الآيات 13 - 15
﴿هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ( 13 ) فَادْعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـفِرُونَ( 14 ) رَفِيعُ الدَّرَجَـتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ( 15 )﴾
التّفسير
ادع الله وحده رغماً على الكافرين:
هذه الآيات المتضمنة للنصيحة والتهديد والإنذار استدلال على المسائل المطروحة في الآيات السابقة، فهي استدلال على التوحيد والرّبوبية ونفي الشرك وعبادة الأصنام.
تقول الآية أوّلا: (هو الذي يريكم آياته).
فهي نفس الآيات والعلائم الآفاقية والأنفسية التي تملأ عالم الوجود، وتستوعب بإشراقتها أركانه، وتضع بصماتها وآثارها العجيبة على جدران الوجود وجميع أرجاءه.
ثم توضح واحدة من هذه الآيات: (وينزل لكم من السماء رزقاً).
قطرات المطر تعطي الحياة، ونور الشمس يحيي الكائنات، والهواء سرّ الوجود والحياة ; حياة جميع الكائنات، حيوانات نباتات، أناس... كلّها تنزل من السماء. وتشكّل هذه الأثافي الثلاث فيما بينها قوام الحياة، حيث تتفرع الأشياء الأُخرى من أصولها.
بعض المفسّرين أطلق على السماء اسم "عالم الغيب" وعلى الأرض اسم "عالم الشهود" ونزول الرزق من السماء إلى الأرض هو بمعنى الظهور من عالم الغيب إلى عالم الشهود.
ولكن هذا التّفسير فضلا عن منافاته لظاهر الآية، لم نعثر له على دليل وشاهد، صحيح أنّ الوحي والآيات، هما غذاء الروح، ينزلان من سماء الغيب، وأنّ المطر والشمس والنور التي تعتبر غذاء الجسد تنزل من السماء الظاهرية، وهما متناسقان مع بعضهما. ولكن ينبغي أن لا نتصوّر أن عبارة (آياته) التي نحن بصددهاتشير إلى مفهوم أوسع، أو تشير بالخصوص إلى الآيات التشريعية، لأنّ عبارة (يريكم آياته) وردت مراراً في القرآن الكريم، وهي عادةً ما تطلق على الآيات الدالة على التوحيد في عالم الوجود.
مثلا، في أواخر هذه السورة (المؤمن) وبعد ذكر النعم الإلهية، من قبيل الزواحف والفلك تقول: (ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون)(1).
إنّ تعبير "يريكم" ينسجم في العادة مع الآيات التكوينية، بينما جرت العادة في الآيات التشريعية على استخدام تعابير مثل (أوحى) و (يأتيكم).
من هنا يتبيّن أنّ اعتبار هذه الآيات بمعنى الآيات التشريعية، وأنّها أعم من التشريعية والتكوينية، كما يذهب بعض كبار المفسّرين القدماء والمحدثين إلى ذلك، لا يستند إلى دليل، ولا تقوم عليه حجّة.
ولكن من الضروري أن نلتفت إلى أنّ القرآن يختار الإشارة إلى آية الرزق من بين آيات الله المبثوثة في السماء والأرض وفي وجود الإنسان، ذلك لأنّ الرزق هو أكثر ما يشغل البال والفكر، واحياناً نرى الإنسان يستنجد بالأصنام من أجل زيادة الرزق، وإنقاذه من وضعه المتردي، لذا يأتي القرآن ليؤّكد أن جميع الأرزاق هي بيد الله ولا تستطيع الأصنام أو غيرها أن تفعل أي شيء.
وأخيراً تضيف الآية الكريمة: برغم جميع هذه الآيات البينات التي تسود هذا العالم الواسع، وتغمد الوجود بضيائها، إلاّ أنّ العيون العمياء والقلوب المحجوبة لا تكاد ترى شيئاً، وإنّما يتذكر - فقط - من ينيب إلى خالقه ويغسل قلبه وروحه من الذنوب: (وما يتذكر إلاّ من ينيب).
الآية التي بعدها ترتب نتيجة على ما سبق فتقول: (فادعوا الله مخلصين له الدين) إنهضوا واضربوا الأصنام وحطموها بفؤوس الإيمان، وامحوا آثارها من ذاكرة الفكر والثقافة والمجتمع.
ومن الطبيعي أنّ وقفتكم الرّبانية هذه ستؤذي الكافرين والمعاندين، لكن عليكم أن لا تسمحوا للخوف أن يتسرّب الى قلوبكم، أخلصوا نيّاتكم: (ولو كره الكافرون).
ففي المجتمع الذي يشكل فيه عبدة الأصنام الغالبية، يكون طريق أهل التوحيد موحشاً في باديء الأمر، مثل شروق الشمس في بدايات الصباح الأولى وسط عالم الظلام والخفافيش، لكن عليكم أن لا تركنوا إلى ردود الأفعال غير المدروسة، تقدموا بحزم وإصرار، وارفعوا راية التوحيد والإخلاص، وانشروها في كلّ مكان.
تصف الآية التي تليها خالق الكون ومالك الحياة والموت، بعض الصفات المهمّة، فتقول: (رفيع الدرجات) فهو تعالى يرفع درجات العباد الصالحين كما في قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(2).
وحتى بين النّبيين فقد فضّل الله بعضهم على بعض بسبب اجتيازهم للإمتحان والإختبار أكثر من غيرهم، فأخلصوا لله تعالى بمراتب أعلى وأفضل: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)(3).
لقد استخلف الله الإنسان في هذه الأرض، وجعل منه خليفته، وفضّل البعض على البعض الآخر وفقاً لاختلاف الخصائص والقابليات لدى الإنسان: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات)(4).
