله.
وتقول الآية في نهايتها: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير)(6).
أمّا ما هو المقصود من جمع الأحياء الذي تذكره هذه الآية؟ فقد ذكر العديد من المفسّرين أنّه الجمع للحساب وجزاء الأعمال في القيامة، ويمكن اعتبار الآيات التي تذكر القيامة بعنوان (يوم الجمع) دليلا على هذا المعنى (مثل الآية 7 من نفس هذه السورة والآية 9 من سورة التغابن).
وهنا قد يطرح هذا السؤال وهو: هل أن جميع الأحياء سيحشرون يوم القيامة، حتى غير الإنسان؟ حيث يقال أحياناً أن كلمة (دابة) تطلق على غير الإنسان. وهنا ستُطرح هذه المشكلة وهي كيف ستحشر الأحياء من غير الإنسان للحساب. في حين أنّها لا تتمتع بعقل ولا اختيار ولا تكليف؟
وقد ورد جواب هذا السؤال في نهاية الآية (38) من سورة الأنعام: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثمّ إلى ربهم يحشرون).
وقلنا أن حياة العديد من الحيوانات مقترنة مع نظام بديع وعجيب، فما المانع من أن تكون أعمالها نتاج نوع من العقل والشعور فيها؟ وهل هناك ضرورة لأرجاع جميع هذه الأُمور إلى الغريزة؟ وفي هذه الحالة يمكن تصور نوع من الحشر والحساب لها (اقرأ شرحاً أكثر لهذا الموضوع في ذيل تفسير الآية 38 من سورة الأنعام).
ويحتمل في تفسير الآية أعلاه أن المقصود من (الجمع) الجانب المقابل لـ (بث)، أي أن (بت) تشير إلى خلق أنواع الكائنات الحية باختلافها، ثمّ إذا شاء الخالق (جمعها) وأفناها. فكما أن العديد من الأحياء - (على مدى التاريخ) - انتشرت بشكل عجيب، ثمّ انقرضت واختفت فيما بعد. كذلك جمعها وإبادتها يكون بيد الخالق، فهي في الحقيقة تشبه الآيات التي تقول: يحيي ويميت (أي الخالق).
وبهذا فإنّ قضية حساب الحيوانات سوف تكون أجنبية عن هذه الآية.
النجوم السماوية الآهلة:
من الإستنتاجات المهمّة التي نستنتجها من خلال هذه الآية، أنّها تدل على وجود مختلف الأحياء في السماوات، وبالرغم من عدم صدور الرأي النهائي للعلماء بهذا الخصوص، إلاّ أنّهم يقولون وعلى نحو الإيجاز: هناك احتمال قوي بوجود عدد كبير من النجوم من بين الكواكب السماوية تحتوي على كائنات حية، إلاّ أن القرآن يصرح بهذه الحقيقة من خلال: (وما بث فيهما من دابة).
وما يقوله بعض المفسّرين من احتمال تخصص (فيهما) بالكرة الأرضية غير سديد، لوجود ضمير المثنى والذي يعود إلى السماء والأرض معاً، وكذلك لا يصح ما قيل في تفسير (دابة) بالملائكة، لأن دابة تطلق عادة على الكائنات المادية.
ويمكن استفادة هذا المعنى أيضاً من خلال الآيات القرآنية المتعددة الأُخرى.
وفي حديث ورد عن الإمام علي بن أبي طالب(ع) أنّه قال: "هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور"(7).
وهناك روايات اُخرى متعددة في هذا المجال (يمكن مراجعة كتاب "الهيئة والإسلام" لمزيد من المعلومات).
وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن الرحمة الإلهية، لذا يُطرح سؤال في هذا المجال، وهو كيف تجتمع الرحمة وكل هذه المصائب التى تصيبنا؟
الآية الأُخرى تجيب على هذا السؤال وتقول: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم).
ثم إن هذا الجزاء ليس جزاءً على جميع أعمالكم القبيحة، لأنّه (ويعفو عن كثير).
ملاحظات
علّة المصائب:
ومن الضروري الإنتباه إلى بعض الملاحظات الواردة في هذه الآية:
1 - تبيّن هذه الآية وبوضوح أن المصائب التي تصيب الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي (بالرغم من وجود بعض الإستثناءات التي سنشير إليها فيما بعد).
وبهذا الترتيب سيتوضح لنا جانب من فلسفة الحوادث المؤلمة والمشاكل الحياتية.
