الآيات 1 - 3
﴿حم( 1 ) تَنْزِيلُ الْكِتَـبِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ( 2 ) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ( 3 )﴾
التّفسير
صفات تبعث الأمل في النفوس:
تواجهنا في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده في السور السابقة، حيثُ افتتحت السورة بـ "حاء" و"ميم".
وبالنسبة للحروف المقطعة في مطلع السور كانت لنا بحوث كثيرة في معانيها ودلالاتها، تعرضنا إليها أثناء الحديث عن بداية سورة "البقرة"، وسورة "آل عمران" و "الأعراف" وسور اُخرى.
الشيء الذي تضيفه هنا، هو أنّ الحروف التي تبدأ به سورة المؤمن التي نحن الآن بصددها، تشير - كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات ومن آراء المفسّرين - إلى أسماء الله التي تبدأ بحروف هذه السورة، أي "حميد" و "مجيد" كما ورد ذلك عن الامام الصادق(ع)(1).
البعض الآخر ذهب إلى أنّ "ح" إشارة إلى أسمائه تعالى مثل "حميد" و "حليم" و "حنان"، بينما "م" إشارة إلى "ملك" و "مالك" و "مجيد".
وهناك احتمال في أن حرف "الحاء" يشير إلى الحاكمية، فيما يشير حرف "الميم" إلى المالكية الإلهية.
عن ابن عباس، نقل القرطبي "في تفسيره" أن "حم" من أسماء الله العظمى(2).
ويتّضح في نهاية الفقرة أنّ ليس ثمّة من تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة الذكر، بل هي تعمد جميعاً إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.
في الآية الثّانية - كما جرى على ذلك الأُسلوب القرآني ـ، حديث عن عظمة القرآن، وإشارة إلى أنّ هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحدّ، إنّما يشتكّل في مادته الخام من حروف الألف باء... وهنا يكمن معنى الإعجاز.
يقول تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم).
إنّ قدرته تعالى تعجز الأشياء الأُخرى عن الوقوف إزاءه، فقدرته ماضية في كل شيء، وعزته مبسوطة، أمّا علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال، بحيث يستوعب كلّ احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.
والآية التي بعدها تعدّد خمساً من صفاته تعالى، يبعث بعضها الأمل والرجاء، بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر.
يقول تعالى : (غافر الذنب).
(قابل التوب)(3).
(شديد العقاب).
(ذي الطول)(4).
(لا إله إلاّ هو إليه المصير).
أجل إنّ من له هذه الصفات هو المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في العقاب والثواب.
ملاحظات
تنطوي الآيات الثلاث الآنفة الذكر على مجموعة من الملاحظات، نقف عليها من خلال النقاط الآتية:
أولا: في الآيات أعلاه (آية 2 و3) بعد ذكر الله وقبل ذكر المعاد (إليه المصير)اشتملت الآيتان على ذكر سبع صفات للذات الإلهية، بعضها من "صفات الذات" والبعض الآخر منها من "صفات الفعل" التي انطوت على إشارات للتوحيد والقدرة والرحمة والغضب، ثمّ ذكرت "عزيز" و "عليم" وجعلتهما بمثابة القاعدة التي نزل الكتاب الإلهي (القرآن) على أساسهما.
أمّا صفات "غافر الذنب" و "قابل التوب" و "شديد العقاب" و "ذي الطول" فهي بمثابة المقدمات اللازمة لتربية النفوس وتطويعها لعبادة الواحد الأحد.
ثانياً: ابتدأت الصفات الآنفة الذكر بصفة "غافر الذنب" أوّلا و "ذي الطول" أخيراً، أي صاحب النعمة والفضل كصفة أخيرة. وفي موقع وسط جاءت صفة "شديد العقاب" وهكذا ذكرت الآية الغضب الإلهي بين رحمتين. ثمّ إنّنا نلاحظ أنّ
الغضب الإلهي جاء وسط حديث الآية عن ثلاث صفات من صفات الرحمة الإلهية، وفي كلّ ذلك دليل على المعنى المكنون في "يا من سبقت رحمته غضبه".
