الآيتان 77 - 78
﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ( 77 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُول أَنْ يَأْتِىَ بِآيَة إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللهِ قُضِىَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ( 78 )﴾
التّفسير
فاصبر... حتى يأتيك وعد الله:
بعد سلسلة البحوث السابقة عن جدال الكافرين وغرورهم وتكذيبهم الآيات الإلهية والدلائل النبوية، تأتي هاتان الآيتان لمواساة النّبي الأكرم(ص)وتأمرانه بالصبر والإستقامة في مواجهة المشاكل والصعاب.
يأتي الأمر أوّلا في قوله تعالى: (فاصبر إنّ وعد الله حق).
إن وعده بالنصر حق، ووعده بمعاقبة المستكبرين المغرورين حق، وكلاهما سيتحققان، على أعداء الحق أن لا يظنّوا بأنّهم يستطيعون الهروب من العذاب الإلهي بسبب تأخر عقابهم، لذلك تضيف الآية:(فإمّا نُرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون)(1).
إنّ مسؤوليتك هي التبليغ البليغ وإتمام الحجة على الجميع، حتى تتنور القلوب اليقظة ببلاغك، ولا يبقى للمعاندين عذر!
عليك أن تهتم بإنجاز مهمتك ولا تنتظر أن تحقق الوعيد عاجلا بإنزال العقاب على هذه الفئة الضالة.
والكلام يتضمّن تهديداً إلى تلك الفئة لكي يعلموا أنّ العذاب لا بدّ مصيبهم، ونازل بساحتهم، فكما نال بعضهم العقاب الذي يستحقونه في هذه الدنيا في "بدر" و غيرها، فهناك أيضاً يوم القيامة والعذاب المنتظر.
ثم تشير الآية الكريمة إلى الوضع المشابه الذي واجهه الرسل والأنبياء قبل رسول الله(ص) كي تكون في هذه الذكرى مواساة أكثر للرسول الكريم، حيث واجه الانبياء السابقين مثل هذه المشاكل، إلاّ أنّهم استمروا في طريقهم و احتفظوا بمسارهم المستقيم.
يقول تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك).
لقد واجه كلّ منهم ما تواجهه أنت اليوم، فصبروا وكان حليفهم النصر والغلبة على الظالمين.
ومن جهة ثانية كان الجميع يطلبون من الرسل الإتيان بالمعجزة، ومشركو مكّة لم يشذوا على غيرهم في طلب المعاجز من رسول الله(ص) لذلك يخاطب الله تعالى رسوله الكريم(ص) بقوله: (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاّ بإذن الله).
إنّ جميع المعاجز هي من عند الله وبيده، وبذلك فهي لا تخضع إلى أمزجة الكفار والمشركين، بل إنّ رسول الله(ص) لا ينبغي له الإستسلام أمام "معجزاتهم المقترحة" بل ما يكون من المعجزة ضرورياً لهداية الناس وإحقاق الحق يظهره الله على أيدي الأنبياء.
ثم تهدّد الآية من كان يقول: لماذا لا يشملنا العذاب الإلهي إذا كان هذا الرّسول صادقاً؟ فتقول الآية: (فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون).
في ذلك اليوم المهول تغلق أبواب التوبة، ولا تنفع الآهات والصرخات، ويخسر أهل الباطل صفقتهم، ويشملهم العذاب الإلهي الأليم، إذاً فلماذا كلّ هذا الأصرار على مجيء ذلك اليوم؟!
وفقاً لهذا التّفسير ينصرف معنى الآية والمقصود بالعذاب فيها إلى "عذاب الإستئصال".
ولكن بعض المفسّرين اعتبر هذه الآية بمثابة بيان للعذاب في يوم القيامة. فهناك يكون القضاء الحق بين الجميع، ويشاهد أنصار الباطل خسرانهم المريع.
إنّ فيما تضمّنته الآية (27) من سورة "الجاثية" يؤكّد هذا التّفسير، إذ يقول تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون).
ولكن تمّ استخدام "أمر الله" وما شابهها في الآيات المتعدّدة التي تختص بعذاب الدنيا(2).
ويحتمل أن يكون للآية معنى أوسع يشمل عذاب الدنيا والآخرة، وفي المشهدين يتوضح خسران المبطلين.
ومن الضروري هنا الإشارة إلى الحديث الذي رواه الشيخ الصدوق(رحمه الله) في أماليه بإسناده إلى أبي عبدالله (ع) "قال: كان في المدينة رجل يضحك الناس، فقال: قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه - يعني علي بن الحسين(ع) - قال: فمرّ(ع)وخلفه موليان له، فجاء الرجل حتى انتزع رداءه من رقبته، ثمّ مضى فلم يلتفت إليه الإمام(ع) فاتبعوه وأخذوا الرداء منه، فجاؤوا به فطرحوه عليه فقال لهم: من هذا؟ فقالوا: هذا رجل بطال يضحك أهل المدينة، فقال: قولوا له إن لله يوماً يخسر فيه المبطلون"(3).
ملاحظة في عدد الأنبياء؟!
للمفسّرين كلام كثير حول عدد أنبياء الله ورسله.
والرواية المشهورة في هذا المجال تذكر أنّ عددهم مائة وعشرون ألف نبي، في حين تقتصر روايات اُخرى على ثمانية آلاف، أربعة الآف منهم هم أنبياء بني إسرائيل، والباقون من غيرهم(4).