والطريف في الأمر أنّنا نقرأ في حديث عن الإمام علي(ع) أنّه نقل عن الرّسول(ص)قوله: "خير آية في كتاب الله هذه الآية، يا علي ما من خدش عود، ولا نكبة قدم إلا بذنب، وما عفى الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده"(8).
وهكذا فإنّ هذه المصائب إضافة إلى أنّها تقلل من حمل الإنسان، فإنها تجعله يتزن في المستقبل.
2 - بالرغم من عمومية الآية وشمولها كلّ المصائب، لكن توجد استثناءات لكلم عامّ، مثل المصائب والمشاكل التي أصابت الأنبياء والأئمة المعصومين(عليهم السلام)بهدف الإختبار أو رفع مقامهم.
وأيضاً المصائب بهدف الاختبار التي تشمل غير المعصومين. أو المصائب التي تحدث بسبب الجهل أو عدم الدقة في الأمور وعدم الإستشارة والتساهل والتي هي آثار تكوينية لأعمال الإنسان نفسه.
وبعبارة اُخرى فإن الجمع بين الآيات القرآنية المختلفة - والأحاديث - يقتضي التخصيص في بعض الموارد بالنسبة لهذه الآية العامة، وليس هذا موضوعاً جديداً ليكون محل نقاش بعض المفسّرين.
وخلاصة القول فإنّ هناك غايات مختلفة للمصائب والمشاكل التي تصيب الإنسان، حيث تمّت الإشارة إليها في المواضيع التوحيدية وبحوث العدل الإلهي.
فالملكات تنمو وتتكامل تحت ضغط المصائب، ويكون هناك حذر بالنسبة للمستقبل، ويقظة من الغرور والغفلة وكفارة للذنب و... وبما أن أغلب أعمال الأفراد لها طبيعة جزائية وتكفيرية، لذا فإنّ الآية تطرح ذلك بشكل عام.
ولذا فقد ورد في الحديث أنّه وعندما دخل علي بن الحسين(ع) على يزيد بن معاوية، نظر إليه يزيد وقال: يا على، ما أصابكم من مصيبة فبماكسبت أيديكم (إشارة إلى أنّ مأساة كربلاء هي نتيجة أعمالكم).
إلاّ أنّ الإمام(ع) أجابه مباشرة: "كلا ما نزلت هذه فينا، إنّما نزل فينا:(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم) فنحن الذين لا نأسى على مافاتنا من أمر الدنيا، ولا نفرح بما أوتينا"(9).
وننهي هذا الكلام بحديث آخر عن الإمام الصادق(ع) فعندما سئل عن تفسير الآية أعلاه قال: تعلمون أن علياً وأهل بيته قد أصيبوا بالمصائب من بعده، فهل كان ذلك بسبب أعمالهم؟ في حين أنّهم أهل بيت الطهر، والعصمة من الذنب، ثمّ أضاف: نص إنّ رسول الله كان يتوب إلى الله ويستغفر في كلّ يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب، إنّ الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب(10).
3 - البعض يشكك في أن يكون المقصود من المصائب في هذه الآية مصائب الدنيا، لأن الدنيا هي دار العمل وليس دار الثواب والجزاء.
وهذا خطأ كبير، لوجود آيات وروايات متعددة تؤّكد أن الإنسان يرى - أحياناً - جانباً من نتيجة أعماله في هذه الدنيا، وما يقال من أن الدنيا ليست داراً للجزاء ولا تتم فيها تصفية جميع الحسابات، لا يعني عدم الجزاء بشكل مطلق، حيث أن إنكار هذه الحقيقة يشبه إنكار البديهيات، كما يقول المطّلعون على المفاهيم الاسلامية.
4 - أحياناً قد تكون المصائب جماعية، وبسب ذنوب الجماعة، كما نقرأ في الآية (41) من سورة الروم: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون).
وواضح أن هذا يختص بالمجتمعات الإنسانية التي أصيبت بالمصائب بسبب أعمالها.
وورد في الآية 11 من سورة الرعد: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
وهذه الآيات تدل على وجود إرتباط وعلاقة قريبة بين أعمال الإنسان والنظام التكويني للحياة، فإذا سار الناس وفقاً لأصول الفطرة وقوانين الخلق فستشملهم البركات الإلهية، وعند فسادهم يفسدون حياتهم.
