الآيات 28 - 29

﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبِيِّنَـتِ مِن رَّبِّكُمْ وَ إِن يَكُ كَـذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ( 28 ) يَـقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَـهِرِينَ فِى الاَْرْضِ فَمَن يَنْصُرُنَا مِن بَأْسِ اللهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَ مَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ( 29 )﴾

التّفسير

أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله!

مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تأريخ موسى(ع) وفرعون، لم تطرح في أي مكان آخر من القرآن الكريم. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة "مؤمن آل فرعون" الذي كان من المقربين إلى فرعون، ولكنّه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا، وإنّماتكتم عليه واعتبر نفسه.

من موقعه في بلاط فرعون - مكلفاً بحماية موسى(ع) من أي خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته.

فعندما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون، بادر بأسلوبه المؤثر للقضاء على هذا المخطط.

يقول تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله).

أتقتلوه في حين أنّه: (وقد جاءكم بالبينات من ربّكم).

هل فيكم من يستطيع أن ينكر معاجزه، مثل معجزة العصا واليد البيضاء؟ ألم تشاهدوا بأعينكم انتصاره على السحرة، بحيث أن جميعهم استسلموا له وأذعنوا لعقيدته عن قناعة تامة، ولم يرضخوا لا لتهديدات فرعون ووعيده، ولا لإغراءاته وأمنياته، بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق; في سبيل دعوة موسى، وإله موسى ... هل يمكن أن نسمّي مثل هذا الشخص بالساحر؟

فكروا جيداً، لا تقوموا بعمل عجول، تحسّبوا لعواقب الأُمور وإلاّ فالندم حليفكم.

ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين: (وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم).

إنّ حبل الكذب قصير - كما يقولون - وسينفضح أمره في النهاية إذا كان كاذباً، وينال جزاء الكاذبين، وإذا كان صادقاً ومأُموراً من قبل السماء فإنّ توعده لكم بالعذاب حاصل شئتم أم أبيتم، لذا فإنّ قتله في كلا الحالين أمر بعيد عن المنطق و الصواب.

ثم تضيف الآيات: (إنّ الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذّاب).

فإذا كان موسى سائراً في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.

ولنا أن نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة برغم أنّها تحمل معنيين إلاّ أن "مؤمن آل فرعون" يهدف من خلالها إلى توضيح حال الفراعنة.

والتعبير الذي يليه يفيد أنّ فرعون، أو بعض الفراعنة - على الأقل - كانوا يؤمنون بالله، وإلاّ فإن تعبير "مؤمن آل فرعون" في خلاف هذا التأويل سيكون دليلا على إيمانه بإله موسى(ع) وتعاونه مع بني إسرائيل، وهذا ما لا يتطابق مع دوره في تكتمه على إيمانه، ولا يناسب أيضاً مع أسلوب "التقية" التي كان يعمل بها.

و بالنسبة للتعبير الآنف الذكر (و إن يك كاذباً... ) فقد طرح المفسّرون سؤالين:

الأوّل: إذا كان موسى(ع) كاذباً، فإنّ عاقبة كذبه سوف لن تقتصر عليه و حسب، وإنّما سوف تنعكس العواقب السيئة على المجتمع برمته.

الثّاني: أما لو كان صادقاً، فستتحقق كلّ تهديداته ووعيده لا بعض منها، كما في تعبير "مؤمن آل فرعون"؟

بالنسبة للسؤال الأول، نقول: إنّ المراد هو معاقبة جريمة الكذب التي تشمل شخص الكذّاب فقط ويكفينا العذاب الالهي لدفع شرّه. وإلاّ فكيف يمكن لشخص أن يكذب على الله، ويتركه سبحانه لشأنه كي يكون سبباً لإضلال الناس وإغوائهم؟

وبالنسبة للسؤال الثّاني، من الطبيعي أن يكون قصد موسى(ع) من التهديد بالعذاب، هو العذاب الدنيوي والأخروي، والتعبير بـ "بعض" إنّما يشير إلى العذاب الدنيوي، وهو الحد الأدنى المتيقّن حصوله في حالة تكذيبكم إيّاه.

وفي كلّ الأحوال تبدو جهود "مؤمن آل فرعون" واضحة في النفود بشتى الوسائل والطرق إلى أعماق فرعون وجماعته لتثنيهم عن قتل موسى(ع).

ونستطيع هنا أن نلخص الوسائل التي اتبعها بما يلي:

أوضح لهم أولا أنّ عمل موسى(ع) لا يحتاج إلى ردّة فعل شديدة كهذه.

ثم عليكم أن لا تنسوا أنّ الرجل يملك "بعض" الأدلة، ويظهر أنّها أدلة معتبرة، لذا فإنّ محاربة مثل هذا الرجل تعتبر خطراً واضحاً.

