الآيات 43 - 46
﴿مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة وَذُو عِقَاب أَلِيم( 43 ) وَلَوْ جَعَلْنَـهُ قُرْءَاناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْ لاَ فُصِّلَتْ ءَايَـتُهُ ءَاْعَجِمىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدىً وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلَـئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَان بَعِيد( 44 ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيب( 45 ) مَّنْ عَمِلَ صَـلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـم لِّلْعَبِيدِ( 46 )﴾
التّفسير
كتاب الهداية والشفاء:
قام الكفار والمشركون بمحاربة رسول الله(ص) وتكذيبه، والتصدي للاسلام والقرآن والايات السابقة كانت تحكي عن الحادهم وكفرهم بآيات الله لذلك جاءت الآية الأولى من الآيات التي بين أيدينا لمواساة النّبي(ص) وارشاد المسلمين الذين يواجهون الأذى بأنّ لا محيص لهم عن الاستقامة والصبر.
يقول تعالى: (ما يقال لك إلاّ ما قد قبل للرسل من قبلك).
فإذا كانوا يتهمونك بالجنون والكهانة والسحر، فقد أطلقوا هذه الأوصاف على من قبلك من الأنبياء والمرسلين.
إنّ دعوتك لدين الحق ليست جديدة، وإنّ ما تواجهه وأنت تدعو للدين الجديد ليس جديداً أيضاً، لذلك ما عليك - يا رسول الله - إلاّ أن ترابط بقوّة وتلزم ما أنت عليه ولا تهتم بكلام هؤلاء، لأنّ الله معك.
احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الآية هو: أنّ الكلام الذي قيل لك من قبل الله هو نفس الكلام الذي قيلَ لمن قبلك من الأنبياء(1).
لكن المعنى الأوّل أنسب في المقام، خاصة مع ملاحظة سياق الآيات القادمة.
يقول الله تبارك وتعالى في نهاية الآية: (إنّ ربّك لذو مغفرة وذو عقاب أليم).
فرحمتهُ ومغفرته للمصدّقين، وعذابه للمكذبين والمعارضين.
وهذا الجزء من الآية هو بشارة للمؤمنين وتشويق لهم، وإنذارٌ للكفار وتهديد لهم.
إنّ تقديم (المغفرة) على (العقاب) يشبه - في الواقع - الموارد الأُخرى، وهو دليل على تقدّم رحمته تعالى على غضبه، كما جاء في المأثور من الدعاء: "يامن سبقت رحمتهُ غضبهُ"(2).
الآية التي بعدها تتحدث عن ذرائع هؤلاء المعاندين، وترد على واحدة منها، إذ هم كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن بلسان الأعاجم حتى نهتم به أكثر ويستفيد منهُ غير العرب؟
إنّها حجّة عجيبة!
ولعلّهم كانوا يستهدفون منها عدم فهم الناس القرآن حتى لا يضطروا إلى منعهم عنه، كما حكى القرآن عن سلوكهم هذا في آية سابقة في قوله تعالى: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه)(3).
وهنا يجيب القرآن على هذا القول بقوله: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته).
ثم يضيفون: يا للعجب قرآن أعجمي من رسول عربي؟: (أأعجمي وعربي).
أو يقولون: كتاب أعجمي لأُمّة تنطق بالعربية؟!
والآن وبالرغم من نزوله بلسان عربي، والجميع يدرك معانيه بوضوح ويفهم عمق دعوة القرآن، إلاّ أنّهم ومع ذلك نراهم يصرخون: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه).
إنّ الآية تتحدث في الواقع عن المرض الكامن في نفوس هؤلاء وعجزهم عن مواكبة الهدى والنور الذي أنزل عليهم من ربّهم، فإذا جاءهم بلسانهم العربي قالوا: هو السحر والأسطورة، وإذا جاءهم بلسان أعجمي فإنّهم سيعتبرونه غير مفهوم، وإذا جاءهم مزيجاً من الألفاظ العربية والأعجمية عندها سيقولون بأنّه غير موزون(4)!!
وينبغي الإنتباه هنا إلى أنّ كلمة (أعجمي) من "عجمة" على وزن "لقمة" وتعني عدم الفصاحة والإبهام في الكلام، وتطلق "عجم" على غير العرب لأن العرب لا يفهمون كلامهم بوضوح، وتطلق "أعجم" على من لا يجيد الحديث والكلام سواء كان عربياً أو غير عربي.
بناءاً على هذا فإنّ (أعجمي) هي (أعجم) منسوبة بالياء.
ثم يخاطب القرآن الرّسول (ص) بالقول: (قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء).
أمّا لغيرهم: (والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) أيّ "ثقل" ولذلك لا يدركونه.
ثم إنّه: (وهو عليهم عمى)(5). أيّ أنّهم لا يرونه بسبب عماهم، فهؤلاء كالاشخاص الذين ينادون من بعيد: (أُولئك ينادون من مكان بعيد).
