الآيات 71 - 83

﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ إِنِّى خَـلِقُ بَشَراً مِّن طِين (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَـجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـفِرِينَ (74) قَالَ يَـإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُـخْلَصِينَ(83)﴾

التّفسير

تكبّر الشيطان وطرده من رحمة الله!

هذه الآيات- كما قلنا- توضيح لإختصام (الملأ الأعلى) و (إبليس) وبحث حول مسألة خلق آدم (ع)، وبصورة عامّة فإنّ الهدف من توضيح هاتين المسألتين:

أوّلا: تذكير الإنسان بقيمة وجوده، وسجود كلّ الملائكة لجدّه آدم، فكيف بالإنسان الذي كرّمه الباريء عزّوجلّ كلّ هذا التكريم يقع أسيراً في حبائل الشيطان وهوى النفس؟ وكيف ينسى قيمة وجوده، أو يسجد لأصنام صنعها من الحجر والخشب؟!

من المعروف أنّ أحد الأساليب المؤثّرة في التربية، هو إعطاء شخصية للأفراد الذين يتلقّون التربية. وبعبارة أصحّ: تذكيرهم بشخصيتهم الرفيعة وقيمة وجودهم، فإن تذكّروا هذا الأمر، أحسّوا بأنّ الذلّة والحقارة لا تليقان بهم، فيتجنبوهما تلقائياً.

ثانياً: إنّ عناد الشيطان وغروره وتكبّره وحسده تسبّبت في سقوطه من مقامه الشامخ الرفيع إلى الحضيض، وغرقه بوحل اللعنة وإلى الأبد، ويمكن أن يكون هذا المثال عبرة لكلّ لجوج ومغرور ليعتبر ويترك ممارسات الشيطان.

ثالثاً: تعريف بني آدم بعدوّهم الكبير الذي أقسم الشيطان على إغوائهم، كي يكونوا جميعاً على حذر منه ويجتنبوا السقوط في حبائل أسره.

كلّ هذه الاُمور، هي تكملة للأبحاث السابقة، وعلى أيّة حال فإنّ الآية الاُولى تذكر بإخبار الله عزّوجلّ ملائكته بأنّه سيخلق بشراً من الطين: (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشراً من طين).

ولكي لا يتصوّر البعض أنّ أصل خلق الإنسان هو ذلك الطين وحسب أضافت الآية التالية: (فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين).

وبهذا الشكل إنتهت عملية خلق الإنسان، وذلك بعد إمتزاج روح الباريء عزّوجلّ الطاهرة مع التراب. فخُلق موجود عجيب لم يسبق له مثيل، ولم توضع لرقيّه وإنحطاطه أيّة حدود. الموجود الذي زوّده الباريء عزّوجلّ بإستعدادات خارقة تجعله لائقاً لخلافة الله، والذي سجدت له الملائكة بأجمعها فور إكتمال عملية خلقه (فسجد الملائكة كلّهم أجمعون).

إلاّ أنّ إبليس كان الوحيد الذي أبى أن يسجد لآدم لتكبّره وتمرّده وطغيانه، ولهذا السبب أنزل من مقامه الرفيع إلى صفوف الكافرين: (إلاّ إبليس إستكبر وكان من الكافرين).

نعم، فالتكبّر والغرور من أقبح الاُمور التي يبتلى بها الإنسان، إذ أنّهما يسدلان الستار على عينه وبصيرته، ويحرماه من إدراك الحقائق وفهمها، ويؤدّيان به إلى التمرّد والعصيان، ويخرجانه أيضاً من صفوف المؤمنين المطيعين لله إلى صفّ الكافرين الباغين والطاغين، ذلك الصفّ الذي يترأسه إبليس ويقف في مقدّمته.

