الآيات 62 - 64

﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الاَْشْرَارِ (62)أَتَّخَذْنَـهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الاَْبْصَـرُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)﴾

التّفسير

تخاصم أهل النّار:

آيات بحثنا تواصل إستعراض الجدال الدائر بين أهل جهنّم، الذي كان بعضه قد ورد في الآيات السابقة، وتتحدّث عن مجادلات اُخرى فيما بينهم ينكشف من خلالها أسفهم العميق وتألّمهم الشديد وحسرتهم.

تقول اُولى تلك الآيات: (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدهم من الأشرار).

نعم، فعندما يبحث أفراد اتّبعوا أئمّة الضلال، أمثال أبي جهل وأبي لهب، عن أشخاص آخرين مثل عمّار بن ياسر وخباب وصهيب وبلال، في نار جهنّم يرجعون إلى ذاتهم متسائلين، ويستفسرون من الآخرين: أين اُولئك الأشخاص؟ إذ كنّا نعتبرهم مجموعة من الفوضويين والأشرار والمفسدين في الأرض، يسعون إلى الإخلال بأمن وهدوء المجتمع والقضاء على مفاخر الأوّلين، يبدو أنّ إتّهامنا إيّاهم كان باطلا.

وتضيف الآيات نقلا عن أهل جهنّم: (إتّخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار).

نعم، إنّنا كنّا نسخر من هؤلاء الرجال العظماء ذوي المقام الرفيع، ونصفهم بالأشرار، وأحياناً نصفهم بأوصاف أدنى من ذلك، ونعتبرهم اُناساً حقراء لا يستحقّون أن ننظر إليهم، ولكن اتّضح لنا الآن أنّ جهلنا وغرورنا وأهواءنا هي التي أسدلت على أعيننا ستائر حجبت الحقيقة عنّا، فهؤلاء كانوا من المقربين لله ومكانهم الآن في الجنّة.

مجموعة من المفسّرين ذكروا تفسيراً آخر لهذه الآية، إذ قالوا: إنّ مسألة سخريتهم إشارة إلى أحوالهم في عالم الدنيا، وجملة (أم زاغت عنهم الأبصار)إشارة إلى أحوالهم في جهنّم، وتعني هنا أنّ أبصارنا في هذا المكان وبين هذه النيران والدخان لا يمكنها رؤيتهم. ولكن المعنى الأوّل أصحّ.

ومن الضروري الإلتفات إلى أنّ أحد أسباب عدم إدراك الحقائق هو عدم أخذها بطابع الجدّ إضافة إلى الإستهزاء بها، إذ يجب على الدوام مناقشة الحقائق بشكل جدّي للوصول إليها.

ثمّ تخرج الآية الأخيرة بالنتيجة التي تمخّض عنها الجدال بين أهل جهنّم، وتؤكّد على ما مضى بالقول: (إنّ ذلك لحقّ تخاصم أهل النار)(1).

فأهل جهنّم مبتلون في هذه الدنيا بالخصام والنزاع والحروب. فالنزاع والجدال يتحكّم بهم، وفي كلّ يوم يتخاصمون مع هذا وذاك.

وفي يوم القيامة، ذلك اليوم الذي تبرز فيه الأسرار وما تخفيه الصدور، تراهم يتنازعون فيما بينهم في جهنّم، فأصدقاء الأمس أعداء اليوم، والتابعون في الأمس صاروا معارضين اليوم، ويبقى- فقط- خطّ التوحيد والإيمان، خطّ

الوحدة والصفاء في هذا العالم وذاك.

الجدير بالذكر أنّ أهل الجنّة متكئون على الأسرّة، ويتحدّثون فيما بينهم بكلام ملؤه المحبّة والصدق، كما ورد في آيات مختلفة من آيات القرآن الحكيم، بينما تجد أهل النار يعيشون حالة من الصراع والجدال، إذن فتلك نعمة كبيرة، وهذا عذاب أليم!

ملاحظة

ورد في حديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال لأبي بصير "ياأبا محمّد، لقد ذكركم الله إذ حكى عن عدوّكم في النار بقوله: (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدهم من الأشرار. اتّخذناهم سخريّاً أم زاغت عنهم الأبصار). والله ما عنى ولا أراد بهذا غيركم، صرتم عند أهل هذا العالم شرار الناس، وأنتم والله في الجنّة تحبرون وفي النار تطلبون"(2).


1- (تخاصم أهل النار) بيان لـ (ذلك).

2- روضة الكافي، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 467.