وأحياناً قد يصدق هذا الأمر بخصوص آحاد الناس، فكل إنسان سيصاب في جسمه وروحه أو أمواله ومتعلقاته الأُخرى بسبب الذنب الذي يرتكبه، كما جاء في الآية أعلاه(11).
على أية حال، فقد يتصور البعض أنّهم يستطيعون الهروب من هذا القانون الإلهي الحتمي. لذا فإن آخر آية في هذا البحث تقول: (وما أنتم بمعجزين في الأرض)(12). وفي السماء بطريق اولى وكيف تستطيعون الهروب من قدرته وحاكميته في حين أن كلّ عالم الوجود هو في قبضته ولا منازع له؟
وإذا كنتم تعتقدون بوجود من سيساعدكم وينصركم، فاعلموا: (ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير).
قد يكون الفرق بين (الولي) و (النصير) هو أن الولي هو الذي يقوم بجلب المنفعة، والنصير هو الذي يقوم بدفع الضرر، أو أن الولي يقال لمن يدافع بشكل مستقل، والنصير يقال لمن يقف إلى جانب الإنسان ويقوم بنصرته.
وفي الحقيقة فإن آخر آية تجسد ضعف وعجز الإنسان، والآية التي قبلها عدالة الخالق ورحمته(13).
مسائل مهمّة
الاولى: مصائبكم بما كسبت أيديكم:
يتصور العديد من الناس أن علاقة أعمال الإنسان بالجزاء الإلهي مثل العقود الدنيوية وما تحتويه من الأجر والعقاب، في حين قلنا - مراراً - إن هذه العلاقة أقرب ما تكون إلى الإرتباط التكويني منه إلى الإرتباط التشريعي.
وبعبارة اُخرى فإنّ الأجر والعقاب أكثر ما يكون بسبب النتيجة الطبيعية والتكوينية لأعمال الإنسان حيث يشملهم ذلك. والآيات أعلاه خير شاهد على هذه الحقيقة.
وبهذا الخصوص هناك روايات كثيرة في المصادر الإسلامية نشير إلى بعضها لتكميل الموضوع:
1 - ورد في إحدى خطب نهج البلاغة: "ماكان قوم قط في غض نعمة من عيش، فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها، لأن الله ليس بظلام للعبيد، ولو أنّ الناس حين تنزل بهم النقم، وتزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نياتهم، ووله من قلوبهم، لردّ عليهم كلّ شارد، وأصلح لهم كلّ فاسد"(14).
2 - وهناك حديث آخر عن أمير المؤمنين الإمام علي(ع) في (جامع الأخبار) حيث يقول: "إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة"(15).
وهذا الحديث خير شاهد للإستثناءات التي ذكرناها لهذه الآية.
وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق(ع) في الكافي أنّه قال: "إن العبد إذا كثرت ذنوبه، ولم يكن عنده من العمل ما يكفرها، ابتلاه بالحزن ليكفرها"(16).
4 - وهناك باب خاص لهذا الموضوع في كتاب أصول الكافي يشمل 12 حديثاً(17).
وكل هذه هي غير الذنوب التي صرحت الآية أعلاه بأن الخالق سيشملها بعفوه ورحمته، حيث أنّها - بحد ذاتها - كثيرة.
الثانية: اشتباه كبير
قد يستنتج البعض بشكل خاطىء من هذه الحقيقة القرآنية ويقول بوجوب الإستسلام لأي حادثة مؤسفة، إلاّ أن هذا الأمر خطير للغاية، لأنّه يستفيد من هذا الأصل القرآني التربوي بشكل معكوس ويستنتج نتيجة تخديرية.
فالقرآن لا يقول أبداً بالإستسلام حيال المصائب وعدم السعي لحل المشاكل، والركون للظلم والجور والمرض، بل يقول: إذا شملتك المصائب بالرغم من سعيك ومحاولاتك لدفعها، فاعلم أن ذلك هو كفارة الذنوب التي قمت بها وارتكبتها، عليك أن تفكر بأعمالك السابقة، وتستغفر لذنوبك، وتصلح نفسك وتكتشف نقاط ضعفك.
وإذا ورد في الروايات أن هذه الآية من أفضل آيات القرآن، فذلك بسبب تأثيرها التربوي المهم، ومن جانب آخر تقوم بتخفيف هموم الإنسان، وتعيد الأمل وعشق الخالق إلى قلبه وروحه.
