الآيات 24 - 26

﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْبَـطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَـتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ( 24 ) وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ( 25 ) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ وَيَزِيدُهُم مِّنْ فَضْلِهِ وَالْكَـفِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ( 26 )﴾

التّفسير

يقبل التوبة عن عباده:

هذه الآيات تعتبر استمراراً للآيات السابقة في موضوع الرسالة وأجرها، ومودّة ذوي القربى وأهل البيت(عليهم السلام).

فأوّل آية تقول: إن هؤلاء القوم لا يقبلون الوحي الإلهي، بل: (أم يقولون افترى على الله كذباً) وهذا الإعتقاد وليد أفكارهم حيث ينسبونه إلى الخالق.

في حين: (فإن يشأ الله يختم على قلبك) ويجردك من قابلية إظهار هذه الآيات.

وفي الحقيقة، فإن هذا الأمر إشارة إلى الإستدلال المنطقي المعروف، وهو أنّه إذا ادعى شخص النبوة، وجاء بالآيات البينات والمعاجز، وشمله النصر الإلهي، فلو كذب على الخالق فإن الحكمة الإلهية تقتضي سحب المعاجز منه وفضحه وعدم حمايته، كما ورد في الآيات (44) إلى (46) من سورة الحاقة: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنامنه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين).

وقد ذكر بعض المفسّرين احتمالات اُخرى في تفسير هذه الجملة، إلاّ أن ما قلناه أعلاه هو أفضل وأوضح التفاسير كما يظهر.

ونلاحظ أيضاً أن إحدى التهم التي نسبها الكفار والمشركون إلى الرّسول(ص)هي أنّه يعتبر أجر الرسالة في مودّة أهل بيته وأنّه يكذب على الخالق في هذا الأمر: (جاء ذلك وفقاً للبحث في الآيات السابقة) إلاّ أن الآية أعلاه نفت هذه التهمة عنه(ص).

ولكن بالرغم من هذا، فإن مفهوم الآية لا يختص بهذا المعنى، فأعداء الرّسول كانوا يتهمونه بهذه التهمة في كلّ القرآن والوحي كما تقول الآيات القرآنية الأُخرى، حيث نقرأ في الآية (38) من سورة يونس: (أم يقولون افتراه قل فأتوات بسورة مثله).

وورد نفس هذا المعنى باختلاف بسيط في الآيات (13) و (35) من سورة هود، وقسم آخر من الآيات القرآنية، حيث أنّ هذه الآيات دليل لما انتخبناه من تفسير للآية أعلاه.

ثم تقول الآية لتأكيد هذا الموضوع: (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته)(1).

فهذه هي مسؤولية الخالق في توضيح الحق وفضح الباطل وفقاً لحكمته، وإلاّ فكيف يسمح لشخص بالكذب عليه وفي نفس الوقت ينصره ويظهر على يديه المعاجز؟

كما أن من الاخطاء الكبيرة أن يتصور البعض قيام الرّسول(ص) بهذا العمل مُخفياً ذلك عن علم الخالق: (إنّه عليم بذات الصدور).

وكا قلنا في تفسير الآية 38 من سورة فاطر،فإنّ (ذات) لا تعني في اللغة العربية عين الأشياء وحقيقتها، بل هو مصطلح من قبل الفلاسفة(2)، حيث أن ذات تعني - (الصاحب)، عندها سيكون مفهوم جملة: (إنه عليم بذات الصدور) إن الخالق عليم بالأفكار والعقائد المسيطرة على القلوب، وكأنما هي صاحبة هذا القلب ومالكته.

وهذه إشارة لطيفة إلى استقرار الأفكار وحاكميتها على قلوب وأرواح الناس (فدقق في ذلك).

وبما أن الخالق يبقي طريق الرجعة مفتوحاً أمام العباد، لذا فإن الآيات القرآنية بعد ذم أعمال المشركين والمذنبين القبيحة تشير الى أن الابواب التوبة مفتوحة دائماً: ولذا تقول الآية محل البحث: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات).

إلاّ أنكم إذا تظاهرتم بالتوبة وأخفيتم أعمالا اُخرى، فلا تتصوروا أن ذلك يخفى عن علم الخالق، لأنّه: (ويعلم ما تفعلون).

وقلنا في سبب النّزول الذي ذكرناه في بداية الآيات السابقة، أنّه بعد نزول آية المودّة، قال بعض المنافقين وضعفاء الإيمان: إنّ هذا الكلام افتراه محمّد على الخالق، ويريد به أن يذلنا بعده لأقرباءه، عندها نزلت آية: (أم يقولون افترى على الله كذباً) ردّاً عليهم، وعندما علموا بنزول هذه الآية تندم بعضهم وبكى وبات قلق البال، في ذلك الوقت نزلت الآية: (وهو الذي يقبل التوبة...) وبشرتهم بغفران الذنب إذا تابوا إلى الله توبةً نصوحاً.

أمّا آخر آية فتوضح الجزاء العظيم للمؤمنين، والعذاب الأليم للكافرين في جمل قصيرة فتقول: إنّ الله تعالى يستجيب لدعاء المؤمنين وطلباتهم: (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات). بل: (ويزيدهم من فضله) وسوف يعطيهم ما لم يطلبوا. (والكافرون لهم عذاب شديد).

وقد تمّ ذكر تفاسير مختلفة للأمر الذي سيستجيبه من المؤمنين، حيث أن بعض المفسّرين حدد ذلك في طلبات معينة، منها:

أنّه سيستجيب دعاء المؤمنين أحدهم للآخر.

ومنها أنّه سيقبل عباداتهم وطاعاتهم.

ومنها أن ذلك مختص بشفاعتهم لاخوانهم.

ولكن لا يوجد أي دليل على هذا التحديد، حيث أن الخالق سيستجيب أي طلب للمؤمنين الذين يعملون الصالحات والأكثر من ذلك فإنّه سيهبهم من فضله أُموراً قد لا تخطر على بالهم ولم يطلبوها، وهذا غاية اللطف والرحمة الإلهية بخصوص المؤمنين.

وورد في حديث عن الإمام الصادق(ع) عن الرّسول الأكرم(ص) في تفسير: (ويزيدهم من فضله): "الشفاعة لمن وجبت له النّار ممن أحسن إليهم في الدنيا"(3).

ولا يعني هذا الحديث العظيم في معناه اقتصار الفضل الإلهي بهذا الأمر فحسب، بل يعتبر أحد مصاديقه الواضحة.


1- تفسير"مجمع البيان" نهاية الآيات التي نبحثها.

2- تفسير الفخر الرازي، تفسير أبو الفتوح الرازي، وتفسير القرطبي (نهاية الآية التي نبحثها).

3- ينقل الدر المنثور هذا الحديث عن الحاكم والبيهقي وأبي نعيم (ج6 ص8).