الآيات 40 - 42
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَـتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَّن يَأْتِى ءَامِناً يَوْمَ الْقِيَـمَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( 40 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَبٌ عَزِيزٌ( 41 ) لاَّيَأْتِيهِ الْبَـطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيم حَمِيد( 42 )﴾
التّفسير
محرفو آيات الحق:
المجموعة التي بين أيدينا من آيات السورة الكريمة، بدأت بتهديد الذين يقومون بتحريف علائم التوحيد، وتضليل الناس، حيث يقول تعالى: (إنّ الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا).
من الممكن لهؤلاء أن يضلّوا الناس بأسلوب المغالطة وباستخدام السفسطة الكلامية، ويخفوا ذلك عن الناس. إلاّ أنّه ليس بوسعهم إخفاء ذرّة ممّا يقومون به عن الله تبارك وتعالى.
(يلحدون) من (إلحاد) وهي في الأصل من (لحد) على وزن (عهد) وتعني الحفرة الواقعة في جانب واحد، ولهذا السبب يطلق على الحفرة في جانب القبر اسم (اللحد).
ثمّ أطلقت كلمة (إلحاد) على أي عمل يتجاوز الحد الوسط إلى الإفراط أو التفريط، وهي لذلك تطلق لوصف الشرك وعبادة الأصنام، ويقال لمن لا يؤمن بالله تعالى (الملحد).
والمقصود من (الإلحاد في آيات الله) هو إيجاد الوساوس والتمويه في أدلة التوحيد والمعاد التي ذكرتها الآيات السابقة بعنوان (ومن آياته) أو جميع الآيات الإلهية، سواء منها الآيات التكوينية السابقة أو الآيات التشريعية النازلة في القرآن الكريم والكتب السماوية الأُخرى.
إنّ المذاهب المادية والإلحادية في عالمنا اليوم التي تعتبر الدين وليد الجهل أو الخوف أو نتاج العامل الإقتصادي والأُمور الأُخرى لإضلال الناس، هي بلا شك من مصاديق الخطاب في هذه الآية الكريمة.
القرآن الكريم أوضح جزاء هؤلاء في إطار مقارنة واضحة فقال تعالى: (أفمن يُلقى في النّار خير أم مَن يأتي آمناً يوم القيامة)؟
الاشخاص الذين يحرقون ايمان الناس وعقائدهم بنيران الشبهات والتشكيكات سيكون جزاؤهم نار جهنّم، بعكس الذين أوجدوا المحيط الآمن للناس بهدايتهم الى التوحيد والإيمان، فإنّهم سيكونون في أمان يوم القيامة أليس ذلك اليوم هو يوم تتجسد فيه أعمال الإنسان في هذه الدنيا؟
وقال بعض المفسّرين: إنّ الآية تقصد "أباجهل" "أبو جهل" كنموذج للغواية ولأهل النّار، وفي الجانب المقابل ذكروا "حمزة" عم النّبي(ص) أو "عمار بن ياسر" لكن من الواضح أنّ هذا القول لا يعدو أن يكون مصداقاً للآية ذات المفهوم الواسع.
والطريف في هذا الجزء من الآية أنّ التعبير القرآني يستخدم كلمة (إلقاء) في مخاطبة أهل النّار كدليل على عدم امتلاكهم الخيار في أمرهم، بينما يستخدم كلمة "يأتي" في مخاطبة أهل الجنّة، كدليل على احترامهم وحريتهم وإرادتهم في اختيار الأمن والهدوء.
وفوق كلّ هذا فقد استخدمت الآية تعبير الأمان من العذاب كناية عن الجنّة، بينما استخدمت نار جهنم بشكل مباشر، وفي ذلك إشارة إلى أنّ أهم قضية في ذلك اليوم هي "الأمن".
وعندما ييأس الإنسان من هداية شخص يخاطبه بقوله: افعل ما شئت. لذا فالآية تقول لأمثال هؤلاء: (اعملوا ما شئتم).
لكن عليكم أن تعلموا: (أنّه بما تعملون بصير).
لكن هذا الأمر لا يعني أنّ لهم الحرية في أن يعملوا ما يشاؤون، أو أن يتصرفوا بما يرغبون، بل هو تهديد لهم بأنّهم لا يصغون لكلام الحق، إنّه تهديد يتضمّن توعُّد هؤلاء والصبر على أعمالهم إلى حين.
الآية التي بعدها تتحول من الحديث عن التوحيد والمعاد إلى القرآن والنبوّة، وتحذّر الكفار المعاندين بقوله تعالى: (إنّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم)(1).
إنّ إطلاق وصف "الذكر" على القرآن يستهدف تذكير الإنسان وإيقاظه، وشرح وتفصيل الحقائق له بشكل إجمالي عن طريق فطرته، وقد ورد نظير ذلك في الآية (التاسعة) من سورة "الحجر" في قوله تعالى: (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون).
