الآيات 51 - 55
﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَْشْهَـدُ( 51 ) يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّـلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الَّلعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ( 52 ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرءِيلَ الْكِتَـبِ( 53 ) هُدىً وَذِكْرَى لاُِوْلِى الاَْلْبَـبِ ( 54 )فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالاِْبْكَـرِ( 55 )﴾
التّفسير
الوعد بنصر المؤمنين:
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن تحاجج أهل النّار وعجزهم عن أن ينصر أحدهم الآخر، وبعد أن تحدثت الآيات التي سبقتها عن مؤمن آل فرعون وحماية الله له من كيد فرعون وآل فرعون، عادت هذه المجموعة من الآيات البينات تتحدث عن شمول الحماية والنصر الإلهي لأنبياء الله ورسله وللذين آمنوا، في هذه الدنيا وفي الآخرة.
إنّها تتحدث عن قانون عام تنطق بمضمونه الآية الكريمة: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).
إنّها الحماية المؤكّدة بأنواع التأكيد، والتي لا ترتبط بقيد أو شرط، والتي يستتبعها الفوز والنصر، النصر في المنطق والبيان; وفي الحرب والميدان; وفي إرسال العذاب الإلهي على القوم الظالمين، وفي الإمداد الغيبي الذي يقوي القلوب ويشد الأرواح ويجذبها إلى بارئها جلّ وعلا.
إنّ الآية تواجهنا باسم جديد ليوم القيامة هو: (يوم يقوم الأشهاد).
"أشهاد" جمع "شاهد" أو "شهيد" (مثل ما أنّ أصحاب جمع صاحب، وأشراف جمع شريف) وهي تعني الذي يشهد على شيء ما.
لقد ذكرت مجموعة من الآراء حول المقصود بالأشهاد، نستطيع اجمالها بما يلي:
1ـ الأشهادهم الملائكة الذين يراقبون أعمال الإنسان.
2ـ هم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم.
3ـ هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون الذين يشهدون على أعمال الناس.
أمّا احتمال أن تدخل أعضاء الإنسان ضمن هذا المعنى، فهو أمر غير وارد، بالرغم من شمولية مصطلح "الأشهاد" لأنّ تعبير (يوم يقوم الأشهاد) لا يتناسب وهذا الإحتمال.
إنّ التعبير يشير إلى معنى لطيف، حيث يريد أن يقول أنّ: (يوم الأشهاد)الذي تنبسط فيه الأمور في محضر الله تبارك وتعالى، وتنكشف السرائر والأسرار لكافة الخلائق، هو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون، ويكون الإنتصار فيه أروع ما يكون ... إنّه اليوم الذي ينصر الله فيه الأنبياء والمؤمنين ويزيد في كرامتهم.
إنّ يوم الأشهاد يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين، هو: (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار).
فمن جهة هو يوم لا تنفع المعذرة فيه، ولا يحول شيء دون افتضاح الظالمين أمام الأشهاد.
ومن جهة اُخرى هو يوم تشمل اللعنة الإلهية فيه الظالمين، واللعنة هنا البعد عن الرحمة.
ومن جهة ثالثه هو يوم ينزل فيه العذاب الجسماني على الظالمين، ويوضعون في أسوأ مكان من نار جهنم.
سؤال:
إنّ الآية تفتح المجال واسعاً للسؤال التالي: إذا كان الله (تبارك وتعالى) قد وعد حتماً بانتصار الأنبياء والمؤمنين، فلماذا نشاهد، - على طول التأريخ - مقتل مجموعة من الأنبياء والمؤمنين على أيدي الكفار؟ ولماذا ينزل بهم الضيق والشدة من قبل أعداء الله، ثمّ لماذا تلحق بهم الهزيمة العسكرية؟ وهل يكون ذلك نقضاً للوعد الإلهي الذي تتحدث عنه الآية الكريمة؟
الجواب على كلّ هذه الأسئلة المتشعبة يتضح من خلال ملاحظة واحدة هي: إن أكثر الناس ضحية المقاييس المحدودة في تقييم مفهوم النصر، إذ يعتبرون الإنتصار يتمثل فقط في قدرة الإنسان على دحر عدوه، أو السيطرة على الحكم لفترة وجيزة!
