الآيات 41 - 44
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِى الشَّيْطَـنُ بِنُصْب وَعَذَاب (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مُّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاُِوْلِى الاَْلْبَـبِ (43) وَخَذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَـهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)﴾
التّفسير
حياة أيّوب المليئة بالحوادث والعبر:
الآيات السابقة تحدّثت عن سليمان (ع) وعن القدرة التي منحها إيّاه الباريء عزّوجلّ، والتي كانت بمثابة البشرى لرسول الله (ص) ولمسلمي مكّة الذين كانوا يعيشون تحت ضغوط صعبة.
آيات بحثنا هذا تتحدّث عن أيّوب الذي كان اُنموذجاً حيّاً للصبر والإستقامة، وذلك لتعطي درساً لمسلمي ذلك اليوم ويومنا الحاضر وغداً، درساً في مقاومة مشاكل وصعاب الحياة، ولتدعوهم إلى الإتّحاد والتعاون، كما وضّحت العاقبة المحمودة للصبر والصابرين.
وأيّوب هو ثالث نبي من أنبياء الله تستعرض هذه السورة (سورة ص) جوانب من حياته، وهي بذلك تدعو رسولنا الأكرم (ص) إلى تذكّر هذه القصّة، وحكايتها للمسلمين، كي يصبروا على المشاكل الصعبة التي كانت تواجههم، ولا ييأسوا من لطف ورحمة الله.
اسم "أيّوب" أو قصّته وردت في عدّة سور من سور القرآن المجيد، منها الآية (163) في سورة النساء، والآية (84) في سورة الأنعام التي ذكرت إسمه في قائمة أنبياء الله الآخرين، وبيّنت وأثبتت مقام نبوّته، بخلاف كتاب التوراة الحالي الذي لم يعتبره من الأنبياء، وإنّما إعتبره أحد عباد الله المحسنين والأثرياء وذا عيال كثيرين.
كما أنّ الآيات (83) و84) في سورة الأنبياء إستعرضت بصورة مختصرة جوانب من حياة أيّوب (ع)، أمّا آيات بحثنا هذه فإنّها تستعرض حياته بصورة مفصّلة أكثر من أيّ سورة اُخرى من خلال أربعة آيات:
فالاُولى تقول: (واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب).
"نصب" على وزن (عسر)، و (نصب) على وزن (حسد)، وكلاهما بمعنى البلاء والشرّ.
هذه الآية تبيّن أوّلا علوّ مقام أيّوب عند الباري عزّوجلّ، وذلك من خلال كلمة "عبدنا"، وثانياً فإنّها تشير بصورة خفيّة إلى الإبتلاءات الشديدة التي لا تطاق، وإلى الألم والعذاب الذي مسّ أيّوب (ع).
ولم يرد في القرآن الكريم شرحاً مفصّلا لما جرى على أيّوب (ع)، وإنّما نقرأ في كتب الحديث المعروفة والتفاسير تفاصيل هذه القصّة.
ففي تفسير نور الثقلين نقرأ أنّ أبا بصير سأل الإمام الصادق عن بليّة أيّوب التي ابتلي بها في الدنيا لأيّ علّة كانت؟ (لعلّ السائل كان يظنّ أنّ أيّوب ابتلي بما ابتلي به لمعصية إرتكبها) فأجاب (ع) بقوله: "لنعمة أنعم الله عزّوجلّ عليه بها في الدنيا وأدّى شكرها، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش، فلمّا صعد ورأى شكر نعمة أيّوب (ع) حسده إبليس، فقال: ياربّ، إنّ أيّوب لم يؤدّ إليك شكر هذه النعمة إلاّ بما أعطيته من الدنيا، ولو حرمته دنياه ما أدّى إليه شكر نعمة أبداً، فسلّطني على دنياه حتّى تعلم أنّه لم يؤدّ إليك شكر نعمة أبداً".
(ولكي يوضّح الباريء عزّوجلّ إخلاص أيّوب للجميع، ويجعله نموذجاً حيّاً للعالمين حتّى يشكروه حين النعمة ويصبروا حين البلاء، سمح الباري عزّوجلّ للشيطان في أن يتسلّط على دنيا أيّوب).