ثالثاً: لا يقتصر المعنى في جملة (إليه المصير) على عودة الجميع ورجوعهم كافةً إليه تعالى في يوم القيامة، و إنّما تشير أيضاً إلى الإنتهاء المطلق لكل الأُمور في هذا العالم والعالم الآخر إليه تعالى، وانتهاء سلسلة الوجود إلى قدرته وإرادته .
رابعاً: جاء تعبير (لا إله إلاّ هو) في ختام الصفات، وهو حكاية عن مقام التوحيد والعبودية الذي لا يليق بغير الله تعالى، حيث تنتهي أمام عبوديته كل العبوديات الأُخرى. وهكذا يكون تعبير "لا إله إلاّ هو" بمثابة النتيجة النهائية الإخيرة للبيان القرآني في هذا المورد.
ولذلك نقرأ في حديث عن ابن عباس أنّه تعالى: (غافر الذنب) للشخص الذي يقول: لا إله إلاّ الله وهو تعالى: (قابل التوب) للذي يقرّ بالعبودية ويقول:لا إله إلاّ الله. و هو(شديد العقاب) للذي لا يقرّ ولا يقول: لا إله إلا الله. وهو (ذي الطول) وغني عن الشخص الذي لا يقول: لا إله إلا الله.
من كلّ ذلك يتّضح أن محور الصفات المذكورة هو التوحيد، الذي يدور مدار الإعتقاد الصحيح والعمل الصالح.
خامساً: من وسائل الغفران في القرآن:
ثمّة في كتاب الله أُمور كثيرة تكون أسباباً وعناوين للمغفرة ومحو الذنوب والسيئات، وفيما يلي تشير إلى بعض هذه العناوين:
1 - التوبة: إذ في آية (الثامنة) من سورة التحريم قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربّكم أن يكفر عنكم سيئاتكم).
2 - الإيمان والعمل الصالح: حيث نقرأ في سورة (محمّد - آية 2) قوله تعالى: (والذين آمنوا و عملوا الصالحات وآمنوا بما نزّل على محمد وهو الحق من ربّهم كفر عنهم سيئاتهم).
3 - التقوى: ونرى مصداقها في قوله تعالى: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم)(5).
4 - الهجرة والجهاد والشهادة: ومصداقها قوله تعالى في الآية (195) من سورة "آل عمران": (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرنّ عنهم سيئاتهم).
5 - صدقة السر: وذلك قوله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وأن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئائكم)(6).
6 - الإقراض: كما في قوله تعالى: (إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم)(7).
7 - اجتناب كبائر الذنوب: حيث يقول تعالى في(8): (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم).
وهكذا يتبيّن لنا أن أبواب المغفرة الإلهية مفتوحة من كلّ مكان، وأنّ عباد الله بوسعهم طرق هذه الأبواب والولوج إلى المغفرة الإلهية. وقد رأينا في الآيات الآنفة الذكر سبعة من هذه الأبواب التي تضمن الخلاص لمن يلج أي واحد منها، أو كلّها جميعاً.
1- "توب" يمكن أن تكون جمع "توبة" وأن تكون مصدراً (يلاحظ مجمع البيان).
2- "طول" على وزن "قول" بمعنى النعمة والفضل، وبمعنى القدرة والقوة والمكنة ومايشبه ذلك. بعض المفسّرين يقول: إنّ "ذي الطول" هو الذي يبذل النعم الطويلة والجزيلة للآخرين، ولذلك فإن معناها أخص من معنى "المنعم" كما يقول صاحب مجمع البيان.
3- الأنفال، آية 29.
4- البقرة، آية 271.
5- التغابن، الآية 17.
6- النساء، آية 31.
7- "ليدحضوا" مصدرها ثلاثي (إدحاض) وتعني الإزالة والإبطال.
8- الطارق، الآية 17.