الآيتان 30 - 33

﴿وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يَـقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاَْحْزَابِ( 30 ) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوح وَعَاد وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ( 31 ) وَيَـقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ( 32 ) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَالَكُمْ مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِم وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ هَاد( 33 )﴾

التّفسير

التحذير من العاقبة!

كان الشعب المصري آنذاك يمتاز نسبياً بمواصفات التمدّن والثقافة، وقد اطّلع على أقوال المؤرخين بشأن الأقوام السابقة، أمثال قوم نوح وعاد وثمود الذين لم تكن أرضهم تبعد عنهم كثيراً، و كانوا على علم بما آل إليه مصيرهم.

لذلك كلّه فكّر مؤمن آل فرعون بتوجيه أنظار هؤلاء إلى أحداث التأريخ وأخذ يحذرهم من تكرار العواقب الأليمة التي نزلت بغيرهم، عساهم أن يتيقظوا ويتجنّبوا قتل موسى(ع) يقول القرآن الكريم حكاية على لسانه: (وقال الذي آمن يا قوم إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب).

ثم أوضح مراده من هذا الكلام بأنني خائف عليكم عن العادات والتقاليد السيئة التي كانت متفشّية في الاقوام السالفة. (مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم)(1).

لقد نالت هذه الأقوام جزاء ما كانت عليه من الكفر والطغيان، إذ قتل من قتل منهم بالطوفان العظيم، وأصيب آخرون منهم بالريح الشديدة، وبعضهم بالصواعق المحرقة، ومجموعة بالزلازل المخرّبة.

واليوم يخاطبهم مؤمن آل فرعون: ألا تخشون أن تصيبكم إحدى هذه البلايا العظيمة بسبب إصراركم على الكفر والطغيان؟ هل عندكم ضمان بأنّكم لستم مثل أولئك; أو أن العقوبات الإلهية لا تشملكم ; ترى ماذا عمل أُولئك حتى أصابهم ما أصابهم، لقد اعترضوا على دعوة الأنبياء الإلهيين، وفي بعض الأحيان عمدوا إلى قتلهم ... لذلك كلّه فإني أخاف عليكم مثل هذا المصير المؤلم!؟

ولكن ينبغي أن تعلموا أنّ ما سيصيبكم و يقع بساحتكم هو من عند أنفسكم وبماجنت أيديكم: (وما الله يريد ظلماً للعباد).

لقد خلق الله الناس بفضله وكرمه، ووهبهم من نعمه ظاهرة وباطنة، وأرسل أنبياءه لهدايتهم، ولصدّ طغيان العتاة عنهم، لذلك فإنّ طغيان العباد وصدّهم عن السبيل هو السبب فيما ينزل بهم من العذاب الأليم.

ثم تضيف الآية على لسانه: (ويا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التناد) أي يوم تطلبون العون من بعضكم البعض، إلاّ أصواتكم لا تصل إلى أي مكان.

"التناد" مأخوذة اًصلا من كلمة "ندا" وتعني "المناداة" (وهي في الأصل (التنادي) وحذفت الياء ووضعت الكسرة في محلّها) والمشهور بين المفسّرين أنّ (يوم التناد) هو من أسماء يوم القيامة، وقد ذكروا أسباباً لهذه التسمية متشابهة تقريباً، فمنهم من يقول: إن ذلك يعود إلى مناداة أهل النّار لأهل الجنّة، كما يقول القرآن: (ونادى أصحاب النّار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله) فجاءهم الجواب: (إنّ اللّه حرّمهما على الكافرين)(2)(3). أو أنّ التسمية تعود إلى مناداة الناس بعضهم لبعض طلباً للعون والمساعدة.

وهناك من قال: إن سبب التسمية يعود إلى أنّ الملائكة تناديهم للحساب، وهم يطلبون العون من الملائكة.

أو لأنّ منادي المحشر ينادي: (ألا لعنة الله على الظالمين)(4).

وقال بعضهم: إنّ السبب يعود إلى أنّ المؤمن عندما يشاهد صحيفة أعماله ينادي برضى وشوق: (هآؤم اقرؤا كتابيه)(5) بينما الكافر من شدة خوفه و هول ما يحلّ به يصرخ وينادي: (ياليتني لم أوت كتابيه)(6).

ولكن يمكن تصور معنى أوسع للآية، بحيث يشمل "يوم التناد في هذه الدنيا أيضاً، لأنّ المعنى - كما رأيناـ يعني (يوم مناداة البعض للبعض الآخر) وهذا المعنى يعبّر عن ضعف الإنسان وعجزه عندما تنزل به المحن وتحيطه المصاعب والملمّات، وينقطع عنه العون وأسباب المساعدة، فيبدأ بالصراخ ولكن بغير نتيجة.

وفي عالمنا هذا ثمّة أمثلة عديدة على "يوم التناد" مثل الأيّام التي ينزل فيها العذاب الإلهي، أو الأيّام التي يصل فيها المجتمع إلى طريق مسدود لكثرة ما ارتكب من ذنوب وخطايا، وقد نستطيع أن نتصور صوراً اُخرى عن يوم التناد في حياتنا من خلال الحالات التي يمرّ بها الناس بالمشاكل والصعاب المختلفة حيث يصرخ الجميع عندها طالبين للحل والنجاة!

الآية التاليةتفسّر يوم التناد بقولها: (يوم تولّون مدبرين مالكم من الله من عاصم).

ومثل هؤلاء حق عليهم القول: (ومن يضلل الله فما له من هاد) إنّ هؤلاء الذين ضلّوا في الحياة الدنيا بابتعادهم عن سبل الرشاد والهداية وتنكبهم عن الطريق المستقيم، سيظلّون في الآخرة عن الجنّة والرضوان والنعم الإلهية الكبرى. وقد يكون في التعبير القرآني إيماءة خفيفة إلى قول فرعون: (ما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد).


1- هود، الآية 18.

2- الحاقة، الآية 19.

3- الحاقة، الآية 25.

4- تعتبر هذه الآية هي الوحيدة في القرآن الكريم التي تشير صراحة إلى نبوة يوسف(عليه السلام) ، وإن كنّا لا نعدم إشارات متفرقة لهذه النبوّة في سياق آيات قرآنية اُخرى.

5- (الذين) هنا بدل عن "مسرف مرتاب" إلاّ أنّ المبدل عنه مفرد، في حين أنّ البدل جاء على صيغة الجمع! السبب في ذلك أنّ الخطاب لا يستهدف شخصاً معيناً وإنّما يشتمل على النوع.

6- فاعل "كبر" هو (الجدال) حيث نستفيد ذلك من الجملة السابقة، أمّا "مقتاً" فهي تمييز، فيما يرى بعض المفسّرين أنّ الفاعل هو "مسرف مرتاب" إلاّ أنّ الرأي الأوّل أفضل.