"فقال له الباري عزّوجلّ: قد سلّطتك على ماله وولده، قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولداً إلاّ أعطبه (أي أهلكه) فإزداد أيّوب لله شكراً وحمداً. قال: فسلّطني على زرعه ياربّ، قال: قد فعلت، فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق، فازداد أيّوب لله شكراً وحمداً، فقال: ياربّ سلّطني على غنمه، فسلّطه على غنمه فأهلكها، فإزداد أيّوب لله شكراً وحمداً، فقال: ياربّ سلّطني على بدنه فسلّطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه، فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه، فبقي في ذلك دهراً طويلا يحمد الله ويشكره".
(ولكن وقعت حادثة كسرت قلبه وجرحت روحه جرحاً عميقاً، وذلك عندما زارته مجموعة من رهبان بني إسرائيل).
"وقالوا له: ياأيّوب لو أخبرتنا بذنبك لعلّ الله كان يهلكنا إذا سألناه، وما نرى إبتلاك بهذا الإبتلاء الذي لم يبتل به أحد إلاّ من أمر كنت تستره؟ فقال أيّوب (ع): وعزّة ربّي لم أرتكب أي ذنب، وما أكلت طعاماً إلاّ ويتيم أو ضعيف يأكل معي"(1).
حقّاً إنّ شماتة أصحابه كانت أكثر ألماً عليه من أيّة مصيبة اُخرى حلّت به، ورغم هذا لم يفقد أيّوب صبره، ولم يلوّث شكره الصافي كالماء الزلال بالكفر، وإنّما توجّه إلى الباريء عزّوجلّ وذكر العبارة التي ذكرناها آنفاً، أي قوله تعالى: (انّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب) ولكونه خرج من الإمتحان الإلهي بنتيجة جيّدة، فتح الباري عزّوجلّ- مرّة اُخرى- أبواب رحمته على عبده الصابر المتحمّل أيّوب، وأعاد عليه النعم التي إفتقدها الواحدة تلو الاُخرى، لا بل أكثر ممّا كان يمتلك من المال والزرع والغنم والأولاد، وذلك كي يفهم الجميع العاقبة الحسنة للصبر والتحمّل والشكر.
بعض كبار المفسّرين، إحتملوا أنّ الوساوس التي وسوس بها الشيطان في قلب أيّوب هي المقصودة من أذى وعذاب الشيطان لأيّوب، إذ كان يقول له أحياناً: لقد طالت فترة مرضك، ويبدو أنّ ربّك قد نسيك!
وأحياناً كان يقول له: ما زلت تشكر الله رغم أنّه أخذ منك النعم العظيمة والسلامة والقوّة والقدرة!
يحتمل أنّهم ذكروا هذا التّفسير لكونهم يستبعدون إمكانية تسلّط الشيطان على الأنبياء كأيّوب، ولكن مع الإنتباه إلى أنّ هذه السلطة: أوّلا: كانت بأمر من الله. وثانياً: محدودة ومؤقتة. وثالثاً: لإمتحان هذا النّبي الكبير ورفع شأنه، فلا إشكال في ذلك.
على أيّة حال، قيل: إنّ فترة ألمه وعذابه ومرضه كانت سبع سنين، وفي رواية اُخرى قيل: إنّها كانت (18) سنة، وحالته وصلت إلى حدّ بحيث تركه أصحابه وحتّى أقرب المقربين إليه، عدا زوجته التي صمدت معه وأظهرت وفاءها له. وهذا شاهد على وفاء بعض الزوجات!
وأشدّ ما آذى وآلم روح أيّوب (ع) من بين ذلك الأذى والعذاب الذي مرّ به، هو شماتة أعدائه، لذا فقد جاء في إحدى الروايات أنّ أيّوب (ع) سئل بعد ما عافاه
الله، أيّ شيء كان أشدّ عليك ممّا مرّ؟ فقال: شماتة الأعداء.
في النهاية خرج أيّوب (ع) سالماً من بودقة الإمتحان الإلهي، ونزول الرحمة الإلهيّة عليه يبدأ من هنا، إذ صدر إليه الأمر (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب).
