الآيات 1 - 5

﴿حم( 1 ) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ( 2 ) كِتَـبٌ فُصِّلَتْ ءَايَـتُهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمِ يَعْلَمُونَ( 3 ) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ( 4 ) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةِ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَـمِلُونَ( 5 )﴾

التّفسير

عظمة القرآن:

تذكر الرّوايات أنّ رسول الله(ص) كان لا يكف عن عيب آلهة المشركين، ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمّد. ويقول بعضهم: بل هو كهانة. ويقول بعضهم: بل هو خطب.

وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً، وكان من حكّآم العرب يتحاكمون إليه في الأمور، وينشدونه الأشعاره فما اختاره من الشعر كان مختاراً، وكان له بنون لا يبرحون من مكّة، وكان له عبيد عشرة عند كلّ عبد ألف دينار يتجر بها، وملك القنطار في ذلك الزمان (القنطار: جلد ثور مملوء ذهباً) وكان من المستهزئين برسول الله(ص).

وفي يوم سأل أبوجهل الوليد بن المغيرة قائلا له:

يا أبا عبد شمس، ما هذا الذي يقول محمّد؟ أسحر أم كهان أم خطب؟

فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول الله(ص) وهو جالس في الحجر، فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك.

قال(ص): ما هو بشعر، ولكنّه كلام الله الذي به بعث أنبياءه ورسله.

فقال: اتل علىّ منهُ.

فقرأ عليه رسول الله (بسم الله الرحمن الرحيم) فلّما سمع (الوليد) الرحمن استهزأ فقال: تدعو إلى رجل باليمامة يسمّى الرحمن، قال: لا، ولكني أدعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم.

ثم افتتح سورة "حم السجدة"، فلّما بلغ إلى قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) فلمّا سمعه اقشعر جلده، وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.

فقالت قريش: يا أبا الحكم، صبأ أبو عبد شمس إلى دين محمّد، أما تراه لم يرجع إلينا؟ وقد قبل قوله ومضى إلى منزله، فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً.

وغدا عليه أبو جهل فقال: يا عم، نكست برؤوسنا وفضحتنا.

قال: وما ذلك يا ابن أخ؟

قال: صبوت إلى دين محمّد.

قال: ما صبوت، وإني على دين قومي وآبائي، ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود.

قال أبوجهل: أشعر هو؟

قال: ما هو بشعر.

قال: فخطب هي؟

قال: إنّ الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور، ولا يشبه بعضه بعضاً، له

طلاوة.

قال: فكهانة هي؟

قال: لا.

قال: فماهو؟

قال: دعني أفكّر فيه.

فلّما كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس ما تقول؟

قال: قولوا هو سحر، فإنّه آخذ بقلوب الناس، فأنزل الله تعالى فيه: (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالا ممدوداً وبنين شهوداً) إلى قوله: (عليها تسعة عشر)(1)(2).

إنّ هذه الرّواية الطويلة تكشف بوضوح مدى تأثير آيات هذه السورة، بحيث أنّ أكثر المتعصبين من مشركي مكّة أبدى تأثره بآياتها، وذلك يظهر جانباً من جوانب العظمة في القرآن الكريم.

نعود الآن إلى المجموعة الأولى من آيات هذه السورة المباركة، التي تطالعنا بالحروف المقطعة في أوّلها(حم).

لقد تحدثنا كثيراً عن تفسير هذه الحروف، ولا نرى حاجة للإعادة سوى أنّ البعض اعتبر (حم) اسماً للسورة. أو أنّ (ح) إشارة إلى "حميد" و (م) إشارة إلى "مجيد" وحميد و مجيد هما من أسماء الله العظمى.

ثم تتحدث عن عظمة القرآن فتقول: (تنزيل من الرحمن الرحيم).

إنّ "الرحمة العامة" و"الرحمة الخاصة" لله تعالى هما باعث نزول هذه الآيات الكريمة التي هي رحمة للعدو والصديق. ولها بركات خاصة للأولياء.

في الواقع إنّ الرحمة هي الصفة البارزة لهذا الكتاب السماوي العظيم، التي تتجسّد من خلال آياته العطرة التي تفوح بشذاها ونورها فتضيء جوانب الحياة، وتسلك بالإنسان مسالك النجاة والرضوان.

بعد التوضيح الاجمالي الذي أبدته الآية الكريمة حول القرآن، تعود الآيات التالية إلى بيان تفصيلي حول أوصاف هذا الكتاب السماوي العظيم، وذكرت له خمسة صفات ترسم الوجه الأصلي للقرآن:

فتقول أوّلا: إنّه كتاب ذكرت مطاليبه ومواضيعه بالتفصيل كلّ آية في مكانها الخاص، بحيث يلبّي احتياجات الإنسان في كلّ المجالات والأدوار والعصور، فهو: (كتاب فصلت آياته)(3).

وهو كتاب فصيح وناطق (قرآناً عربياً لقوم يعلمون).

وهذا الكتاب بشير للصالحين نذير للمجرمين: (بشيراً ونذيراً) إلاّ أنّ أكثرهم: (فاعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)(4).

بناء على ذلك فإنّ أول خصائص هذا الكتاب هو أنّهُ يتضمّن في تشريعاته وتعاليمه كلّ ما يحتاجهُ الإنسان وفي جميع المستويات، ويلبي ميوله ورغباته الروحية.