الثّالثة: من هم أصحاب الصفة؟
الذين يذهبون إلى زيارة قبر النّبي(ص) في المدينة، يشاهدون مكاناً مرتفعاً قليلا عن الأرض في زاوية المسجد وقرب القبر الشريف حيث عزلت أطرافه بشكل جميل عن باقي المسجد، كما أن الكثير ينتخب هذا المكان لتلاوة القرآن والصلاة.
هذا المكان يذكرنا بمكان (الصفّة) وهو المحل الذي هيأه النّبي(ص)لمجموعة من الغرباء الذين اعتنقوا الإسلام ولم يكن لديهم مأوى سوى المسجد(18).
توضيح:
أوّل شخص غريب اعتنق الإسلام ولم يكن يملك مكاناً في المدينة هو شاب من أهل اليمامة يسمى (جويبر) حيث أن قصة زواجه الشهيرة مع (الذلفاء) تعتبر من أجمل حوادث محاربة الفواصل الطبقية في التأريخ الإسلامي.
وقد سمح له الرّسول(ص) بالمبيت ليلا في المسجد، لأنّه لا يملك مكاناً للإستراحة والسكن، وعندما كثر عدد الغرباء - وكلهم سكن المسجد - أدى ذلك إلى وضع سلبي للمسجد، أمر الرّسول(ص) بإخراجهم من المسجد وتطهيره، واغلقت أبواب بيوت الصحابة التي كانت شارعة إلى المسجد بأمر الرّسول(ص)ما عدا بيت علي وفاطمة(عليهما السلام).
عندها أمر الرّسول(ص) بتسقيف مكان معين بسعف النخل ليكون محلا لسكن الغرباء والفقراء، وكان بنفسه يزورهم ويعطيهم الماء والتمر والخبز والمواد الغذائية الأُخرى، وقام باقي المسلمين بالإهتمام بهم ومساعدتهم عن طريق الزكاة وأنواع الإنفاق الأُخرى.
وقد اشترك هؤلاء في المعارك الإسلامية وجاهدوا بإخلاص، وقد وردت بعض الآيات القرآنية لتذكر فضلهم وصفاءهم وطهرهم، وقد سمّوا (بأصحاب الصُفّة) لأنّهم سكنوا تلك (الصفّة).
1- يونس، الآية 23.
2- آية 42 من نفس هذه السورة.
3- يقول الراغب في مفرداته: الغوث يقال في النصرة، والغيث في المطر.
4- (إذا) وكما يقول صاحب الكشاف، تدخل على الفعل المضارع كما تدخل على الفعل الماضي، مثل (والليل إذا يغشى) ولكن الفعل أكثر ما يكون بعد (إذا) على شكل الماضي وقليل جداً على شكله المضارع.
5- سفينة البحارـ كلمة نجم ـ المجلد الثّاني ـ ص574، نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم القمي.
6- مجمع البيان، المجلد 9، ص31 (نهاية الآيات التي نبحثها) وقد ورد ما يشبه هذا الحديث في (الدر المنثور) وتفسير (روح المعاني) مع بعض الإختلاف وذلك في نهاية الآيات التي نبحثها، والأحاديث في هذا المجال كثيرة.
7- تفسير على بن بن إبراهيم طبقاً لنور الثقلين، المجلد الرابع، ص580.
8- أصول الكافي طبقاً لنور الثقلين، المجلد الرابع، ص581.
9- الميزان، المجلد 18، ص61.
10- "معجزين" من كلمة (إعجاز) إلاّ أنّها وردت في العديد من الآيات القرآنية بمعنى الهروب من محيط القدرة الإلهية ومن عذابه، حيث يقتضي معناها ذلك.
11- في ظلال القرآن ـ المجلد السابع ص290.
12- نهج البلاغة ـ الخطبة 178.
13- بحار الأنوار، المجلد 81، ص198.
14- الكافي،ـ المجلد الثّاني، كتاب الإيمان والكفر ـ باب تعجيل عقوبة الذنب ـ الحديث 2.
15- المصدر السابق.
16- "صفة" على وزن (غصّة) وتعني في اللغة الصيفية المغطاة بسعف النحل.
17- إبراهيم ـ 5، لقمان ـ31، سبأ ـ19، والآية التي نبحثها.
18- تفسير الصافي، مجمع البيان، الفخر الرازي والقرطبي نهاية الآية (31) من سورة لقمان.