"اركض" مشتقّة من (ركض) على وزن (فقر وتعني دكّ الأرض بالرجل، وأحياناً تأتي بمعنى الركض، وهنا تعطي المعنى الأوّل.
فالله الذي فجّر عين زمزم في صحراء يابسة وحارقة تحت أقدام الطفل الرضيع إسماعيل، هو الذي أصدر أمراً بتفجّر عين باردة لأيّوب ليشرب منها ويغتسل بمائها للشفاء من كافّة الأمراض التي أصابته (الظاهرية والباطنية).
ويرى البعض أنّ تلك العين عبارة عن ماء معدني صالح للشرب، وفيه شفاء لكلّ الأمراض، ومهما كان فإنّه من لطف الله ورحمته النازلة على نبيّه الصابر المقاوم أيّوب (ع).
(مغتسل) يعني الماء الذي يغسل به، وقال البعض: إنّها تعني محل الغسل، لكنّ المعنى الأوّل أصحّ.
وعلى أيّة حال، فإنّ وصف ذلك الماء بالبارد، قد يكون إشارة إلى التأثيرات الخاصّة التي يتركها الماء البارد على سلامة الجسم، وذلك ما أثبته الطبّ الحديث اليوم. إضافةً إلى أنّه إشارة لطيفة إلى أنّ كمال ماء الغسل يتمّ إن كان طاهراً ونظيفاً كماء الشرب.
والشاهد على هذا ما جاء في الروايات من إستحباب شرب جرعة من الماء قبل الإستحمام به(2).
النعمة المهمّة الاُولى التي اُعيدت على أيّوب هي العافية والشفاء والسلامة، أمّا بقيّة النعم التي اُعيدت عليه، فاستعرضها القرآن المجيد (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمةً منّا وذكرى لاُولي الألباب).
وعن كيفية عودة عائلته إليه؟ وردت تفاسير متعدّدة، أشهرها يقول: إنّهم كانوا أمواتاً فأحياهم الله مرّة اُخرى.
ولكن البعض قال: إنّهم كانوا قد تفرّقوا عنه أيّام إبتلائه بالمرض، فجمعهم الله إليه بعد برئه.
ويحتمل أنّ جميعهم أو بعضهم ابتلي بمختلف أنواع الأمراض، وقد شملتهم الرحمة الإلهية وعادت إليهم صحّتهم وعافيتهم، ليجتمعوا مرّة اُخرى حول أيّوب.
أمّا قوله تعالى: (ومثلهم معهم)، فإنّها إشارة إلى تناسلهم وزيادة عددهم إلى الضعف، وبهذا إزداد عدد أبناء أيّوب إلى الضعف.
ورغم أنّ الآيات لا تتطرّق إلى إعادة أموال أيّوب إليه، ولكن الدلائل كلّها تبيّن أنّ الباريء عزّوجلّ أعاد إليه أمواله وأكثر من السابق.
الذي يلفت النظر في آخر الآية- محلّ البحث- أنّ هدف إعادة النعم الإلهيّة على أيّوب تحدّد بأمرين:
الأوّل: (رحمة منّا) والتي كان لها صبغة فردية، وفي الحقيقة إنّها مكافأة وجائزة من الباريء عزّوجلّ لعبده الصابر المقاوم أيّوب.
والثّاني: إعطاء درس لكلّ أصحاب العقول والفكر على طول التأريخ لأخذ العبر من أيّوب، كي لا يفقدوا صبرهم وتحمّلهم عند تعرّضهم للمشاكل والحوادث الصعبة، وأن لا ييأسوا من رحمة الله، بل يزيدوا من أملهم وتعلّقهم به.
المشكلة الوحيدة التي بقيت لأيّوب (ع) هي قسمه بضرب زوجته، إذ كان قد أقسم أيّام مرضه لئن برىء من مرضه ليجلدنّ امرأته مائة جلدة أو أقل لأمر أنكره عليها، ولكن بعدما برىء من مرضه رغب أيّوب في العفو عنها إحتراماً وتقديراً لوفائها ولخدماتها التي قدّمتها إليه أيّام مرضه، ولكن مسألة القسم بالله كانت تحول دون ذلك.
وهنا شمل الباريء عزّوجلّ أيّوب (ع) مرّة اُخرى بألطافه ورحمته، وذلك عندما أوجد حلاًّ لهذه المشكلة المستعصية على أيّوب (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث).