إنّ مثل هؤلاء لا يرون أي اعتبار لانتصار الهدف وتقدم الغاية، أو تفوق وانتشار المذهب والفكرة; هؤلاء لا ينظرون إلى قيمة المجاهد الشهيد الذي يتحول إلى نموذج وقدوة في حياة الناس وعلى مدى الأجيال. ولا ينظرون إلى القيمة الكبرى التي يستبطنها مفهوم العزة والكرامة والرفعة التي ينادي بها أحرار البشر والقرب من الله تعالى ونيل رضاه.
وبديهي إنّ الإنحباس في إطار هذا التقييم المحدود يجعل من العسير الجواب على ذلك الاشكال، أما الإنطلاق إلى أفق المعاني الواسعة الوضّاءة لمفهوم النصر الإلهي والاخذ بنظر الاعتبار القيم الواقعية للنصر سيؤدى بنا الى معرفة المعنى العميق للآية.
ثمّة كلام لطيف لسيّد قطب في تفسيرة "في ظلال القرآن" يناسب هذا المقام، إذ يورد فيه ذكرى بطل كربلاء الإمام الحسين(ع) كمثال على المعنى الواسع لمفهوم النصر فيقول: "... والحسين - رضوان الله عليه - وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب، أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأمّا في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه، يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين من المسلمين وكثير من غير المسلمين"(1).
وينبغي أن نضيف إلى هذا الكلام أن شيعة أهل البيت عليهم السلام يشاهدون كل يوم بأعينهم آثار الخير من حياة سيّد الشهداء الإمام أبي عبدالله الحسين(ع)ويلمسون آثار استشهاده واستشهاد صحبه البررة من أهل بيته وأصحابه; إن مجالس العزاء التي تقام للحديث عن مناقب الحسين وصحبه الكرام هي ينبوع الخير لحركة عظيمة ثرّة ما زال عطاؤها لم ولن ينضب!
لقد شاهدنا بأعيننا ومن خلال النموذج الثوري الذي شهدته أرض إيران المسلمة، كيف استطاع الملايين من أبناء الإسلام أن يتحركوا في أيّام عاشوراء للقضاء على الظلم والطغيان والإستكبار.
لقد شاهدنا بأعيننا كيف استطاع هذا الجيل المضحي الذي تربى في مدرسة أبي الشهداء الحسين(ع) وتغذى ممّا تدره مجالس عزائه، أن يحطّم بأيد خالية عرش أقوى السلاطين الجبّارين.
نعم، لقد شاهدنا دم الحسين الشهيد وقد سرى في العروق عزةً و حركةً وانتفاضة، غيرت الحسابات السياسية والعسكرية للدول الكبرى.
بعد كلّ ذلك، ومع كلّ العطاء الثر الهادي الذي استمدته كلّ الأجيال - خلال التأريخ - من ذكرى الطف و سيّد الشهداء، ألا يعتبر الحسين(ع) منتصراً حتى باتت آثار نصره الظافر حاضرة فينا بالرغم من مرور أكثر من ثلاثة عشر قرناً على استشهاده!؟
سؤال آخر
ثمة سؤال آخر يتبلور من المقابلة بين الآية التي بين أيدينا و الآية (36) من سورة "المرسلات" إذ نقرأ الآية التي نحن بصددها أنّ اعتذار الظالمين لا يؤثر ولا ينفعهم يوم القيامة، فيما تنص الآية من سورة المرسلات على أنّه لا يسمح لهم بالإعتذار أصلا، حيث قوله تعالى: (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) فكيف يا ترى نوفّق بين الإثنين؟
قبل الإجابة ينبغي الإنتباه إلى ملاحظتين:
الأولى: أنّ ليوم القيامة مواقف معينة تختلف شرائطها، ففي بعضها يتوقف اللسان عن العمل وتنطق الأرجل والأيدي والجوارح، وتقوم بالشهادة على عمل الإنسان. وفي مواقف اُخرى ينطلق اللسان بالنطق والكلام (كما تحكي ذلك الآية 65 من سورة "يس" والآيات السابقة في هذه السورة التي تحدثت عن تحاجج أهل النّار).