وهنا إستجوب الباريء عزّوجلّ إبليس: (قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) من البديهي أنّ عبارة (يدي) لا تعني الأيدي الحقيقيّة المحسوسة، لأنّ الباريء عزّوجلّ منزّه عن كافّة أشكال الجسم والتجسيم، وإنّما "اليد" هنا كناية عن القدرة، ومن الطبيعي أنّ الإنسان يستعمل يديه ليظهر قدرته على إنجاز العمل، وكثيراً ما تستخدم اليد بهذا المعنى في محادثاتنا اليومية، إذ يقال: إنّ البلد الفلاني بيد المجموعة الفلانية، أو إنّ المسجد الفلاني بني على يد الشخص الفلاني، وأحياناً يقال: إنّ يدي قصيرة، أو إنّ يدك مملوءة، اليد في كلّ تلك الجمل ليس المقصود منها اليد الحقيقية التي هي أحد أعضاء الجسم، بل كناية عن القدرة والسلطة والتمكّن.

ومن هنا فإنّ الإنسان ينفّذ أعماله المهمّة بكلتا يديه، وإستخدامه كلتا يديه يبيّن إهتمامه وتعلّقه بذلك العمل، ومجيء هذه العبارة في الآية المذكورة أعلاه إنّما هو كناية عن الإهتمام الخاصّ الذي أولاه الباريء عزّوجلّ لعملية خلق الإنسان.

ثمّ تضيف الآية: (استكبرت أم كنت من العالين) أي أكان عدم سجودك لأنّك استكبرت، أم كنت من الذين يعلو قدرهم عن أن يؤمروا بالسجود؟!

ومن دون أي شكّ فإنّه لا أحد يستطيع أن يدّعي أنّ قدرته ومنزلته أكبر من أن يسجد لله (أو لآدم بأمر من الله) وبهذا فإنّ الإحتمال الوحيد المتبّقي هو الثاني، أي التكبّر.

وقال بعض المفسّرين: إنّ كلمة (عالين) تعني- هنا- الأشخاص الذين يسيرون دوماً في طريق الغرور والتكبّر، وطبقاً لهذا فإنّ معنى الآية يكون: هل أنّك إستكبرت الآن، أم كنت دائماً هكذا؟!

ولكن المعنى الأوّل أنسب.

إلاّ أنّ إبليس إختار- بكلّ تعجّب- الشقّ الثاني، وكان يعتقد بأنّه أعلى من أن يؤمر بذلك، لذلك قال- بكلّ وقاحة- أثناء تبيانه أسباب معارضته لأوامر الباريء عزّوجلّ: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).

وعلّل إبليس عدم سجوده لآدم وعصيانه أمر الله بالمقدّمات التالية:

أوّلا: إنّني خلقت من نار، أمّا هو فقد خلق من طين، وهذه حقيقة صرّح بها القرآن المجيد في الآيتين 14 و15 من سورة الرحمن : (خلق الإنسان من صلصال كالفخّار وخلق الجانّ من مارج من نار).

ثانياً: إنّ الشيء المخلوق من النار أفضل من الشيء المخلوق من التراب، لأنّ النار أشرف من التراب.

ثالثاً: لا يحقّ لأحد أن يأمر مخلوقاً بالسجود لمخلوق آخر دنى منه.

وخطأ إبليس يكمن في المقدّمتين الأخيرتين، وذلك من عدّة وجوه:

أوّلا: لأنّ آدم لم يكن تراباً فقط، وإنّما نفخت فيه الروح الإلهية، وهذا هو سبب عظمته، وإلاّ فأين التراب من كلّ هذا الفخر والإستعداد والتكامل؟

ثانياً: التراب ليس بأدنى من النار، وإنّما هو أفضل منها بكثير، لأنّ كلّ الحياة أصلها من التراب، فالنباتات وكلّ الموجودات الحيّة بأجمعها تستمدّ غذاءها ومصدر حياتها من التراب، وكلّ المعادن الثمينة مخفية في وسط التراب، خلاصة الأمر أنّ التراب هو مصدر كلّ أنواع البركة، والنار رغم أهميّتها الكبرى في الحياة فإنّها لا تبلغ أبداً أهميّة التراب، وإنّما يستفاد منها في الوسائل الترابية، وقد تكون أداة خطرة ومدمّرة. والأهمّ من ذلك أنّ المواد التي يستفاد منها لإشعال النيران كالحطب والفحم والنفط هي من بركة الأرض.

