الآيات 30 - 33
﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَـنَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّـفِنَـتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّىّ أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالاَْعْنَاقِ (33)﴾
التّفسير
سليمان (ع) يستعرض قوّاته القتالية:
هذه الآيات تواصل البحث السابق بشأن داود(ع).
فالآية الاُولى تزفّ البشرى لداود في أنّه سيرزق بولد صالح هو سليمان، وسيتولّى الحكم وأعباء الرسالة من بعده، وتقول: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنّه أوّاب).
هذه الجملة تبيّن عظمة مقام سليمان، ويحتمل كونها ردّاً على الإتّهامات القبيحة والعارية من الصحّة الواردة في التوراة المحرّفة عن ولادة سليمان من زوجة أوريا، والتي كانت شائعة في المجتمع قبل نزول القرآن.
فعبارة (وهبنا) من جهة و (نعم العبد) من جهة اُخرى، وللتعليل (إنّه أوّاب) أي (الشخص المطيع لله والممتثل لأوامره، والذي يتوب إلى الباري عزّوجلّ إثر أبسط غفلة أو زلّة) من جهة ثالثة، كلّها تدلّ على عظمة مقام هذا النّبي الكبير.
وعبارة (إنّه أوّاب) هي نفس العبارة التي جاءت بحقّ والده داود في الآية (17) من نفس السورة، ورغم أنّ كلمة (أوّاب) صيغة مبالغة وتعني كثير الرجوع وغير محدودة، فإنّها هنا تعني العودة لطاعة الأمر الإلهي، العودة إلى الحقّ والعدالة، العودة من الغفلة وترك العمل بالأولى.
الآية التالية تبدأ بقصّة خيل سليمان، التي فسّرت بأشكال مختلفة، حيث أنّ البعض فسّرها بصورة سيّئة ومعارضة لموازين العقل، حتّى أنّه لا يمكن إيرادها بشأن إنسان عادي، فكيف ترد بحقّ نبي عظيم كسليمان (ع).
ولكن المحقّقين بعد بحثهم في الدلائل العقليّة والنقلية أغلقوا الطريق أمام أمثال هذه التّفسيرات، وقبل أن نخوض في الإحتمالات المختلفة الواردة، نفسّر الآيات وفق ظاهرها أو (وفق أقوى إحتمال ظاهري لها) لكي نوضّح أنّ القرآن الكريم خال من مثل هذه الإدّعاءات المزيّفة التي فُرضت على القرآن من قبل الآخرين.
إذ يقول القرآن: (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد).
"صافنات" جمع (صافنة) وقال معظم اللغويين والمفسّرين: إنّها تطلق على الجياد التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع أحد قوائمها الإمامية قليلا ليمسّ الأرض على طرف الحافر، وهذه الحالة تخصّ الخيول الأصيلة التي هي على أهبّة الإستعداد للحركة في أيّة لحظة(1).
"الجياد" جمع (جواد) وتعني الخيول السريعة السير، وكلمة "جياد" مشتقّة في الأصل من (جود)، والجود عند الإنسان يعني بذل المال، وعند الخيول يعني سرعة سيرها. وبهذا الشكل فإنّ الخيول المذكورة تبدو كأنّها على أهبّة الإستعداد للحركة أثناء حالة توقّفها، وإنّها سريعة السير أثناء عدوها.
ويستشف من الآية مع القرائن المختلفة المحيطة بها، أنّه في أحد الأيّام وعند العصر إستعرض سليمان (ع) خيوله الأصيلة التي كان قد أعدّها لجهاد أعدائه، إذ مرّت تلك الخيول مع فرسانها أمام سليمان (ع) في إستعراض منسّق ومرتّب. وبما أنّ الملك العادل وصاحب النفوذ عليه أن يمتلك جيشاً قويّاً، والخيول السريعة إحدى الوسائل المهمّة التي يجب أن تتوفّر لدى ذلك الجيش، فقد جاء هذا الوصف في القرآن بعد ذكر مقام سليمان بإعتباره نموذجاً من أعماله.
ولكي يطرد سليمان التصوّر عن أذهان الآخرين في أنّ حبّه لهذه الخيول القويّة ناتج من حبّه للدنيا، جاء في قوله تعالى: (فقال إنّي أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّي) انّي اُحبّ هذه الخيل من أجل الله وتنفيذ أمره، واُريد الإستفادة منها في جهاد الأعداء.
لقد ورد أنّ العرب تسمّي "الخيل" خيراً، وفي حديث عن رسول الله (ص)قال فيه: "الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة"(2).
وإستمرّ سليمان (ع) ينظر إلى خيله الأصيلة المستعدّة لجهاد أعداء الله، وهو يعيش حالة من السرور، حتّى توارت عن أنظاره (حتّى توارت بالحجاب).