والموضوع برمته لا يحتاج إلى موقف منكم، فإذا كان كاذباً فسينال جزاءه من قبل الله، ولكن يحتمل أن يكون صادقاً، وعندها لن يتركنا الله لحالنا.

ولم يكتف "مؤمن آل فرعون" بهذا القدر، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلين وحكمة، حيث قال لهم كما يحكي ذلك القرآن من أنّه قال لهم أن بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها و نعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي. (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا).

ويحتمل أن يكون غرضه: إنكم اليوم تملكون كلّ أنواع القوّة، وتستطيعون اتخاذ أي تصميم تريدونه اتجاه موسى (ع)، ولكن لا تغرنكم هذه القوّة، ولا تنسوا النتائج المحتملة وعواقب الأُمور.

ويظهر أنّ هذا الكلام أثر في حاشية فرعون وبطانته، فقلّل من غضبهم وغيظهم، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع، فقطع الكلام بالقول: (قال فرعون ما أريكم إلاّ ما أرى) وهو إنّي ارى من المصلحة قتل موسى و لا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.

ثمّ إنني : (و ما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد).

و هذه هو حال كافة الطواغيت و الجبّارين على طول التأريخ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره، و لا يسمحون لأحد في إبداء وجهة نظر مخالفة لما يقولون، فهم يظنون أن عقلهم كامل، وأن الآخرين لا يملكون علماً ولا عقلا... وهذا هو منتهى الجهل والحماقة.

بحوث

أوّلا: من هو مؤمن آل فرعون؟

نستفيد من الآيات القرآنية أنّ "مؤمن آل فرعون" هو رجل من قوم فرعون آمن بموسى(ع)، وظلّ يتكتم على إيمانه، ويعتبر نفسه مكلفاً بالدفاع عنه(ع).

لقد كان الرجل - كما يدل عليه السياق - ذكياً و لبقاً، يقدّر قيمة الوقت، ذا منطق قوي، حيث قام في اللحظات الحسّاسة بالدّفاع عن موسى(ع) وإنقاذه من مؤامرة كانت تستهدف حياته.

تتضمن الرّوايات الإسلامية وتفاسير المفسّرين أوصافاً اُخرى لهذا الرجل سنتعرض لها بالتدريج.

البعض مثلا يعتقد أنّه كان ابن عم - أو ابن خالة - فرعون، ويستدل هذا الفريق على رأيه بعبارة (آل فرعون) إذ يرى أنّها تطلق على الأقرباء، بالرغم من أنّها تستخدم أيضاً للأصدقاء والمقربين.

والبعض قال: إنّه أحد أنبياء بني إسرائيل كان يعرف اسم "حزبيل" أو "حزقيل"(1).

فيما قال البعض الآخر: إنّه خازن خزائن فرعون، والمسؤول عن الشؤون المالية(2).

وينقل عن ابن عباس أنّه قال: إنّ هناك ثلاثة رجال من بين الفراعنة آمنوا بموسى(ع)، وهم آل فرعون، وزوجة فرعون، والرجل الذي أخبر موسى قبل نبوته بتصميم الفراعنة على قتله، حينما أقدم موسى على قتل القبطي، ونصحه بالخروج من مصر بأسرع وقت: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من الناصحين)(3).

لكن القرائن تفيد أن ثمّة مجموعة قد آمنت بموسى(ع) بعد مواجهة موسى مع السحرة، ويظهر من السياق أنّ قصة مؤمن آل فرعون كانت بعد حادثة السحرة.

والبعض يحتمل أنّ الرجل كان من بني إسرائيل، لكنّه كان يعيش بين الفراعنة ويعتمدون عليه، إلاّ أنّ هذا الإحتمال ضعيف جداً، ولا يتلاءم مع عبارة "آل فرعون" وأيضاً نداء "يا قوم".

ولكن يبقى دوره مؤثراً في تأريخ موسى (ع) وبني إسرائيل حتى مع عدم وضوح كلّ خصوصيات حياته بالنسبة لنا.

ثانياً: التقية أداة مؤثّرة في الصراع

(التقية) أو (كتمان الإعتقاد) ليست من الضعيف أو الخوف كما يظن البعض، بل غالباً ما توظّف كأسلوب مؤثّر في إدارة مع الظالمين و الجبارين والطغاة، إذ أن كشف أسرار العدو لا يمكن أن يتمّ إلاّ عن طريق الأشخاص الذين يعملون بأسلوب التقية.

وكذلك الضربات الموجعة والمباغتة للعدو، لا تتمّ إلاّ عن طريق التقية وكتمان الخطط وأساليب الصراع.

