الآيات 6 - 8

﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل( 6 ) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ( 7 ) وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَلَـكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّـلِمُونَ مَا لَهُمْ مِّنْ وَلِىٍّ وَلاَنَصِير( 8 )﴾

التّفسير

انطلاقة من "أم القرى":

تحدثت الآيات السابقة عن قضية الشرك، لذلك فإنّ الآية الأولى في المجموعة الجديدة، تتناول بالبحث نتيجة عمل المشركين وعاقبة أمرهم حيث يقول تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم).

حتى يحاسبهم في الوقت المناسب، ويعاقبهم جزاء أعمالهم.

ثم تخاطب الآية رسول الله(ص) بقوله تعالى: (وما أنت عليهم بوكيل) إنّ مسؤوليتك هي تبليغ الرسالة وإيصال نداء الله الى جميع العباد.

وثمّة في كتاب الله آيات اُخرى تشير إلى هذا المعنى:

قوله تعالى: (لست عليهم بمصيطر)(1).

قوله تعالى: (ما أنت عليهم بجبار)(2).

قوله تعالى: (وما جعلناك عليهم حفيظاً)(3).

قوله تعالى: (ما على الرّسول إلاّ البلاغ)(4).

إنّ هذه الآيات تبيّن حقيقة حرية العباد واختيارهم الطريق الذي يريدونه بإرادتهم وحريتهم، لأنّ القيمة الحقيقة للإيمان والعمل الصالح تكمن في حرية الإختيار، وليس للإيمان أو العمل الإجباري أي قيمة معنوية.

يعود القرآن إلى قضية الوحي مرّةً اُخرى، وإذا كانت الآيات السابقة قد تحدّثت عن أصل الوحي، فإنّ الكلام هنا ينصب حول الهدف النهائي له، إذ يقول تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أُمّ القرى ومن حوله) و "اُمّ القرى" هي مكّة المكرمة، ثمّ تنذر الناس من يوم القيامة وهو يوم الجمع الذي يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء: (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه).

وفي ذلك اليوم ينقسم الناس إلى مجموعتين: (فريق في الجنّة وفريق في السعير).

وقد يكون التعبير بـ "كذلك" إشارة إلى أنّهُ مثلما أوحينا إلى الأنبياء السابقين بلسانهم، فإنّنا كذلك أوحينا إليك بلسانك، هذا القرآن العربي.

وعليه تكون "كذلك" إشارة إلى: (وإلى الذين من قبلك).

ويمكن أن تكون إشارة إلى مابعدها، يعني أنّا أوحيناه إليك بهذه الصورة قرآناً عربياً يهدف إلى الإنذار.

صحيح أنّنا نستفيد من نهاية الآية أيّ من قوله تعالى: (فريق في الجنّة وفريق في السعير) أنّ مسؤولية النّبي(ص) هي التبشير والإنذار، ولكن بسبب ما للإنذار من تأثير أعمق في نفوس الأفراد المعاندين والجهلة، لذا فإنّ الآية استندت إلى "الإنذار" مرّتين فقط، مع اختلاف بينهما، إذ أنّ الكلام شمل في المرحلة الأولى إنذار المستمعين، بينما شمل في الثانية تخويفهم من شيء يجب أن يخافوه، يعني القيامة وما فيها من حساب وفضيحة ستكون مؤلمة وصعبة للغاية، بسبب حضور الأشهاد والملائكة والناس(5).

وقد يتساءل البعض هنا: إنّنا نستفيد من قوله تعالى: (لتنذر أم القرى ومن حولها) أنّ الهدف من نزول القرآن هو لإنذار أهل مكّة وأطرافها. أفلا يتنافى هذا المعنى مع مفهوم عالمية الإسلام؟

الجواب على هذا الإستفهام يتمّ من خلال ملاحظة المعنى الذي تستبطنه (أُمّ القرى).