الصفة الثانية أنّه متكامل، لأنّ "قرآن" مشتق من القراءة، وهي في الأصل بمعنى جمع أطراف وأجزاء الكلام.

الصفة الثّالثة تتمثل بفصاحة القرآن وبلاغته، حيث يذكر الحقائق بدقّة بليغة دون أي نواقص. وفي نفس الوقت يعكسها بشكل جميل وجذّاب.

الصفتان الرابعة والخامسة تكشفان عن عمق التأثير التربوي للقرآن الكريم، عن طريق أسلوب الإنذار والوعيد والتهديد والترغيب، فآية تقوم بتشويق الصالحين والمحسنين بحيث أنّ النفس الإنسانية تكاد تطير وتتماوج في أشواق الملكوت والرحمة. وأحياناً تقوم آية بالتهديد والإنذار بشكل تقشعر منه الأبدان لهول الصورة وعنف المشهد.

إنّ هذين الأصلين التربّويين (الترغيب والتهديد) متلازمان في الآيات القرآنية ومترابطان في أُسلوبه.

ومع ذلك فإنّ المتعصبين المعاندين لا يتفاعلون مع حقائق الكتاب المنزل، وكأنّهم لا يسمعونها أبداً بالرغم من السلامة الظاهرية لأجهزتهم السمعية، إنّهم في الواقع يفتقدون لروح السماع وإدراك الحقائق، ووعي محتويات النذير والوعيد القرآني.

وهؤلاء - كمحاولة منهم لثني الرّسول(ص) عن دعوته، وايغالا منهم في الغي وفي زرع العقبات - يتحدثون عند رسول الله بعناد وعلو وغرور حيث يحكي القرآن عنهم: (وقالوا قلوبنا في أكنة ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا و قر ومن بيننا وبينك حجاب).

مادام الأمر كذلك فاتركنا وشأننا، فاعمل ما شئت فإننا عاكفون على عملنا: (فاعمل إنّنا عاملون).

حال هؤلاء كحال المريض الأبله الذي يهرب من الطبيب الحاذق، ويحاول أن يبعد نفسه عنه بشتى الوسائل والأساليب.

إنّهم يقولون: إنّ عقولنا وأفكارنا موضوعة في علب مغلقة بحيث لا يصلها شيء.

"أكنّة" جمع "كنان" وتعني الستار. أي أن الأمر لا يقتصر هنا على ستار واحد، بل هي ستائر من العناد والتقليد الأعمى، وأمثال ذلك ممّا يحجب القلوب ويطبع عليها.

وقالوا أيضاً: مصافاً إلى أنّ عقولنا لا تدرك ما تقول، فإنّ آذاننا لا تسمع لما تقول أيضاً، وهي منهم إشارة إلى عطل المركز الأصلي للعمل والوسائل المساعدة الأُخرى.

وبعد ذلك، فإن بيننا وبينك حجاب سميك، بحيث حتى لو كانت آذاننا سالمة فإننا لا نسمع كلامك، فلماذا - إذاًـ تتعب نفسك، لماذا تصرخ، تحزن، تقوم بالدعوة ليلا ونهاراً؟ اتركنا وشأننا فأنت على دينك ونحن على ديننا.

هكذا... بمنتهى الوقاحة والجهل، يهرب الإنسان بهذا الشكل الهازل عن جادة الحق.

والطريف أنّهم لم يقولوا: "وبيننا وبينك حجاب" بل أضافوا للجملة كلمة "من" فقالوا: (ومن بيننا وبينك حجاب) وذلك لبيان زيادة التأكيد، لأنّ بزيادة هذه الكلمة يصبح مفهوم الجملة هكذا: إنّ جميع الفواصل بيننا وبينك مملوءة بالحجب، وطبيعي أن يكون حجاب مثل هذا سميكاً عازلا للغاية ليستوعب كلّ الفواصل بين الطرفين، وبذلك سوف لا ينفع الكلام مع وجود هذا الحجاب.

وقد يكون الهدف من قول المشركين: (فاعمل إنّنا عاملون) محاولتهم زرع اليأس عند النّبي (ص). أو قد يكون المراد نوعاً من التهديد له، أي اعمل ما تستطيعه ونحن سوف نبذل ما نستطيع ضدّك وضدّ دينك، والتعبير يمثل منتهى العناد والتحدي الاحمق للحق ولرسالاته.


1- "لقوم يعلمون" يمكن أن تكون متعلقة بـ "فصلت" أو بـ "تنزيل" .

2- "فاستقيموا" مأخوذة من "الإستقامة" وهي هنا بمعنى التوجه بشكل مستقيم نحو شيء معين، لذا فإنها تعدت بواسطة الحرف (إلى) لأنّها تعطي مفهوم (استواء) .

3- يلاحظ مادة "من" في مفردات الراغب.

4- وسائل الشيعة، المجلد السادس، الصفحات 18 و19 "باب ثبوت الكفر والإرتداد والقتل بمنع الزكاة استحلالا وجحوداً" وقد اعتبر بعض الفقهاء كصاحب الوسائل مثلا، أنّ الروايات أعلاه تختص بإنكار الزكاة.