ثالثاً: المسألة، هي مسألة إطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى وتنفيذها، لأنّه خالقنا ونحن عبيده ويجب أن نطبّق أوامره.

وعلى أيّة حال، لو أمعنا النظر في أدلّة إبليس لرأينا فيها كفراً عجيباً، لأنّه بكلامه أراد نفي حكمة الله، والتقليل من شأن أوامره (نعوذ بالله)، وهذا الموقف المخزي لإبليس دليل على جهله التامّ، لأنّه لو كان قد إعترف بأنّ عدم سجوده إنّما كان لهوى هو هوى النفس، أو أنّ غروره وتكبّره حالا بينه وبين السجود لآدم، وما إلى ذلك لكان الأمر أهون، إذ أنّه يكون هنا قد أقرّ بإرتكاب ذنب واحد، إلاّ أنّه بكلامه هذا ولتبرير عصيانه، عمد إلى نفي حكمة الباريء عزّوجلّ وعلمه ومعرفته، وهذا يوضّح سقوطه إلى أدنى درجات الكفر والإنحطاط.

المخلوق مقابل خالقه يفتقد الإستقلال، إذ أنّ كلّ ما لديه هو من خالقه، ولهجة كلام إبليس توضّح أنّه كان يريد إستقلالا وحكماً في مقابل حكم الباريء عزّوجلّ، وهذا مصدر آخر من مصادر الكفر.

ويمكن القول أنّ أسباب ضلال الشيطان، تعود إلى عدّة اُمور منها الغرور والتكبّر والجهل والحسد، وهذه الصفات القبيحة اتّحدت وأسقطته إلى الحضيض بعد سنين طوال من مرافقة الملائكة، وكأنّه كان معلّماً لهم .. أسقطته من أوج الفخر إلى أدنى الحضيض، وما أخطر هذه الصفات القبيحة أينما وجدت!!

وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في إحدى خطبه في نهج البلاغة: "فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة ... عن كبر ساعة واحدة فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته"(1).

نعم، فعمليّة بناء قصر عظيم قد تستغرق سنوات عديدة، ولكن عملية تدميره قد لا تستغرق سوى لحظات بتفجير قنبلة قويّة.

وهنا وجب إخراج هذا الموجود الخبيث من صفوف الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي، فخاطبه الباريء عزّوجلّ بالقول: (قال فاخرج منها فإنّك رجيم).

الضمير (منها) في عبارة (فاخرج منها) إمّا أنّه إشارة إلى صفوف الملائكة، أو إلى العوالم العلوية، أو إلى الجنّة، أو إلى رحمة الله.

نعم، فيجب إخراج هذا الخبيث من هنا، فهذا المكان مكان الطاهرين والمقرّبين، وليس بمكان المذنبين والعاصين ذوي القلوب المظلمة.

"رجيم" من (رجم)، وبما أنّ لازمها الطرد، فقد وردت بهذا المعنى هنا.

ثمّ أضاف الباريء عزّوجلّ: (وإنّ عليك لعنتي إلى يوم الدين) فأنت خارج ومطرود من رحمتي إلى الأبد.

المهمّ انّ الإنسان عندما يرى النتائج الوخيمة لأعماله السيّئة عليه أن يستيقظ من غفلته، وأن يفكّر في كيفية إصلاح ذلك الخطأ، ولا شيء أخطر من بقاءه راكباً لموج الغرور واللجاجة وإستمراره في السير نحو حافّة الهاوية، لأنّه في كلّ لحظة يبتعد أكثر عن الصراط المستقيم، وهذا هو نفس المصير المشؤوم الذي وصل إليه إبليس.