بناءٌ على هذا، فلا مانع من عدم السماح لهم بالإعتذار في بعض المواقف، في حين يسمح لهم في مواقف اُخرى، وإن كان الإعتذار لا يجدي شيئاً ولا يغير من المصير.
الملاحظة الثانية: إنّ الإنسان يتحدث في بعض الأحيان بكلام لا فائدة منه، ففي مثل هذه الموارد يكون الشخص كمن لم يتكلّم أصلا. بناءً على هذا يمكن أن تكون الآية الدالة على عدم السماح لهم بالإعتذار تقع وفق هذا المعنى، أي أنّ اعتذارهم برغم خروجه من أفواههم، إلاّ أنّه لا فائدة ترجى منه.
تنتقل الآيات الكريمة بعد ذلك للحديث عن أحد الموارد التي انتصر فيها الرسل نتيجة الحماية الإلهية والدعم الربّاني لهم، فتتحدث عن النّبي الكليم(ع): (ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب).
إنّ هداية الله لموسى تنطوي على معاني واسعة، إذ تشمل مقام النبوة والوحي، والكتاب السماوي (التوراة) والمعاجز لتي وقعت على يديه (ع) أثناء تنفيذه لرسالات ربّه وتبليغه إيّاها.
إن استخدام كلمة "ميراث" بالنسبة الى التوراة يعود إلى أنّ بني إسرائيل توارثوه جيلا بعد جيل، و كان بإمكانهم الإستفادة منه بدون مشقة; تماماً مثل الميراث الذي يصل إلى الإنسان بدون عناء وتعب، ولكنّهم فرّطوا بهذا الميراث الإلهي الكبير.
الآية التي بعدها تضيف: (هدى وذكرى لأولي الألباب)(2).
الفرق بين "الهداية" و "الذكرى" أنّ الهداية تكون في مطلع العمل وبدايته، أما التذكير فهو يشمل تنبيه الإنسان بأُمور سمعها مسبقاً وآمن بها لكنّه نسيها.
وبعبارة اُخرى: إنّ الكتب السماوية تعتبر مشاعل هداية ونور في بداية انطلاقة الإنسان، وترافقه في أشواط حياته تبث من نورها وهداها عليه .
ولكن الذي يستفيد من مشاعل الهدى هذه هم "أولو الألباب" وأصحاب العقل، وليس الجهلة والمعاندون المتعصبون.
الآية الاخيرة - من المقطع الذي بين أيديناـ تنطوي على وصايا وتعليمات مهمّة للرسول(ص) وهي في واقعها تعليمات عامة للجميع، بالرغم من أنّ المخاطب بها هو شخص الرّسول الكريم(ص).
يقول تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق).
عليك أن تصبر على عناد القوم ولجاجة الأعداء.
عليك أن تصبر حيال جهل بعض الأصدقاء والمعارف، وتتحمل أحياناً أذاهم وتخاذلهم.
وعليك أيضاً أن تصبر إزاء العواطف النفسية.
إنّ سر انتصارك في جميع الأُمور يقوم على أساس الصبر والإستقامة.
ثم اعلم أنّ وعد الله بنصرك وأمتك لا يمكن التخلف عنه، وإيمانك - وإيمانهم - بحقانية الوعد الإلهي يجعلك مطمئناً ومستقيماً في عملك، فتهون الصعاب عليك وعلى المؤمنين.
