الآيتان 17 - 18

﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صَـعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ( 17 ) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانَواْ يَتَّقُونَ( 18 )﴾

التّفسير

عاقبة قوم ثمود:

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن قوم عاد، تبحث هاتان الآيتان في قضية قوم ثمود ومصيرهم، حيث تقول: إنّ الله قد بعث الرسل والأنبياء لهم مع الدلائل البينة، إلاّ أنّهم: (وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى).

لذلك: (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون).

وهؤلاء مجموعة تسكن "وادى القرى" (منطقة بين الحجاز والشام) وقد وهبهم الله أراضي خصبة خضراء مغمورة، وبساتين ذات نعم كثيرة، وكانوا يبذلون الكثير من جهدهم في الزراعة. ولقد وهبهم الله العمر الطويل والأجسام القوية، وكانوا مهرة في البناء القوي المتماسك، حيث يقول القرآن عنهم في ذلك: (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين)(1).

لقد جاءهم نبيّهم بمنطق قوي وقلب ملؤه الحبّ، ومعه المعاجز الإلهية، إلاّ أنّ هؤلاء القوم المغرورين المستعلين لم يرفضوا دعوته - وحسب - بل آذوه وأتباعه القليلين، لذلك شملهم الله بعقابه في الدنيا، ولن يغني ذلك عن عذاب الآخرة شيئاً.

نقرأ في الآية (78) من سورة الأعراف أنّهم أصيبوا بزلزلة عظيمة، فبقيت أجسادهم في المنازل بدون حراك: (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين).

وفي الآية (الخامسة) من سورة الحاقة قوله تعالى بشأنهم: (فأمّا ثمود فأهلكوا بالطاغية).

أمّا الآية (67) من سورة هود فتقول عنهم: (و أخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين).

أمّا الآية التي نحن بصددها فقد استخدمت تعبير "صاعقة".

قد يتصور البعض أن هناك تعارضاً بين هذه التعابير، ولكن عند التدقيق يظهر أنّ الكلمات الأربع أعلاه (رجفة، طاغية، صيحة، صاعقة) ترجع جميعاً إلى حقيقة واحدة، لأنّ الصاعقة - كم قلنا سابقاً - لها صوت مخيف، بحيث يمكن أن نسميها بالصيحة السماوية، ولها أيضاً ناراً محرقة، وهي عندما تسقط على منطقة معينة تحدث هزّة شديدة، وكذلك هي وسيلة للتخريب.

في الواقع إنّ البلاغة القرآنية تستوجب أن تبيّن الأبعاد المختلفة للعذاب الإلهي بتعابير مختلفة وفي سياق آيات عديدة كيما تخلّف اثراً عميقاً في نفس الانسان.

وهؤلاء القوم قد واجهتهم عوامل مختلفة للموت في إطار حادثة واحدة، بحيث أن كلّ عامل لوحده يكفي لإبادتهم كالصيحة المميتة مثلا، أو الهزة الأرضية القاتلة، أو النّار المحرقة، وأخيراً الصاعقة المخيفة.

ولكن قد يتساءل عن مصير الاشخاص الذين آمنوا بصالح(ع) بين هذه الأمواج القاتلة من الصواعق، فهل احترقوا بنيران غيرهم؟

القرآن يجيبنا على ذلك بقول الله عزّوجلّ: (ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون).

لقد أنجى هذه المجموعة إيمانها وتقواها، بينما شمل العذاب تلك الكثرة الطاغية بسبب كفرها وعنادها، والمجموعتان يمكن أن تكونا نموذجاً لفئات من هذه الأُمة.

قال بعض المفسّرين: لقد آمن بنبيّ الله صالح (110) أشخاص من بين مجموع القوم، ولقد أنقذ الله هؤلاء وأنجاهم في الوقت المناسب.

ملاحظة

أنواع الهداية الإلهية:

الهداية على نوعين: أوّلا "الهداية التشريعة" وهي تشمل إبانة الطريق والكشف عنه بجميع العلائم. ثمّ هناك "الهداية التكوينية" التي هي في واقعها إيصال إلى المطلوب أو الوصول إلى الهدف.

لقد تجمعت الهدايتان معاً في الآيات التي نبحثها، فالآيات تتحدث أولا عن هداية ثمود و هذه هي الهداية التشريعية التي استبانوا من خلالها الطريق.

ثم أضافت الآية عن وصف حالهم بأنّهم استحبوا العمى على الهدى، وهذه هي عين الهداية التكوينية والتوصّل نحو الهدف.

وهكذا فإنّ الهداية بمعناها الأوّل قد تمّت من خلال بعثة الرسل والأنبياء، أمّا الهداية بمعناها الثّاني والتي ترتبط بإرادة واختيار أي إنسان، فلم تتمّ بسبب غرور القوم وتكبرهم وعلوهم، لأنّهم: (فاستحبوا العمى على الهدى).

إنّ هذا - بحدّ ذاته - دليل على مبدأ "حرية الإرادة الإنسانية" وعدم الجبر.

ولكن - برغم صراحة ووضوح الآيات - نرى أنّ بعض المفسّرين كالفخر الرازي يصرون على إنكار دلالة الآية، وذكروا كلاماً لا يليق بمنزلة الباحث المحقق، وذلك بسبب ميولهم نحو عقيدة الجبر(2)!!


1- "ما" في قوله تعالى: (إذا ما جاءوها) زائدة، وهي هنا للتأكيد.

2- هذا التّفسير وارد عندما يكون معنى الآية: (أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء ناطق) ولكن يحتمل أن يكون معنى أنطق كل شيء بالمعنى المطلق، بمعنى أنّ الله الذي أنطق جميع الموجودات وهو يكشف عن جميع الأسرار اليوم، هو الذي أنطقنا، فلا تتعجبوا من كلامنا فجميع كائنات العالم ستنطق في هذا اليوم.