"ضغث" تعني ملء الكفّ من الأعواد الرقيقة، كسيقان الحنطة والشعير أو الورد وما شابهها.
وعن الأمر الذي أنكرته زوجة أيّوب على زوجها والتي تدعى (ليا) بنت يعقوب، فقد إختلف المفسّرون في تفسيره ... فقد نقل عن (ابن عبّاس) أنّ الشيطان ظهر بصورته الطبيعية لزوجة أيّوب، وقال لها: إنّي اُعالج زوجك بشرط أن تقولي حينما يتعافى: إنّي الوحيد الذي كنت السبب في معافاته، ولا اُريد أيّ اُجرة على معالجته ... الزوجة التي كانت متألّمة ومتأثّرة بشدّة لإستمرار مرض زوجها وافقت على الإقتراح، وعرضته على زوجها أيّوب فيما بعد، فتأثّر أيّوب كثيراً لوقوع زوجته في شرك الشيطان، وحلف أن يعاقب زوجته.
وقال البعض إنّ أيّوب بعث زوجته لمتابعة عمل ما، فتأخّرت في العودة إليه، فتأثّر أيّوب الذي كان يعاني من آلام المرض، وحلف أن يعاقب زوجته.
على أيّة حال، فإنّ زوجته كانت تستحقّ الجزاء من هذا الجانب، أمّا من جانب وفائها وخدمتها أيّوب طوال فترة مرضه فإنّه يجعلها تستحقّ العفو أيضاً.
حقّاً إنّ ضربها بمجموعة من سيقان الحنطة أو الشعير لا تعطي مصداقاً واقعياً لحلفه، ولكنّه نفّذ هذا الأمر لحفظ إحترام اسم الله، والحيلولة دون إشاعة مسألة إنتهاك القوانين، وهذا الأمر ينفّذ فقط بشأن الطرف الذي يستحقّ العفو، وفي الموارد الاُخرى التي لا تستحقّ العفو لا يجوز لأحد القيام بمثل هذا العمل(3).
الآية الأخيرة في بحثنا هذا- التي هي بمثابة عصارة القصّة من أوّلها حتّى آخرها- تقول: (إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنّه أوّاب).
ومن الواضح أنّ دعاء أيّوب الباريء عزّوجلّ، وطلبه دفع الوساوس الشيطانية عنه، ورفع البلاء والمرض عنه، كلّ هذه لا تتنافى مع مقام صبره وتحمّله، ذلك الصبر والتحمّل الذي استمرّ لمدّة سبع سنين، وفي روايات اُخرى لمدّة ثمانية عشر عاماً- للأوجاع والأمراض والفقر والعسر وإستمرار الشكر.
الذي يلفت النظر في هذه الآية أنّها أعطت ثلاثة أوصاف لأيّوب، كلّ واحد منها إن توفّر في أي إنسان فهو إنسان كامل.
أوّلا: مقام عبوديته.
ثانياً: صبره وتحمّله وثباته.
ثالثاً: إنابته المتكرّرة إلى الله.
بحوث
1- دروس مهمّة في قصّة أيّوب
رغم أنّ قصّة هذا النّبي الصابر أدرجت في أربع آيات في هذه السورة، إلاّ أنّها وضّحت حقائق مهمّة، منها:
أ- الإمتحان الإلهي واسع وكبير جدّاً ويشمل حتّى الأنبياء الكبار، إذ يكون إمتحانهم أشدّ وأصعب من الآخرين، لأنّ طبيعة الحياة في هذه الدنيا بنيت على هذا الأساس، ومن دون هذا الإمتحان فإنّ الإمكانيات والطاقات الكامنة في الإنسان لا تتفجّر.
ب- الفرج بعد الشدّة نقطة اُخرى تكمن في مجريات هذه القصّة، فعندما تشتدّ أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كلّ جانب، عليه أن لا ييأس ويفقد الأمل، وإنّما عليه أن يدرك أنّها بداية تفتح أبواب الرحمة الإلهية عليه، كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): "عند تناهي الشدّة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء"(4).