وهنا تحوّ (الحسد) إلى (عداء)، العداء الشديد والمتأصّل، كما قال القرآن: (قال ربّ فانظرني إلى يوم يبعثون).

هذه الآية تبيّن أنّ الشيطان طلب من الله سبحانه وتعالى أن يمهله، فهل طلب أن يمهله ليسكب عبرات الحسرة والندامة على ما فعله من قبل، أم أنّه طلب مهلة لإصلاح عصيانه القبيح؟

كلاّ، إنّه طلب من الباريء عزّوجلّ أن يمهله إلى يوم يبعثون كي ينتقم من أبناء آدم(ع) ويدفعهم جميعاً إلى طريق الضلال، رغم علمه بأنّ إضلاله لكلّ إنسان سوف يضيف لذنوبه حملا ثقيلا جديداً من الذنوب، ويغرقه في مستنقع الكفر والعصيان، كلّ ذلك بسبب اللجاجة والتكبّر والغرور والحسد، فما أكثر المصائب التي تتولّد للإنسان من هذه الصفات الذميمة.

7وفي الحقيقة، إنّه كان يريد الإستمرار في إغواء بني آدم حتّى آخر فرصة متاحة له، لأنّ في يوم البعث تسقط التكاليف عن الإنسان، ولا معنى هناك للوساوس والإغواءات، إضافةً إلى هذا فقد طلب من الله عزّوجلّ أن يبقيه حيّاً إلى يوم القيامة، رغم أنّ كلّ الموجودين في العالم يموتون في هذه الدنيا.

وهنا إقتضت مشيئة الله سبحانه- بدلائل سنشير إليها- أن يستجيب الله لطلب إبليس، ولكن هذه الإستجابة كانت مشروطة وليست مطلقة، كما توضّحه الآية التالية: (قال فإنّك من المنظرين).

ولكن ليس إلى يوم البعث الذي تبعث فيه الخلائق، وإنّما إلى زمان معلوم، قال تعالى: (إلى يوم الوقت المعلوم).

وهنا أعطى المفسّرون آراء مختلفة بشأن تفسير (يوم الوقت المعلوم) حيث قال البعض: إنّه يوم نهاية العالم، لأنّ كلّ الموجودات الحيّة من ذلك اليوم تموت، وتبقى ذات الله المقدّسة فقط، كما ورد في الآية (88) من سورة القصص: (كلّ شيء هالك إلاّ وجهه) وبهذا الشكل فقد استجيب لجزء من مطالب إبليس.

والبعض الآخر قال: إنّ ذلك اليوم هو يوم القيامة، ولكن هذا الإحتمال لا يتلاءم مع ظاهر آيات بحثنا التي يتّضح منها أنّ الباريء عزّوجلّ لم يستجب لكلّ مطاليبه، كما أنّ هذا الإحتمال لا يتلاءم حتّى مع بقيّة آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن موت الجميع مع نهاية هذا العالم.

وقال البعض: إنّ هذه الآية يحتمل أنّها تشير إلى زمان لا يعرفه أحد سوى الله سبحانه وتعالى.

ولكن التّفسير الأوّل أنسب من بقيّة التفاسير، وقد وردت رواية في تفسير البرهان نقلا عن الإمام الصادق (ع)، وتقول بأنّ إبليس يموت في الفترة ما بين النفخة الاُولى والثانية(2).

هنا كشف إبليس عمّا كان يضمره في داخله، وعن الهدف الحقيقي لطلبه البقاء خالداً إلى زمن معيّن إذ: (قال فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين).

القسم بالعزّة يراد منه الإستناد على القدرة والإستطاعة، والتأكيدات المتتالية في الآية (القسم من جهة، ونون التوكيد الثقيلة من جهة اُخرى، وكلمة أجمعين من جهة ثالثة) تبيّن أنّه مصمّم بصورة جديّة على المضي في عمله، وأنّه سيبقى إلى آخر لحظة من عمره ثابتاً على عهده بإغواء بني آدم.