ومن الواضح أنّ مثل هؤلاء الأشخاص لا يسمعون ولا يبصرون. فلأجل العثور على الطريق والوصول إلى الهدف لا يكفي وجود النور وحده، فيجب أن تكون هناك عين تبصر، كذلك يقال في مسألة التعلّم، حيثُ لا يكفي وجود المبلّغ والداعية الفصيح، بل ينبغي أن تكون هناك أذن تسمع وتعي، فلا شك في بركة المطر وتأثيره في نمو النباتات. ولكن المسألة في الارض. طيبة أم خبيثة!!
فالذين يتعاملون مع القرآن بروح تبحث عن الحقيقة سيهتدون وستشفى نفوسهم وصدورهم به، حيث يعالج القرآن الكريم الأمراض الأخلاقية والروحية، ثم يشدّون الرحال للسفر نحو الآفاق العالية في ظل نور القرآن وهداه.
أمّا ماذا يستفيد المعاندون والمتعصبون وأعداء الحق والحقيقة وأعداء الأنبياء والرسل من كتاب الله تعالى، فهم في الواقع مثلهم مثل الأعمى والأصم ومن ينادى من مكان بعيد، فهل تراه يسمع النداء أو يستجيب لهداه، إنّهم كمن أصيب بالعمى والصمم المضاعف، وهو بعد ذلك في مكان بعيد!!
ونقل بعض المفسّرين أنّ أهل اللغة يقولون لمن يفهم: أنت تسمع من قريب.
ويقولون لمن لا يفهم: أنت تنادى من بعيد(6).
"وثمّة شرح مفصل حول شفاء القرآن ومعالجته لآلام الإنسان الروحية، يمكن مراجعته ذيل الآية (82) من سورة الإسراء."
الآية التالية تستمر في مواساة رسول الله(ص) والمؤمنين معه وتقول لهم: إنّ للعناد والإنكار تأريخ طويل في حياة النبوات: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه).
وإذ ترى أنّنا لا نعجل في عقاب هؤلاء الأعداء المعاندين، فذلك لأنّ المصلحة تقتضي أن يكونوا أحراراً حتى تتمّ الحجّة عليهم: (ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم) أي لكان العقاب قد شملهم بسرعة.
إنّ التأجيل الإلهي إنّما يتم هنا لمصلحة الناس ومن أجل المزيد من فرص الهداية والنور، وبغية إتمام الحجّة عليهم، وهذه السنّة كانت نافذة في جميع الأقوام السابقة، وهي تجري في قومك أيضاً.
لكنّهم لم يصدّقوا بهذه الحقيقة بعد: (وإنّهم لفي شك منهُ مريب).
"مريب" من "ريب" بمعنى الشك الممزوج بسوء الظن والقلق، لذلك فمعنى الآية: إنّ المشركين لا يشكون في كلامك وحسب، بل يزعمون وجود القرائن على بطلانه والتي تؤدي بزعمهم إلى الريب.
بعض المفسّرين احتمل أنّ مراد الجملة الأخيرة هم اليهود وكتاب موسى(ع)، بمعنى أنّ هؤلاء القوم لا يزالون يشكون في التوراة، لكن بعد هذا المعنى يرجح التّفسير الأول(7).
في الآية الأخيرة - من المجموعة - نقف أمام قانون عام يرتبط بأعمال الناس، وقد أكّده القرآن مراراً. وهذا القانون يكمل البحث السابق بشأن استفادة المؤمنين من القرآن، بينما يحرم غير المؤمنين أنفسهم من فيض النور الإلهي والهدى الرّباني.
يقول تعالى في هذا القانون: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربّك بظلاّم للعبيد).
لذا فإنّ من لم يؤمن بهذا الكتاب والدين العظيم فسوف لن يضروا الله تعالى ولا يضروك، لأن الحسنات والسيئات تعود إلى أصحابها، وهم الذين سينالون حلاوة أعمالهم ومرارتها.
مسائل:
أوّلا: الإختيار والعدالة
قوله تعالى: (وماربّك بظلام للعبيد) دليل واضح على قانون الإختيار وحربة الإرادة، وفيه حقيقة أنّ الله لا يعاقب أحداً بدون سبب، ولا يزيد في عقاب أحد دون دليل، فسياستهُ في عباده العدالة المحضة، لأن الظلم يكون بسبب النقص والجهل والاهواء النفسية، والذات الإلهية المقدسة منزّهة عن كلّ هذه العيوب والنواقص.
كلمة "ظلاّم" والتي هي صيغة مبالغة بمعنى "كثير الظلم"، يمكن أن تشير - هنا وفي آيات قرآنية اُخرى - إلى أنّ العقاب دون سبب من قبل الخالق العظيم يعتبر مصداقاً للظلم الكثير، لأنّه تعالى منزّه عن هذا الفعل.
وذهب بعضهم الى أن الله تعالى لهُ عباد كثر، فلو أراد أن يظلم كلّ واحد منهم بجزء يسير قليل، عندها سيكون مصداقاً لـ"ظلاّم".
وهذان التّفسيران لا يتعارضان فيما بينهما.
