الآيات 34 - 35
﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَـتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ( 34 ) الَّذِينَ يُجَـدِلُونَ فِى ءَايَـتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَـن أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبَّار( 35 )﴾
التّفسير
عجز المتكبرين عن الادارك الصحيح!
هذا المقطع من الآيات الكريمة يستمر في عرض كلام مؤمن آل فرعون، ومن خلال نظرة فاحصة في سياق الآيات، يظهر أنّ مؤمن آل فرعون طرح كلامه في خمسة مقاطع، كلّ منها اكتسى بلون من المخاطبة، و شكل من الدليل، الذي يستهدف النفوذ إلى قلب فرعون والمحيطين به، بغية محو الصدأ وآثار الكفر السوداء منها كي تذعن لله ورسالاته و أنبيائه، وتترك التكبر والطغيان:
المقطع الأوّل: راعى فيه مؤمن آل فرعون الإحتياط، ودعا القوم إلى الحذر من الأضرار المحتملة من جهتين: (قال لهم: لو كان موسى كاذباً فسينال جزاء كذبه، أمّا لو كان صادقاً فيشملنا العذاب، إذاً عليكم أن لا تتركوا العمل بالإحتياط).
المقطع الثّاني: وفيه وجّه مؤمن آل فرعون الدعوة إلى التأمّل بما حلّ بالأقوام السابقة وما نال الأمم الداثرة من المصير والجزاء، كي يأخذوا العبرة من ذلك المصير!
المقطع الثّالث: كأمن في الآيات القرآنية التي بين أيدينا، إذ تذكر هم الآيات - من خلال خطاب مؤمن آل فرعون - بجزء من تأريخهم، هذا التأريخ الذي لا يبعد كثيراً عنهم، ولم تمحى بعد أواصر الإرتباط الذهني والتأريخي فيما بينهم وبينه ; وهذا الجزء يتمثل في نبوة يوسف (ع)، الذي يعتبر أحد أجداد موسى، حيث يبدأ قصة التذكير معهم بقوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات)(1) وبالدلائل الواضحة لهدايتكم ولكنكم: (فمازلتم في شك ممّا جاءكم به).
وشككم هنا ليس بسبب صعوبة دعوته أو عدم اشتمالها على الأدلة والعلائم الكافية، بل بسبب غروركم حيث أظهرتم الشك والتردد فيها.
ولأجل أن تتنصلوا من المسؤولية، وتعطوا لأنفسكم الذرائع والمبررات، قلتم: (حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا).
بناء على ذلك كلّه لم تشملكم الهداية الإلهية بسبب أعمالكم ومواقفكم: (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب).
لقد سلكتم سبيل الأسراف والتعدي على حدود الله تعالى كما قمتم بالتشكيك في كلّ شيء، حتى غدا ذلك كلّه سبباً لحرمانكم من اللطف الإلهي في الهداية، فسدرتم في وادي الضلال والغي، كي تنتظركم عاقبة هذا الطريق الغاوي.
واليوم - والسياق ما زال يحكي خطاب مؤمن آل فرعون لهم - اتبعتم نفس الأسلوب حيال دعوة موسى(ع)، إذ تركتم البحث في أدلة نبوته وعلائم بعثته ورسالته، فابتعدت عنكم أنوار الهداية، وظلت قلوبكم سوداء محجوبة عن إشعاعاتها الهادية الوضّاءة.
الآية الكريمة التي تليها تعرّف "المسرف المرتاب" بقول الله تبارك وتعالى: (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم)(2).
هؤلاء يرفضون آيات الله البينات من دون أي دليل واضح من عقل أو نقل، بل يستجيبون في ذلك إلى أهوائهم المغرضة ووساوسهم المضلّة الواهية، كي يستمروا في رفع راية الجدل والمعارضة.
وللكشف عن قبح هذه المواقف عند الله وعند الذين آمنوا، تقول الآية: (كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا)(3).
ذلك لأنّ الجدال بالباطل (الجدال السلبي) واتخاذ المواقف ضدّ الوقائع والآيات القائمة على أساس الدليل المنطقي، يعتبر أساساً لضلال المجادلين وتنكبهم عن جادة الهداية والصواب، وكذلك في اغواء للآخرين، حيث تنطفيء أنوار الهداية في تلك الأوساط، وتتقوى أسس ودعائم حاكمية الباطل.
في النهاية، وبسبب عدم تسليم هؤلاء أمام الحق، تقرّر الآية قوله تعالى:(كذلك يطبع الله على كلّ قلب متكبر جبّار )(4).
أجل، إنّ العناد في مقابل الحق يشكّل ستاراً مظلماً حول فكر الإنسان، ويسلب منه قابليته على التشخيص الهادي الصحيح، بحيث ينتهي الأمر إلى أن يتحول القلب إلى مثل الإناء المغلق، الذي لا يمكن افراغه من محتواه الفاسد، ولا ادخال المحتوى الهادي الصحيح.
إنّ الأشخاص الذين يقفون في وجه الحق و أهله بسبب اتصاف بصفتي التكبر و التجبر، فإنّ الله تعالى سوف يسلب منهم روح طلب الحقيقة الى درجة أن الحق سيكون مراً في مذاقهم، والباطل حلواً.
وفي كلّ الأحوال، لقد قام مؤمن آل فرعون بعمله من خلال الوسائل التي وقفنا عليها آنفاً، فانتهى - كما سيظهر في الآية اللاحقة - إلى أجهاض مخطط فرعون في قتل موسى(ع)، أو على الأقل وفّر الوقت الكافي في تأخير تنفيذ هذا لمخطط إلى أن استطاع موسى(ع) أن يفلت من الخطر.
لقد كانت هذه مهمّة عظيمة أنجزها هذا الرجل المؤمن الشجاع، الذي انصب جهده في هذه المرحلة الخطيرة من الدعوة الموسوية على إنقاذ حياة كليم الله (ع): وكما سيتضح لاحقاً من احتمال أن هذا الرجل ضحى بحياته أيضاً في هذا السبيل.
1- "متكبر جبار" وصف للقلب، وليست وصفاً لشخص، بالرغم من أنّها مضافة. اشارة الى أنّ أساس التكبر والتجبر انما ينبع من القلب، ولأنّ القلب يسيطر على كلّ أعضاء ووجود الإنسان، فإنّ كلّ الوجود الإنساني سيكتسي هذا الطابع الفاسد البذيء.
2- يمكن ملاحظة ذلك في بحار الأنوار، المجلد 13، صفحة 125، نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم.
3- يوسف، الآية 39.
4- قلنا سابقاً: إنّ "لا جرم" مركبة من (لا) و (جرم) على وزن (حرم) و هي في الأصل تعني القطع واقتطاف الثمر، وهي ككلمة مركبة تعني: لا يستطيع أي شيء أن يقطع هذا العمل أو يمنعه. لذلك تستخدم بشكل عام بمعنى (حتماً) وتأتي أحياناً بمعنى القسم.