فإذا كانت الآية السابقة قد دعت إلى الإخلاص في الدين، فإنّ الآية التي بين أيدينا تقول: إنّ الله تبارك وتعالى سوف يرفع درجاتكم بمقدار إخلاصكم، فهو رفيع الدرجات.
إنّ صحة كلّ هذه المعاني منوطة بتفسير (رفيع) بالرافع، إلاّ أنّ البعض ذهب إلى أنّ (رفيع) في الآية بمعنى (المرتفع) وبناء على هذا المعنى فإنّ (رفيع الدرجات) تشير إلى الصفات العالية الرفيعة لله تعالى، فهو رفيع في علمه، وفي قدرته، وفي جميع أوصافه الكمالية والجمالية، هو تعالى رفيع في أوصافه بحيث أنّ عقل الإنسان برغم قابليته واستعداده لا يستطيع أن يدركها.
وبحكم أنّ اللغة تعطي صلاحية متساوية للمعنيين الآنفين لكمة (رفيع) فإنّ التّفسيرين واردان، ولكن لأنّ الآية تتحدث عن إعطاء الأجر لعباد الله الصالحين، والذي هو الدرجات الرفيعة، لذا فإنّ المعنى الأوّل أظهر.
لكن لا مانع من الجمع بين التّفسيرين، لأننا نعتقد جواز استخدام اللفظ لأكثر من معنى، خصوصاً في إطار الآيات التي تشتمل ألفاظها على معاني كبيرة وواسعة.
تضيف الآية بعد ذلك قوله تعالى: (ذو العرش).
فكل عالم الوجود تحت حكومته وفي قبضته، ولا منازع له في حكومته، وهذا بحد ذاته ذليل على أنّ تحديد درجات العباد حسب أفضليتهم إنّما يتمّ بقدرته تعالى.
وبما إنّنا تحدثنا بالتفصيل عن "العرش" فلا حاجة هنا للتكرار.
وفي وصف ثالث تضيف الآية أنّه هو تعالى الذي: (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) وهذه الروح هي نفس القرآن ومقام النبوّة والوحي، حيث تحيي هذه الأُمور القلوب، وتكون في الانسان كالروح بالنسبة لجسد الإنسان.
إنّ قدرته من جانب، ودرجاته الرفيعة من جانب آخر، تقتضي أن يعلن عزّوجلّ عن برنامجه وتكاليفه عن طريق الوحي، وهل ثمّة تعبير أجمل من الروح، هذه الروح التي هي سرّ الحياة والحركة والنشاط والتقدم.
لقد ذكر المفسّرون احتمالات متعدّدة لمعنى الروح، لكن من خلال القرائن الموجودة في الآية، وممّا تفيده الآية (5) من سورة "النحل" التي تقول: (ينزل الملائكة بالرّوح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذورا أنّه لا إله إلاّ أنا فاتقون)وكذلك ممّا تفيده آية (52) من سورة "الشورى" التي تخاطب الرّسول(ص)وتوضح له نزول القرآن و الإيمان والروح بقوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) من كلّ ذلك يتبيّن أنّ المقصود بالروح في الآية التي نحن بصددها، هو الوحي والقرآن والتكليف الإلهي.
تفيد عبارة (من أمره) أنّ ملك الوحي المكلّف بإبلاغ هذه الروح، إنّما يتحدث ويتكلّم بأمر الله لا من عند نفسه.
أمّا قوله تعالى: (على من يشاء من عباده) فلا تعني أنّ هبة الوحي تعطى لأي كان، لأن مشيئته تعالى هي عين حكمته، وكل من يجده مؤهلا لهذا المنصب يخصه بهذا الأمر، كما نقرأ في الآية (124) من سورة الأنعام حيث قوله تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).
وعندما نجد بعض الرّوايات المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) تُفسّر الروح في الآية أعلاه بـ "روح القدس" وتخصّها بالنبي(ص) والأئمّة المعصومين من أهل البيت(عليهم السلام)، فإنّ ذلك لا يتعارض مع ما قلناه، لأنّ "روح القدس" هي نفس الروح العلوية المقدسة والمنصب المعنوي العظيم الذي يتجسّد كاملا في الأنبياء والأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، وكثيراً ما يتجلّى جزء منها في الأشخاص الآخرين الذي متى ما ساعدتهم فيوضات روح القدس فإنّه سيقومون بأعمال مهمّة، وتنطق لسانهم بالحكمة. (لمزيد من التوضيح يمكن مراجعة تفسير الآية 87 من سورة البقرة).
والملفت للنظر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن رزق الأجساد من مطر ونور وهواء، فيما تتحدث هذه الآيات عن الرزق "الروحي" والمعنوي المتمثل في نزول الوحي.
والآن لنرى ما هو الهدف من إنزال روح القدس على الأنبياء(عليهم السلام)، ولماذا يسلك الأنبياء هذه الطرق الطويلة المليئة بالعقبات والصعاب.
الإجابة يقدمها القرآن في نهاية الآية بقوله: (لينذر يوم التلاق).
أنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم ...
إنّه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين...
إنّه اليوم الذي يجمع على ساحة القيامة بين رموز الحق وقادته، ورموز الباطل وزعامته وأنصاره ...
إنّه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين...
إنّه يوم التقاء الظالم والمظلوم...
هو يوم التقاء الإنسان والملائكة ...
وأخيراً، يوم التلاق، هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة العدل الإلهي.
إذاً، هدف بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية هو تحذير الإنسان من يوم التلاقي الكبير ... إنّه لاسم عجيب (يوم التلاق) الذي انتخبته الآية اسماً ليوم القيامة!
1- البقرة، الآية 253.
2- الأنعام، الآية 165.
3- الطارق، الآية 9.
4- الزلزال، الآية 2.
5- التكوير، الآية 10.