وبعد قسمه إنتبه إبليس إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هناك مجموعة من عباد الله المخلصين لا يمكن كسبهم بأي طريقة إلى داخل منطقة نفوذه، لذلك أجبر على الإعتراف بعجزه في كسب اُولئك فقال: (إلاّ عبادك منهم المخلصين).

اُولئك الذين يسيرون في طريق المعرفة والعبودية لك بصدق وإخلاص وصفاء، إنّك دعوتهم إليك، وأخلصتهم لك، وجعلتهم في منطقة أمنك، وهذه هي المجموعة الوحيدة التي لا أتمكّن من الوصول إليها، أمّا البقيّة فإنّ بإمكاني إيقاعهم في شباكي.

حدس وظنّ إبليس كان صحيحاً، إذ أنّه أوجد العراقيل لكلّ واحد من بني آدم عدا المخلصين الذين نجوا من فخاخه وذلك ما أكّده القرآن المجيد في الآية (20) من سورة سبأ: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنّه فاتّبعوه إلاّ فريقاً من المؤمنين).

بحثان

1- فلسفة وجود الشيطان

هناك مسائل مهمّة تطرح بشأن الآيات المذكورة أعلاه، منها مسألة خلق الشيطان، وسبب سجود الملائكة لآدم، وسبب تفضيل آدم على الملائكة، والشيطان على من سيتسلّط، وما هي نتيجة التكبّر والغرور، وما المقصود من الطين وروح الله، ومسألة خلق آدم وخلقه المستقل في مقابل فرضيات تكامل الأنواع؟ ومسائل اُخرى من هذا القبيل تمّ تناولها وبصورة مفصّلة في التّفسير الأمثل في ذيل الآية (34) من سورة البقرة، وفي ذيل الآية (26) من سورة الحجر، وفي ذيل الآية (11) من سورة الأعراف.

نعود مرّة اُخرى إلى السؤال الأوّل الخاصّ بشأن فلسفة خلق الشيطان، فالكثير يتساءل إن كان الإنسان خلق من أجل التكامل ونيل السعادة عن طريق عبوديته لله، فما هي أسباب وجود الشيطان الذي هو موجود مدمّر يعمل ضدّ تكامل الإنسان؟ وهو في نفس الوقت موجود ذكي، مكّار، يثير العداوة والبغضاء. إلاّ أنّنا لو تفكّرنا قليلا فسوف ندرك أنّ وجود هذا العدو عامل مساعد لدفع التكامل الإنساني إلى الإمام وتقدّمه.

لا نذهب بعيداً، فقوّات المقاومة التي تدافع دائماً وبشدّة ضدّ العدوّ تزداد قوّة يوماً بعد آخر ..

والقادة والجنود المدرّبون الأقوياء هم الأشخاص الذين يقاتلون الأعداء بعنف في المعارك الكبيرة.

والسياسي المحنّك القوي هو الذي يتمكّن في الأزمات السياسيّة الشديدة أن يتصدّى للأعداء الأقوياء ويتغلّب عليهم.

وأبطال المصارعة الكبار هم الذين نازلوا مصارعين أقوياء أشدّاء، إذن فلم العجب من أنّ عباد الله الكبار بجهادهم المستمر المرير ضدّ الشيطان، يصبحون أقوياء يوماً بعد آخر.

فعلماء اليوم قالوا بشأن فلسفة وجود الميكروبات: لولا وجود هذه الميكروبات لكان جسم الإنسان ضعيفاً عديم الإحساس، ويحتمل أيضاً توقّف نمو الإنسان بسرعة بحيث لا يتجاوز طوله الثمانين سنتيمتراً، ولكان جميع البشر على شكل أقزام صغار، وبهذا الشكل فإنّ مبارزة جسم الإنسان للميكروبات المهاجمة تعطيه قوّة وقدرة على النمو.