ج- مجريات هذه القصّة توضّح بصورة جيّدة بعض غايات البلاء والحوادث الصعبة في الحياة، وتجيب على من يرى في وجود الآفات والبلايا تناقضاً مع برهان النظم في بحوث التوحيد، لأنّ وجود مثل هذه الحوادث الصعبة والشديدة في حياة الإنسان- من أنبياء الله الكبار وحتّى عموم الناس- يعدّ أمراً ضرورياً، فالإمتحان- كما ذكرنا- يفجّر طاقات الإنسان الكامنة، ويوصله في آخر الأمر إلى التكامل في وجوده.
لذا فقد ورد في الروايات الإسلامية عن الإمام الصادق (ع): "إنّ أشد الناس بلاءاً الأنبياء، ثمّ الذين يلونهم، الأمثل فالأمثل"(5).
كما ورد عن الإمام الصادق (ع): "إنّ في الجنّة منزلة لا يبلغها عبد إلاّ بالإبتلاء"(6).
د- أحداث هذه القصّة تعطي درساً في الصبر لكلّ المؤمنين الواقعيين الرساليين، الصبر والتحمّل الذي يعقبه الظفر والإنتصار في كلّ المجالات، ونيل المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند الباريء عزّوجلّ.
هـ- أحياناً يكون إمتحان شخص ما، هو إمتحان في نفس الوقت لأصدقائه وللمحيطين به، كي يعرف حجم صداقتهم ومحبّتهم إيّاه، ومقدار وفائهم له، فعندما فقد أيّوب أمواله وثرواته وصحّته تفرّق عنه أصحابه، ولم يكتفوا بالإبتعاد عنه، وإنّما اتّحدت ألسنتهم مع ألسنة أعدائه في الشماتة به وإلقاء اللائمة عليه، وكشفوا
بفعلتهم هذه عن حقيقة أنفسهم، وكما لاحظنا فإنّ أيّوب كان يتألّم من جراح ألسنتهم أكثر من تألّمه من مرضه، والشعر المعروف يقول:
جراحات السنان لها التيام *** ولا يلتام ما جرح اللسان
جراح الكلام ليس لها التئام.
و- أحبّاء الله ليسوا من يذكر الله عند الرخاء، وإنّما أحبّاء الله الواقعيون هم اُولئك الذين يذكرون الله دائماً في السرّاء والضرّاء، وفي البلاء والنعمة، وفي المرض والعافية، وفي الفقر والغنى، وإنّ تأثيرات الحياة الماديّة لا تترك على إيمانهم وأفكارهم أدنى أثر.
قال أمير المؤمنين (ع) في خطبته الخاصّة بوصف المتّقين التي بيّنها لصاحبه المخلص "همام" وإستعرض فيها أكثر من (100) صفة للمتّقين، قال في إحدى تلك الصفات: "نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء".
ز- هذه القصّة أكّدت مرّة اُخرى حقيقة أنّ فقدان الإمكانات الماديّة، ونزول المصائب، وحلول المشاكل والفقر، لا تعني عدم شمول الإنسان بلطف الباريء عزّوجلّ، كما أنّ إمتلاك الإمكانات الماديّة ليس دليلا على بُعد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، وإنّما يمكن أن يكون الإنسان عبداً مقرّباً لله مع إمتلاكه للكثير من الإمكانات الماديّة، بشرط أن لا يكون عبداً لأمواله وأولاده ومقامه الدنيوي، وإنّ فقدها لا يفقد الصبر معها.
2- أيّوب (ع)في القرآن والتوراة
رغم أنّ الباريء عزّوجلّ أشاد بالروح الكبيرة لهذا النّبي الكبير الذي هو مظهر الصبر والتحمّل في قرآنه المجيد في أوّل القصّة الخاصّة به وفي آخرها. فإنّ قصّة هذا النّبي الكبير- ممّا يؤسف له- لم تحفظ من أيدي الجهلة والأعداء، حيث دسّوا فيها خرافات تافهة لا تليق بمقامه المحمود المنزّه عنها والمطهّر منها، ومن تلك الخرافات القول بأنّ الدود غطّى بدنه أثناء فترة مرضه، وتعفّن جسده، بحيث أنّ أهل قريته ضاقوا به ذرعاً وأخرجوه من قريتهم.