لقد كانت "تقية" مؤمن آل فرعون من أجل خدمة دين موسى(ع)، والدفاع عنه في اللحظات الصعبة. ثمّ هل هناك أفضل من أن يحظى الإنسان بشخص مؤمن بقضيته ودعوته يزرعه في جهاز عدوه بحيث يستطيع من موقعه أن ينفذ إلى أعماق تنظيمات العدو، ويحصل على المعلومات و الأسرار ليفيد بها قضيته ودعوته، و يخبر بها أصحابه و قد تقضي الضرورة النفوذ في ذهينة العدو أيضاً وتغييرها لمصالح قضيته ودعوته ما أستطاع إلى ذلك سبيلا.

الآن نسأل: هل كان بوسع مؤمن آل فرعون إسداء كلّ هذه الخدمات لدعوة موسى(ع) لو لم يستخدم أُسلوب التقية؟

لذلك كلّه ورد في حديث عن الإمام الصادق قوله(ع): (التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية ترس الله في الأرض، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل"(4).

إنّ فاعلية هذا المبدأ تكتسب أهمية استثنائية في الوقت الذي يكون فيه المؤمنون قلّة خاضعة للأكثرية التي لا ترحم ولا تتعامل وفق المنطق، فالعقل لا يسمح بإظهار الإيمان (باستثناء الضرورات) والتفريط بالطاقات الفعّالة، بل الواجب يقضي بكتمان العقيدة والتخفي على المعتقد في مثل هذا الوضع لكي يصار إلى تجميع الطاقات والقوى والإفادة منها لتسديد الضربة النهائية والقاصمة في الوقت والظرف المناسبين.

إنّ الرّسول الأعظم(ص) إلتزم بنفسه هذا المبدأ، حينما أبقى دعوته سريّة لبضع سنوات، وحينما ازداد أتباعه و تشكّلت النواة الإيمانية القادرة للحفاظ على الدعوة الجديدة صدع (ص) بأمره تعالى أمام القوم.

ومن بين الأنبياء الآخرين نرى إبراهيم (ع) الذي استخدم أُسلوب التقية، ووظّف هذا المبدأ في عمله الشجاع الذي حطّم فيه الأصنام، وإلاّ فلولا التقية لم يكن بوسعه أن ينجح في عمله أبداً.

كذلك استفاد أبو طالب عم الرسول من أسلوب التقية في حماية رسول الله ودعوته الناشئة، إذ لم يعلن عن صريح إيمانه برسول الله وبالإسلام إلاّ في فترات ومواقف خاصّة، كي يستطيع من خلال ذلك لنهوض بأعباء دوره المؤثر في حفظ حياة رسول الله (ص) حيال مكائد وطغيان الشرك القرشي.

من هنا يتبيّن خطأ رأي من يعتقد بأنّ "التقية" كمبدأ وكأُسلوب، تختص بالشيعة دون غيرهم، أو أنّها كدليل على الضعف والجبن، فيما هي موجودة في جميع المذاهب دون استثناء.

ولمزيد من التوضيح، باستطاعة القاريء الكريم أن يرجع إلى بحثنا في تفسير الآية 28 من آل عمران والآية 106 من النحل.

ثالثاً: من هم الصدّيقون؟

في الحديث عن رسول الله(ص) أنّه قال: "الصديقون ثلاثة: (حبيب النجار) مؤمن آل يس الذي يقول:(فاتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجراً) و(حزقيل) مؤمن آل فرعون و (علي بن أبي طالب و هو أفضلهم".

والملاحظ في هذا الحديث أنّه يروى في مصادر الفريقين(5).

إنّ تأريخ النبوات يظهر مكانة هؤلاء في دعوات الرسل، إذ صدّقوهم في أحرج اللحظات، وكانوا في المقدمة، فاستحقوا لقب "الصدّيق" خاصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، الذي وقف منذ مطلع عمره الشريف وحتى نهايته مناصراً لرسول الله (ص) في حياته و بعد رحلته و ذاباً عن الدعوة الجديدة، واستمرّ في كلّ المراحل و الأشواط في تقديم التضحيات بمنتهى الاخلاص.


1- مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 521.

2- يلاحظ الصدوق في "الأمالي" وابن حجر في الفصل الثّاني الباب التاسع من "الصواعق".

3- "داب" على وزن (ضرب) تعني في الأصل الإستمرار في السير، و (دائب) تطلق على الكائن الذي يستمر في سيره ثمّ أصبحت بعد ذلك تستعمل لأي عادة مستمرة ... والمقصود هنا من (دأب قوم نوح) هو قيامهم واستمرارهم واعتيادهم على الشرك والطغيان والظلم والكفر.

4- الأعراف، الآية 50.

5- ورد هذا المعنى أيضاً في حديث للإمام الصادق(عليه السلام) في كتاب "معانى الأخبار" للصدوق.