وقد جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) أنّ النّبي(ص) قال: "خلق الله عزّوجلّ مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبيّ، أنا أكرمهم على الله ولا فخر، وخلق الله عزّوجلّ مائة ألف وصي وأربعة وعشرين ألف وصي، وعلي أكرمهم على الله وأفضلهم"(5).
وفي رواية اُخرى عن أنس بن مالك أنّ رسول الله قال: "بعثت على أثر ثمانية آلاف نبيّ، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل"(6).
هذان الحديثان لا يتناقضان فيما بينهما، إذ يمكن أن يكون الحديث الثّاني قد أشار إلى الأنبياء العظام، كما يذكر ذلك العلاّمة المجلسي في توضيح هذا الكلام.
وفي حديث آخر أنّ رسول الله(ص) أجاب على سؤال لأبي ذر(رضي الله عنه) عن عدد الأنبياء قائلا بأنّهم (124) ألف نبي، وعن سؤال حول عدد الرسل منهم، أنّهم (313) رسول فقط(7).
وفي حديث آخر أنّ رسول الله(ص) بعد أن ذكر العدد (124) ألف قال: خمسة منهم أولوالعزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد(ص)(8).
وهناك روايات اُخرى في هذا المجال تؤيد العدد المذكور أعلاه.
من هنا يتضح أنّ هذه الرواية (حول عدد الأنبياء) ليست خبراً واحداً كما يقول "برسوئي" نقلا عن بعض العلماء في تفسير "روح البيان"، بل هناك روايات متعدّدة ومستفيضة تؤّكد أنّ عدد الأنبياء الإلهيين كان (124) ألف نبي. وأنّ مثل هذه الروايات موجودة في المصادر الإسلامية المختلفة.
والطريف في الأمر أن عدد الأنبياء الذين صرح القرآن بأسمائهم هو (26) نبي فقط هم: آدم - نوح - إدريس - صالح - هود - إبراهيم - إسماعيل - إسحق - يوسف - لوط - يعقوب - موسى - هارون - زكرياـ شعيب - يحيى - عيسى - داودـ سليمان - إلياس - اليسع - ذوالكفل - أيوب - يونس - عزير - ومحمّد (عليهم الصلاة والسلام).
ولكن هناك أنبياء آخرون أشار إليهم القرآن وإن لم يذكر أسماءهم صراحة مثل "أشموئيل" الذي ورد ذكره في الآية (248) من سورة "البقرة" في قوله تعالى: (وقال لهم نبيّهم).
والنّبي "أرميا" الوارد في الآية (259) من سورة البقرة في قوله تعالى: (أو كالذي مرّ على قرية ... )(9).
و "يوشع" المذكور في الآية (60) من سورة "الكهف" في قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه).
و "الخضر" الوارد ذكره إشارة في الآية (65) من سورة الكهف في قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا).
وورد ذكر لأسباط بني إسرائيل، وهم زعماء قبائل بني إسرائيل كما في قوله تعالى: (و أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط)(10).
وإذا كان هناك أنبياء من بين إخوة يوسف (ع) فقد أشير إليهم مرات عديدة في سورة يوسف.
وخلاصة القول هنا أنّ القرآن أشار إلى قصص وحوادث ترتبط بأكثر من (26) نبياً وهم المصرّح بأسمائهم مباشرة في القرآن الكريم.
ويستفاد من بعض الروايات الواردة في مصادر السنة والشيعة أنّ الله بعث بعض الأنبياء من ذوي البشرة السوداء، كما يقول العلامة الطبرسي مثلا في "مجمع البيان" روي عن علي أنّه قال: "بعث الله نبيّاً أسود لم يقص قصته"(11).
1- مجمع البيان: أثناء الحديث عن هذه الآية.
2- بحار الأنوار، مجلد 11، صفحة 30، حديث رقم 21.
3- بحار الأنوار، مجلد 11، صفحة 31، حديث رقم 22.
4- بحار الأنوار،، مجلد 11، صفحة 32، حديث رقم 24.
5- بحارا لأنوار، مجلد 11، صفحة 41، حديث رقم 43.
6- ثمّة بحث بين المفسّرين عن اسم هذا النّبي، إذ فيهم من قال: إنّه "أرميا" والبعض قال: إنّه "الخضر" وقال جمع: إنّه "عزير".
7- النساء ـ 163.
8- مجمع البيان نهاية الآية التي تبحثها. وفي هوامش تفسير الكشّاف هناك روايات عديدة في هذا المجال. يلاحظ المجلد الرابع، صفحة 180، طبعة دار الكتاب العربي.
9- كما تذكره الآيات (128) و129) من سورة الشعراء.
10- هناك احتمالان في (ما) في جملة "ما أغنى" فإمّا نافية أو استفهامية، لكن يظهر أنّ الأوّل هو الصحيح، وهناك أيضاً احتمالان في "ما" في جملة (ما كانوا يكسبون) فإما موصولة أو مصدرية ولكن الأوّل هو المرجح .
11- إحتمل البعض أن يعود الضمير في (جاءتهم) إلى الأنبياء، لذا يكون المقصود بالعلوم علوم الأنبياء، بينما المقصود من (فرحوا) هو ضحك واستهزاء الكفّار بعلوم الأنبياء، لكن هذا التّفسير احتماله بعيد.