ثمّ تنعطف الآية لبيان عظمة القرآن فتقول: (وإنّه لكتاب عزيز).
إنّه كتاب لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو أن يتغلب عليه، منطقه عظيم واستدلاله قوي، وتعبيره بليغ منسجم وعميق، تعليماته جذرية، وأحكامه متناسقة متوافقة مع الأحتياجات الواقعية للبشر في أبعاد الحياة المختلفة.
ثم تذكر الآية صفة اُخرى مهمّة حول عظمة القرآن وحيويته، فيقول تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) لأنّه: (تنزيل من حكيم حميد).
أفعال الله عزوجل لا تكون إلاّ وفق الحكمة وفي غاية الكمال. لذا فهو أهل للحمد دون غيره.
لقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات حول قوله تعالى: (لا يأتيه الباطل...) إلاّ أن أشملها هو أنّ أي باطل لا يأتيه، من أي طريق كان، ومهما كان الأُسلوب، وهذا يعني عدم وجود تناقض في مفاهيمه، ولا ينقض بشيء من العلوم، أو بحقائق الكتب السابقة، ولا يعارض كذلك بالإكتشافات العلمية المستقبلية.
لا يستطيع أحد أن يبطل حقائقه، ولا يمكن أن ينسخ في المستقبل.
لا يوجد أي تعارض في معارفه وقوانينه ووصاياه وأخباره،، ولا يكون ذلك في المستقبل أيضاً.
لم تصل إليه يد التحريف بزيادة أو نقص في آية أو كلمة، ولن يطاله ذلك مستقبلا.
إنّ هذه الآية تعبير آخر لمضمون الآية (التاسعة) من سورة "الحجر" حيث قوله تعالى: (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون)(2).
ومن خلال ما قلناه نستنتج أن قوله تعالى: (من بين يديه ومن خلفه) كناية عن جميع الجوانب والجهات، بمعنى أنهُ لن يصيبهُ البطلان أو الفساد من جميع الأوجه والجوانب، وما ذهب إليه البعض من أن ذلك كناية للحال والمستقبل، فان قولهم هذا مصداق للمفهوم الأول.
"الباطل" كما يرى الراغب في مفرداته: هو ما يقابل الحق، ولكن قد يفسّر أو يراد به أحياناً أحد مصاديقه كالشرك والشيطان والمعدوم والساحر.
ويطلق على الشجاع بـ "البطل" لأنّه يبطل أعداءه ويقتلهم أو يلقي بهم خارجاً.
لكن "باطل" في الآية تنطوي على مفهوم مطلق غير محدّد بمصداق معين.
والتعبير الأخير في الآية (تنزيل من حكيم حميد) دليل واضح على عدم وصول الباطل بأي طريق من الطرق إلى القرآن الكريم، فالباطل قد يسري الى الكلام الذي يصدر من الأفراد ذوي العلم المحدود والقدرات النسبية.
أمّا الذي يتصف بالعلم المطلق والحكمة المطلقة ويجمع كلّ الصفات الكمالية التي تجعله أهلا للحمد، فلا يطرأ على كلامه التناقض والاختلاف، ولا ينسخ أو ينقض، أو تمتد إليه يد التحريف، ولا يتناقض كلامه مع الكتب السماوية والحقائق السابقة، ولا يعارض بالمكتشفات العلمية الراهنة، أو تلك التي يكشفها المستقبل.
وأخيراً، الآية واضحة الدلالة على نفي التحريف عن القرآن الكريم، سواء من جهة الزيادة أو النقصان (هناك بحث مفصل حول نفي التحريف أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (التاسعة) من سورة "الحجر".
سؤال:
قد يقال: إذا كان الباطل هو ما أشرنا إليه، أي كلّ ما يتصف بأنّه "المخالف الحق" فإننا في تفسير الآية (وكذلك المفسّرين الأخرين) فسّرناه بمعنى "المبطل" فكيف يتسق ذلك؟
الإجابة على هذا السؤال تكمن في ملاحظة دقيقة في الأُسلوب القرآني، فالقرآن لا يقول: سوف لا يأتي باطل بعد هذا الكتاب السماوي، بل يقول لا يأتي الباطل إلى هذا الكتاب (أي القرآن) (ينبغي الإنتباه إلى ضمير جملة: يأتيه).
ومعنى الكلام أن لا شيء يستطيع أن يصل إليه ويبطله. (فدقق في ذلك).
1- هذا الإحتمال يمكن ملاحظته في تفسير "مجمع البيان" و "التّفسير الكبير" ولكنّ كليهما رجح التفسير الأوّل.
2- عن دعاء الجوشن الكبر. الفصل (19) الجملة الثامنة.