ودون أدنى شكّ، فإنّ مثل هذه الروايات مزيّفة رغم ورودها في طيّات كتب الحديث، لأنّ رسالة الأنبياء تفرض أن يكون النّبي المرسل- في أي زمان- بعيداً عن مثل تلك التقوّلات، كي ينجذب إليه الناس برغبة وشوق، وأن لا تتوفّر فيه أشياء تكون سبباً لتنفّرهم فيه وإبتعادهم عنه، كالأمراض والعيوب الجسدية والأخلاق السيّئة، لأنّها تتناقض مع فلسفة الرسالة، فالقرآن المجيد يقول بشأن رسول الله (ص) في الآية (159) من سورة عمران: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لأنفضّوا من حولك).
وهذه الآية دليل على أنّ النّبي يجب أن لا يكون بحالة تجعل المحيطين به يتفرّقون عنه. ولكن ورد في التوراة جزء خاص بأيّوب وقبل موضوع (مزامير داود) وهذا الجزء يشتمل على (42) فصلا، كلّ فصل يشرح مواضيع مختلفة، وقد وردت في بعض الفصول مواضيع سيّئة وقبيحة، ومنها ما ورد في الفصل الثالث والذي يقول: إنّ أيّوب كان كثير الشكوى، في حين أنّ القرآن الكريم كان يعظّم ويشيّد بمقام صبره وتحمّله.
3- إطلاق صفة (أوّاب) على الأنبياء الكبار
ثلاثة أنبياء كبار اُطلقت عليهم صفة (أوّاب) في هذه السورة، وهم: داود وسليمان وأيّوب، وفي سورة (ق) في الآية (32) اُطلق هذا الوصف على كلّ أهل الجنّة، قوله تعالى: (هذا ما توعدون لكلّ أوّاب حفيظ).
هذه العبارات تبيّن أنّ مقامه في المقام الأعلى، وعندما نرجع إلى مصادر اللغة نشاهد أنّ كلمة (أوّاب) مشتقّة من كلمة (أوب) وتعني الرجوع والعودة.
وهذا الرجوع والعودة (خاصّة وأنّ كلمة (أوّاب) هي اسم مبالغة تعني كثرة الرجوع وتكراره) يشير إلى أنّ الأوّابين حسّاسون جدّاً تجاه الأسباب والعوامل التي تبعدهم عن الله، كالرزق وبريق الزخارف الدنيوية في أعينهم، ووساوس النفس والشيطان، وإن إبتعدوا لحظة واحدة عن الله عادوا إليه بسرعة، وإن غفلوا عنه لحظة تذكروه وسعوا في جبرانها.
هذه العودة يمكن أن تكون بمعنى العودة إلى طاعة أوامر الله وإجتناب نواهيه، أي أنّ أوامره هي مرجعهم وسندهم أينما كانوا.
وكلمة (أوّاب) التي جاءت في الآية العاشرة من سورة سبأ (ياجبال أوّبي معه والطير) والخاصّة بداود- أيضاً- تعطي معناً آخر، وهو ترديد الصوت، إذ أنّ الأوامر صدرت إلى الجبال والطيور أن ردّدي الصوت مع داود، ولهذا فإنّ (أوّاب) تعني كلّ من يردّد الأوامر الإلهيّة والتسبيح والحمد الذي تردّده كلّ موجودات الكون حسب قوانين الخلقة، وممّا يذكر أنّ أحد معاني كلمة (أيّوب) هي (أوّاب).
1- هذه الرواية وردت في تفسير نور الثقلين نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم، ونفس المضمون ورد في (تفسير القرطبي) و (الفخر الرازي) و (الصافي) وغيرها مع إختلاف بسيط.
2- وسائل الشيعة، المجلّد الأوّل، الباب الثالث عشر من أبواب آداب الحمّام الحديث 13.
3- نظير هذا المعنى ورد في باب الحدود الإسلامية وتنفيذها بحقّ المرضى المذنبين (كتاب الحدود أبواب حدّ الزنا).
4- نهج البلاغة، قصار الكلمات، الكلمة 351.
5- سفينة البحار مادّة (بلاء) المجلّد الأوّل، الصفحة 105.
6- المصدر السابق.