لقد أمر الله تعالى رسوله مرّات عديدة بالصبر، والأمر بالصبر جاء مطلقاً في بعض الموارد، كما في الآية التي بصددها، وجاء مقيداً في موارد اُخرى ويختص بأمر معين، كما في الآيتين (39ـ40) من سورة "ق": (فاصبر على ما يقولون). وكذلك يخاطبه تعالى في الآية (28) من سورة الكهف بقوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيواة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً).
إنّ جميع انتصارات الرّسول(ص) والمسلمين الأوائل إنّما تمّت بفضل الصبر والإستقامة واليوم لابدّ أن نسير على خطى رسول الله ونصبر كما صبر الرّسول وأصحابه إذ لولاه لما حالفنا النصر مقابل أعدائنا الألداء.
الفقرة الأُخرى من التعليمات الربانية تقول: (واستغفر لذنبك).
واضح أنّ رسول الله(ص) معصوم لم يرتكب ذنباً ولا معصية، لكنّا قد أشرنا في غير هذا المكان إلى أنّ أمثال هذه التعابير في القرآن الكريم، والتي تشمل في خطابها الرّسول الاكرم وسائر الأنبياء، إنّماتشمل ما نستطيع تسميته بـ "الذنوب النسبية" لأنّ من الأعمال ما هو عبادة وحسنة بالنسبة للناس العاديين، بينما هي ذنب للرسل و الأنبياء لأنّ: (حسنات الأبرار سيئات المقربين).
فالغفلة - مثلا - لا تليق بمقامهم، ولو للحظة واحدة. وكذلك الحال بالنسبة لترك الأولى، إذ أن منزلتهم الرفيعة ومعرفتهم العالية تتوجب أن يحذروا هذه الأُمور ويستغفروا منها متى ما صدرت عنهم.
وما ذهب إليه البعض من أنّ المقصود بالذنوب هي ذنوب المجتمع، أو ذنوب الآخرين التي ارتكبوها بشأن رسول الله(ص) أو أنّ الإستغفار تعبدي فهو بعيد.
الفقرة الأخيرة في الآية الكريمة تقول: (وسبّح بحمد ربك بالعشي والإبكار).
"العشي" فترة ما بعد الظهر إلى قبل غروب الشمس، أما "الإبكار" فهو ما بين الطلوعين.
ويمكن أن تطلق لفظتا (العشي والإبكار) على الوقت المعيّن بالعصر والصباح، حيث يكون الإنسان مُهيأً للحمد وتسبيح خالقه تبارك وتعالى بسبب عدم شروعه بعد بعمله اليومي، أو أنّه قد انتهى منه.
وقد اعتبر البعض أنّ هذا الحمد والتسبيح إشارة إلى صلاة الصبح والعصر، أو الصلوات اليومية الخمس، في حين أنّ ظاهر الآية ينطوي على مفهوم أوسع من ذلك الصلوات هي إحدى مصاديقها.
في كلّ الأحوال تعتبر التعليمات الثلاث الآنفة الذكر شاملة بناء الإنسان وإعداده للرقي في ظل اللطف والرعاية الإلهية، وهي إلى ذلك زاده في سيره للوصول نحو الأهداف الكبيرة.
فهناك أولا - وقبل كلّ شيء - التحمّل والصبر على الشدائد والصعوبات، ثّم تطهير النفس من آثار الذنوب. وأخيراً تكليل كلّ ذلك بذكر الله، حيث تسبيحه وحمده يعني تنزيهه من كلّ عيب ونقص، وحمده فوق كلّ حسن وكمال.
إنّ الحمد والتسبيح الذي يكون لله تعالى يؤثر في قلب الإنسان ويطهره من جميع العيوب، ومن سيئات الغفلة واللهو، ويجعله يتصف باليقظة والكمال.
1- المؤمن ـ27.
2- يلاحظ الرأي الأوّل في مجمع البيان، تفسير الفخر الرازي، الكشاف، روح المعاني، الصافي و روح البيان.