وكذلك الحال بالنسبة إلى روح الإنسان في جهادها ضدّ الشيطان وهوى النفس.

وهذا لا يعني أنّ الشيطان مكلّف بإغواء عباد الله، فالشيطان كان طاهراً في بداية خلقه، كبقيّة الموجودات، ولكن الإنحراف والإنحطاط والتعاسة التي اُصيب بها إنّما كان برغبته وإرادته، وبهذا فإنّ الباريء عزّوجلّ لم يخلق إبليس منذ اليوم الأوّل شيطاناً، وإنّما إبليس هو الذي أراد أن يكون شيطاناً، وفي نفس الوقت فإنّ ممارساته الشيطانية لا تجلب الضرر لعباد الله المخلصين إطلاقاً، بل قد تكون سلّماً لرقيّهم وسموّهم.

وفي النهاية يبقى هذا السؤال: لماذا تمّت الموافقة على طلبه في البقاء حيّاً، ولماذا لم يُهلك في تلك اللحظة؟

جواب هذا السؤال هو ما ذكرناه أعلاه، وبعبارة اُخرى:

إنّ عالم الدنيا هذا هو ساحة للإختبار والإمتحان (الإختبار الذي هو وسيلة لتربية وتكامل الإنسان) وكما هو معروف فإنّ الإختبار لا يتمّ من دون مواجهة عدو شرس ومجابهة مختلف أنواع الأعاصير والمشاكل.

وبالطبع، إن لم يكن هناك شيطان، فإنّ هوى النفس ووساوسها هي التي تضع الإنسان في بودقة الإختبار، ولكن حرارة هذه البودقة تزداد بوجود الشيطان، لأنّ الشيطان سيكون في هذه الحالة العامل الخارجي المؤثّر على الإنسان، وهوى النفس والوساوس ستكون العامل الداخلي.

2- نيران الأنانية والغرور تحرق رأسمال الوجود

من الاُمور الحسّاسة جدّاً التي تلفت النظر في قضيّة طرد إبليس من رحمة الله، هو مدى تأثير عاملي الأنانية والغرور على سقوط وتعاسة الإنسان، إذ يمكن القول بأنّهما من أهمّ وأخطر عوامل الإنحراف. وقد تسبّبا- في لحظة واحدة- في هدم عبادة ستّة آلاف سنة، وإنّهما كانا السبب وراء تدنّي موجود كان في صفّ ملائكة السماء الكبار إلى أدنى درجات الشقاء، ويستحقّ لعنة الله الأبدية.

الأنانية والغرور يحجبان الحقيقة عن بصر الإنسان، فالأنانية مصدر الحسد، والحسد مصدر العداوة والبغضاء، والعداوة والبغضاء سبب إراقة الدماء وإرتكاب الجرائم.

الأنانية تدفع الإنسان إلى الإستمرار في إرتكاب الخطأ، وتحبط- في نفس الوقت- مفعول أيّ عامل للصحوة من الغفلة، أي تحوّل بين ذلك العامل وبين الإنسان.

الأنانية والعناد يسلبان فرصة التوبة وإصلاح الذات من الإنسان، ويغلقان أمامه كلّ أبواب النجاة، وخلاصة الأمر فإنّ كلّ ما نقوله حول خطر هذه الصفات القبيحة والمذمومة يعدّ قليلا.

وكم هو جميل قول أمير المؤمنين (ع): "فعدو الله إمام المتعصّبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادّرع لباس التعزّز، وخلع قناع التذلّل ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره؟ ووضعه بترفّعه؟ فجعله في الدنيا مدحوراً، وأعدّ له في الآخرة سعيراً".(3)


1- نهج البلاغة، الخطبة 192 (الخطبة القاصعة).

2- تفسير البرهان، المجلّد 2، الصفحة 342.

3- نهج البلاغة، الخطبة 192 المعروفة بالقاصعة.