إنّ كلمة "أُمّ القرى" وهي أحد أسماء مكّة المكرّمة، مؤلّفة من كلمتين هما:"أُمّ" وتعني في الأصل الأساس والبداية في كلّ شيء، ولهذا السبب تسمى الأُمّ بهذا الأسم لأنّها أساس وأصل الأبناء.

ثمّ كلمة "قرى" جمع "قرية" بمعنى أي منطقة معمورة أو مدينة، سواء كانت المدينة كبيرة أم صغيرة، أو مجرّد قرية.

وفي القرآن الكريم ثمّة أدلة كثيرة على هذا المعنى.

والآن لنرَ لماذا سمّيت "مكّة" بأُمّ القرى؟

الرّوايات الإسلامية تصرّح بأنّ الأرض كانت في البداية مغطاة جميعها بالماء، ثمّ بدأت اليابسة تظهر بشكل تدريجي من تحت هذه المياه. (تؤيد النظريات العلمية الآن هذا المعنى).

ثمّ تخبرنا الرّوايات بأنّ منطقة الكعبة كانت أوّل منطقة ظهرت من تحت الماء، ثمّ بدأت اليابسة بالإتساع من جوار الكعبة، ويعرف ذلك بدحو الأرض.

وهكذا يتّضح أن مكّة هي أصل وأساس لجميع القرى والمدن على سطح الأرض، لذا فمتى قيل (أُمّ القرى ومن حولها) فالمعنى سيشمل جميع الناس على سطح الكرة الأرضية(6).

مضافاً إلى ذلك، نحن نعرف أنّ الإسلام بدأ بالانتشار تدريجياً، ففي البداية أمر النّبي(ص) بإنذار المقرّبين إليه، كما ورد في قوله تعالى: (وانذر عشيرتك الأقربين)(7) كي تتقوى قاعدة الإسلام وتصلب نواته، ويكون أكثر قدرة واستعداداً للإنتشار.

ثم جاءت المرحلة الثانية المتمثلة بإنذار العرب، كما ورد في قوله تعالى: (قرآناً عربياً لقوم يعلمون)(8).

وكذلك في قوله تعالى: (وإنّه لذكر لك ولقومك).

وعندما ترسخت أعمدة الإسلام بين هـؤلاء القوم، وقوي عوده أمر رسول الله(ص) بأوسع من ذلك، أن ينذر العالم والناس كافة، كما نقرأ في أوّل سورة الفرقان في قوله تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)وفي آيات اُخرى.

وبسبب هذا التكليف قام رسول الله(ص) بإرسال الرسائل إلى زعماء العالم خارج الجزيرة العربية، ودعا كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم إلى الإسلام.

ووفق هذه التعليمات قام أتباعه من بعده بالدعوة إلى الإسلام في مختلف بقاع العالم، ونشروا تعاليم الإسلام في جميع أرجاء المعمورة.

أمّا لماذا سمّي يوم القيامة بيوم الجمع؟ فهناك أقوال مختلفة منها:

بسبب ما يكون فيه من جمع بين الأرواح والأجساد.

أو بسبب الجمع بين الإنسان وعمله.

أو بسبب الجمع بين الظالم والمظلوم.

ولكن يظهر أنّ السبب يتمثل في الجمع بين الخلائق من الأولين والآخرين كما نقرأ ذلك واضحاً في قوله تعالى: (قل إنّ الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم)(9).

وبما أن قوله تعالى: (فريق في الجنّة وفريق في السعير) يقسّم الناس إلى فئتين، فإنّ الآية التي بعدها تضيف: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) على الهداية.

إلاّ أنّ الإيمان الإجباري ليست له قيمة، وكيف يمكن لمثل هذا الإيمان أن يكون معياراً للكمال الإنساني؟

إنّ التكامل الحقيقي هو أن يسير الإنسان بإرادته وبمنتهى الإختيار والحرية.

إنّ الآيات القرآنية مليئة بأدلة حرية الإنسان، ومثل هذا الإختيار هو ما يميّز الإنسان عادة عن غيره من الكائنات الأُخرى، وإذا سلبت منه إرادته واختياره فكأنما سلبت منهُ إنسانيتهُ.

