الآيتان 19 - 20
﴿اللهُ لَطِيفُ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ( 19 ) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَْخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الاَْخِرَةِ مِن نَّصِيب( 20 )﴾
التّفسير
مزرعة الدنيا والآخرة:
بما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن العذاب الإلهي الشديد وعن طلب منكري المعاد للتعجيل بقيام القيامة، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها هنا تقرن "الغضب" الالهي مع "اللطف" الالهي في معرض ردها على استعجال منكري المعاد: (الله لطيف بعباده).
فعندما يهددهم بالعذاب الشديد في موضع، يعدهم باللطف في موضع آخر، ذلك اللطف الواسع غير المحدود ولا يعجّل في عقاب الجاهلين المغرورين.
ثم تطرح الآية أحد مظاهر لطفه العام وهو الرزق، فتقول: (يرزق من يشاء). وهذا لا يعني أن هناك جماعة محرومون من رزقه، بل المقصود البسط في الرزق لمن يشاء، كما جاء في الآية 26 من سورة الرعد: (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر).
ونقرأ في آية قادمة في هذا السورة: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)(1).
وواضح أن (الرزق) هنا يشمل الرزق المعنوي والمادي، الجسماني والروحاني فعندما يكون هو مصدر اللطف والرزق، فلماذا تتوجهون نحو الأصنام التي لا ترزق ولا تتلطف، لا تحل مشاكلكم.
وتقول الآية في نهايتها: (وهو القوي العزيز).
وعندما يعدالله تعالى عباده بالرزق واللطف فهو قادر على إنجاز هذا الأمر، ولهذا السبب لا يوجد أي تخلف في وعوده أبداً.
ومن الضروري الإنتباه إلى هذه الملاحظة وهي أن (لطيف) لها معنيان: الأوّل: أنّه صاحب اللطف والمحبة والرحمة. والثّاني: علمه بجميع الأمور الصغيرة والخافية، وبما أن رزق العباد يحتاج إلى الإحاطة والعلم بالجميع وفي أي مكان كانوا، سواء في السماء أو في الأرض، لذا فإن الآية تشير في البداية إلى لطفه ثمّ إلى رزقه، كما أن القرآن يضيف في الآية (السادسة) من سورة هود وبعد أن يذكر: (وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها) قوله: (ويعلم مستقرها ومستودعها).
وطبعاً لا يوجد أي تناقض بين هذين المعنيين، بل يكمل أحدهما الآخر، فاللطيف هو الشخص الذي يكون كاملا من حيث المعرفة والعلم، ومن حيث اللطف والمحبّة لعباده، وبما أن الخالق يعلم باحتياجات عباده بشكل جيد فانه يسدد احتياجاتهم بأفضل وجه، لذا فهو الاجدر بهذا الاسم.
على أية حال، فإنّ الآية أعلاه أشارت إلى أربعة صفات من أوصاف الخالق: اللطف، والرزق، والقوّة، والعزّة، وهي أفضل دليل على مقام (ربوبيته)، لأن (الرب) يجب أن تتوفر فيه هذه الصفات.
الآية التي بعدها شبّهت أفراد العالم حيال رزق الخالق وكيفية الإستفادة منه بالمزارعين الذين يقوم قسم منهم بالزراعة للآخرة والقسم الآخر للدنيا، وتحدد عاقبة كلّ قسم منهم وفق تشبيه لطيف حيث تقول: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب)(2).
إنه لتشبيه لطيف وكناية جميلة، فجميع الناس مزارعون، وهذه الدنيا مزرعة لنا، أعمالنا هي البذور، والإمكانات الإلهية هي المطر لهذه المزرعة، إلاّ أن هذه البذور تختلف كثيراً، فبعضها غير محدودة النتاج وأبدية، أشجارها دائمة الخضرة ومثمرة وبعضها الآخر قليل النفع جداً، وتنتهي بسرعة، وتحمل ثماراً مرّة.
وفي الحقيقة، فإن عباردة (يريد) تشير إلى اختلاف الناس في النيات، ومجموع هذه الآية يعتبر توضيحاً لما جاء في الآية السابقة من المواهب والرزق الإلهي، فالبعض يستفيد من هذه المواهب على شكل بذور للآخرة، والبعض الآخر يستعملها للتمتع الدنيوي.
والطريف في الأمر أن الآية تقول بخصوص الذين يزرعون للآخرة: (نزد له في حرثه) إلاّ أنّها لا تقول أنّه لا يصيبهم شيء من متاع الدنيا، وبالنسبة لمن يزرع للدنيا تقول: (نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب).
وعلى هذا الأساس فلا طلاّب الدنيا يصلون إلى ما يريدون، ولا طلاّب الآخرة يحرمون من الدنيا، ولكن مع الفارق، وهو أن المجموعة الأولى تذهب إلى الآخرة بأيد فارغة، والمجموعة الثانية بأيد مملوءة.
وقد جاء ما يشبه نفس هذا المعنى في الآية 18 و19 من سورة الإسراء، ولكن بشكل آخر: (من كان يريد العاجلة عجلناله فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً ومدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاُولئك كان سعيهم مشكوراً).
عبارة (نزد له في حرثه) تتلاءم مع ما ورد في آيات قرآنية اُخرى، مثل: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)(3) و (ليوفيهم أجروهم ويزيدهم من فضله)(4).
على أية حال، فالآية أعلاه صورة ناطقة تعكس التفكير الإسلامي بالنسبة الى الحياة الدنيا، الدنيا المطلوبة لذاتها، والدنيا التي تعتبر مقدمة للعالم الآخر ومطلوبة لغيرها، فالإسلام ينظر إلى الدنيا على أنّها مزرعة يقتطف ثمارها يوم القيامة.
والعبارات الواردة في الروايات أو في آيات قرآنية اُخرى تؤّكد هذا المعنى.
فمثلا تشبّه الآية (216) من سورة البقرة المنفقين بالبذر الذي له سبعة سنابل، وفي كلّ سنبلة مئة حبة، وأحياناً أكثر. وهذا نموذج لمن يبذر البذور للآخرة.
ونقرأ في حديث عن الرّسول(ص). "وهل يكب الناس على مناخرهم في النّار إلاّ حصائد ألسنتهم"(5).
وجاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين(ع): "إن المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام"(6).
ويمكن أن نستفيد هذه الملاحظة من الآية أعلاه، وهي أن الدنيا والآخرة تحتاجان إلى السعي، ولا يمكن نيلهما دون تعب وأذى، كما أن البذر والثمر لا يخلوان من التعب والأذى، لذا فالأفضل للإنسان أن يزرع شجرة ويبذل جهده في تربيتها، ليكون ثمرها حلو المذاق ودائمياً وأبدياً، وليست شجرة تموت بسرعة وتُفنى.
ونُنهي هذا الكلام بحديث عن الرّسول الأكرم(ص) حيث يقول: "من كانت نيّته الدنيا فرق الله عليه أمره، وجعل الفقر بين عينيه، ولم يأته من لدنيا إلاّ ما كتب له، ومن كانت نيّته الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"(7).
وما هو مشهور بين العلماء أن (الدنيا مزرعة الآخرة) فهو في الحقيقة اقتباس من مجموع ما ذكرناه أعلاه.
1- الأنعام، الآية 160.
2- فاطر، الآية 30.
3- المحجة البيضاء، المجلد الخامس، ص193 (كتاب آفات اللسان).
4- الكافي، وفقاً لنقل نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 569.
5- مجمع البيان، نهاية الآيات التي نبحثها.
6- تفسير مجمع البيان، ج9، ص 29.
7- سورة يس، الآية 82.