المهم هنا أنّ القرآن وفي هذه الآيات البينات نفى الجبر الذي يؤدي الى اشاعة الفساد وارتكاب أنواع القبائح، والاعتقاد به يؤدي إلى إلغاء أي نوع من المسؤولية والتكليف، بينما الجميع مسؤولون عن أعمالهم، نتائجها تعود بالدرجة الأولى عليهم.
لذلك نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) في الإجابة على هذا السؤال: هل يجبر الله عباده على المعاصي؟
فقال: "لا، بل يخيرهم ويمهلهم حتى يتوبوا".
فسئل(ع) مجدداً: هل كلف عباده ما لا يطيقون؟
أجاب الإمام(ع): "كيف يفعل ذلك وهو يقول:(وما ربّك بظلام للعبيد)".
ثم أضاف الإمام الرضا(ع): "إنّ أبي موسى بن جعفر نقل عن أبيه جعفر بن محمّد من زعم أنّ الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلوا وراءه ولا تعطوه من الزكاة شيئاً"(8).
إنّ هذا الحديث الشريف يشير - ضمناً - إلى هذه الملاحظة الدقيقة. وهي إنّ الجبريين ينتهون في عقيدتهم إلى القول بـ "التكليف بما لا يطاق" لأنّ الإنسان إذا كان مجبوراً على الذنب من ناحية، وممنوعاً عنه من ناحية اُخرى، فهذا يكون مصداقاً واضحاً للتكليف بما لا يُطاق.
ثانياً: الذنوب وسلب النعم
في حديث عميق الدلالة لأمير المؤمنين نقراً قوله(ع): "وأيم الله! ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها، لأنّ الله ليس بظلام للعبيد".
ثم أضاف(ع):
"ولو أنّ الناس حين تنزل بهم النقم، وتزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نياتهم، ووله من قلوبهم، لردّ عليهم كلّ شارد، وأصلح لهم كلّ فاسد."(9)
إنّ هذا النص العلوي الكريم يوضح - بجلاء - علاقة الذنوب بسلب النعم وزوالها.
ثالثاً: لماذا كلّ هذا التحجج؟!
لا شك أنّ اللغة العربية أغنى اللغات وأوسعها، ولكن مع هذا فإنّ عظمة القرآن ليست لأنّه باللغة العربية، بل تعود عربية القرآن إلى أنّ الله يرسل الرسل بلسان قومهم كي يؤمنوا أولا، ثمّ ينتشر الدين إلى الأخرين.
لكن أصحاب الذرائع والحجج يطرحون في كلّ موقف حجة أو ذريعة غير منطقية، وهم يعلمون أنّهم بأُسلوبهم هذا لا يبحثون عن الحقيقة ولا ينشدونها.
إنّهم يقولون مرّة: لماذا نزل القرآن بالعربية؟ ألم يكن من الأفضل أن ينزل كلّه أو جزء منهُ بلغة اُخرى حتى يفهمهُ الآخرون؟ (في حين أنّهم كانوا يهدفون إلى تحقيق شيء آخر هو أن لا ينجذب عامة العرب نحو القرآن الكريم).
ولو حقّق لهم هذا الطلب فسيقولون: كيف يكون الرّسول عربياً وكتابه غير عربي؟
هؤلاء إنّما يهربون من الحق من خلال هذا التذرُّع. وعادةً ما يكون أسلوب التذرُّع وإثارة الحجج دليلا على وجود علة اُخرى وهدف آخر يخفيه الإنسان ويغطّي عليه، وعلّة هؤلاء القوم كانت أنّ عامة الناس شغفوا بالقرآن الكريم وانجذبوا إليه، فأصبحت مصالحهم في خطر، لذا فقد استخدموا كلّ الوسائل المتاحة لهم لمواجهة الإسلام دعوة وكتاباً ونبيّاً.
1- في تفسير الفخر الرازي نقرأ قوله: نقلوا في سبب نزول هذه الآية أنّ الكفار لأجل التعنت قالوا: لو نزل القرآن بلغة العجم".
2- بعض المفسّرين فسّر قوله تعالى: (أأعجمي وعربي) بنفس معناه المباشر أي مزيج وخليط بين العربي والأعجمي.
3- بعض المفسّرين ذهب إلى القول بأنّ الجملة أعلاه معناها هو: أنّ القرآن هو سبب في عمى هذه الفئة وعدم رؤيتها" في حين أنّ الراغب في المفردات وابن منظور في لسان العرب اعتبرا قول العرب "عمي عليه" بمعنى أنّهُ "اشتبه حتى صار الإضافة إليه كالأعمى" وبناءاً على هذا يكون المراد من الآية هو ما ذهبنا إليه في المتن.
4- يلاحظ ذلك في تفسير القرطبي حديثه عن الآية.
5- ينبغي أن يلاحظ أنّ الآية بعينها وردت في سورة هود آية (110).
6- عيون أخبار الرضا، نقلا عن نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 555.
7- نهج البلاغه، الخطبة 188.
8- "من" في "من الثمرات" و "من أثنى" وكذلك في "من شهيد" تأتي في نهاية الآية كلّها، زائدة جاءت هنا للتأكيد.
9- يلاحظ الراغب في المفردات.