وكما أن سمة الحرية والإختيار طريق إلى التكامل، فهي أيضاً سنّة إلهية لا قبل التغيير.

ولكن العجيب أمر البعض الذين ما زالوا على عقيدة الجبر، وهم يدعون أتباعهم للأنبياء، في حين أنّ قبول الجبر يساوي في الواقع نفي مضمون دعوة جميع الأنبياء، فلا معنى للتكليف حينئذ، ولا للحساب والسؤال والجواب، ولا النصيحة والموعظة، وبشكل أولى الثواب والعقاب!

ومع عقيدة الجبر لا معنى لتردُّد الإنسان في أعماله، ولا معنى لندمه وعزيمته على تصحيح الأخطاء!

تشير الآية بعد ذلك إلى وصف أهل الجنّة والسعادة حيال أهل النّار، فيقول تعالى: (ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير).

وعندما يشخّص أهل النّار بوصف "الظلم" فيبيّن أنّ المراد من "من يشاء" في الجملة الأولى هم المجموعة التي لا ترتكب الظلم.

وعلى هذا الأساس يكون أهل العدل هم أصحاب الجنّة في مقابل أهل الظلم الذي هم أهل النّار.

ولكن ينبغي الإنتباه إلى أنّ "ظالم" هنا، وفي العديد من الآيات القرآنية الأُخرى لها معنى واسع ولا تشمل الذين يظلمون غيرهم فقط، بل تشمل الذين يظلمون أنفسهم أيضاً، وتشمل المنحرفين عقائدياً، وهل هناك ظلم أعلى من الشرك والكفر؟

يقول لقمان لابنه وهو يعظه: (يا بني لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم)(10).

وفي آية اُخرى نقرأ قوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون).

وقال بعضهم في الفرق بين "ولي" و "نصير" أنّ "الولي" الذي يقوم بمساعدة الإنسان دون طلبه. أما النصير فأعم من ذلك(11).

ويحتمل أن تشير كلمة "ولي" إلى المشرف الذي يقوم بالحماية والمساعدة بحكم ولايته ودون أي طلب.

أمّا "النصير" فالذي يقوم بنصر الإنسان ومساعدته بعد أن يطلب العون.


1- الأنعام، الآية 107.

2- المائدة، الآية 99.

3- ينبغي الإنتباه، إلى أنّ (تنذر) تتعدى إلى مفعولين، وفي الآية مورد البحث ذكر مفعولها الأوّل في الجملة الأولى، والثّاني في الجملة الثانية. وقد يصحب المفعول الثّاني بالباء فيقال: أنذره بذلك.

4- جاء هذا التعبير في سورة الأنعام كذلك الآية (92) وقد ذكرنا هناك توضيحاً أوسع، فليراجع.

5- الشعراء، الآية 214.

6- فصلت، الآية 3، إنّ ما قلناه هو في حال اعتبارنا كلمة (عربي) بمعنى اللغة العربية، أمّا إذا فسرناها بالمعنى الفصيح فسيكون للآية مفهوم آخر.

7- الواقعة، الآية 50.

8- لقمان، الآية 13.

9- يلاحظ ذلك في مجمع البيان، المجلد 8، صفحة 779. ذيل الآية (22) من العنكبوت.

10- اعتبر بعض المفسّرين (كالزمخشري في الكشاف والفخر الرازي في التّفسير الكبيرـ أنّ "أم" هنا بمعنى الإستفهام الإنكارى، أما البعض الآخرـ كالطبرسي في "مجمع البيان" والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ـ فقد اعتبروها بمعنى"بل" .

11- في بداية هذه الجملة تكون كلمة "قل" مقدّرة، فهذه الجملة وما بعدهاتتحدث عن لسان النبيّ فقط، أمّا جملة (ما اختلفتم فيه من شيء) فهي استمرار لحديث الخالق جلّ وعلا. والذين اختاروا غير ذلك لم يسلكوا الطريق الصحيح في الظاهر.