كان هذا المشهد جميلا ولطيفاً لقائد كبير مثل سليمان، بحيث أمر بإعادة عرض الخيل مرّة اُخرى (ردّوها عليّ). وعندما نفّذت أوامره بإعادة الخيل، عمد سليمان (ع) إلى مسح سوقها وأعناقها (فطفق مسحاً بالسوق والأعناق).
وبهذا الشكل أشاد بجهود مدربي تلك الخيول، وأعرب لهم عن تقديره لها، لأنّ من الطبيعي لمن أراد أن يعرب عن تقديره للجواد أن يمسح رأس ذلك الجواد ووجهه ورقبته وشعر رقبته، أو يمسح على ساقه. وأبرز في نفس الوقت تعلّقه الشديد بخيله التي تساعده في تحقيق أهدافه العليا السامية، وتعلّق سليمان الشديد بخيله ليس بأمر يبعث على العجب.
"طفق" بإصطلاح النحويين من أفعال المقاربة، وتأتي بمعنى "شرع".
"سوق" هي جمع (ساق) و (أعناق) جمع (عنق) ومعنى الآية هو أنّ سليمان شرع بمسح سوق الجياد وأعناقها.
ما ذكرناه بشأن تفسير هذه الآية يتطابق مع ما ذهب إليه بعض المفسّرين كالفخر الرازي، كما تمّت الإستفادة من بعض ما ورد عن العالم الشيعي الكبير السيّد المرتضى، إذ قال في كتابه (تنزيه الأنبياء) في باب نفي الإدّعاءات الباطلة والمحرّمة التي ينسبها بعض المفسّرين ورواة الحديث إلى سليمان (إنّ الله تعالى ابتدأ الآية بمدحه والثناء عليه فقال: (نعم العبد إنّه أوّاب) فلا يمكن أن يثني عليه بهذا الثناء ثمّ يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه، وأنّه يتلّهى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة، والذي يقتضيه الظاهر أنّ حبّه للخيل وشغفه بها كان عن إذن ربّه وبأمره وبتذكيره إيّاه، لأنّ الله تعالى قد أمرنا بإرباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء، فلا ينكر أن يكون سليمان (ع) مأموراً بمثل ذلك)(3).
أمّا العلاّمة المجلسي فقد ذكر في كتابه (بحار الأنوار) في باب النبوّة، تفسيراً لهذه الآيات يشابه كثيراً ما ذكر أعلاه(4).
على أيّة حال- وفق هذا التّفسير- لم يصدر من سليمان أي ذنب، ولم يحدث أي خلل في ترتيب الآيات، ولا تبدو أيّة مشكلة حتّى نعمد إلى توضيحها(5).
والآن نستعرض تفاسير اُخرى لمجموعة من المفسّرين بشأن هذه الآيات وأشهرها، ذلك التّفسير الذي يعود بالضمير في جملتي (توارت) و (ردّوها) إلى (الشمس) التي لم ترد في تلك الآيات، ولكنّهم استدلّوا عليها من كلمة (العشي) (التي تعني آخر النهار بعد الزوال) الموجودة في آيات بحثنا.
وبهذا الشكل فإنّ الآيات تعطي المفهوم التالي، إنّ سليمان كان غارقاً في مشاهدة الخيل والشمس قد غربت واستترت خلف حجاب الاُفق، فغضب سليمان كثيراً لأنّه لم يكن قد صلّى صلاة العصر، فنادى ملائكة الله، ودعاها إلى ردّ الشمس، فإستجابت له الملائكة وردّتها إليه، أي رجعت فوق الاُفق، فتوضّأ سليمان (المراد بمسح السوق والأعناق هو أداء الوضوء الذي كان حينذاك يعمل به وفق سنّة سليمان، وبالطبع فإنّ كلمة (المسح) تأتي أحياناً في لغة العرب بمعنى الغسل) ثمّ صلّى.
البعض ممّن ليس لديهم الإطلاع الكافي تحدّثوا بأكثر من هذا، ونسبوا اُموراً سيّئة ومحرّمة اُخرى إلى هذا النّبي الكبير، عندما قالوا: إنّ المقصود من جملة (طفق مسحاً بالسوق والأعناق) هو أنّه أمر بضرب سوق وأعناق الخيل بالسيف، أو أنّه نفّذ هذا الأمر بشخصه، لأنّها شغلته عن ذكر الله والصلاة.
طبيعي أنّ بطلان التّفسير الأخير لا يخفى على أحد، لأنّ الخيول لا ذنب لها كي يقتلها سليمان بحدّ السيف، فإن كان هناك ذنب فقد إرتكبه هو، لأنّه كان غارقاً في مشاهدة خيله، ونسي صلاته.
وأحياناً فإنّ قتل الخيل إسراف إضافةً إلى كونه جريمة، فكيف يمكن أن يصدر مثل هذا العمل المحرّم من نبي، أمّا الروايات التي وردت من المصادر الإسلامية بشأن هذه الآية فإنّها تنفي- بشدّة- هذه التهمة الموجّهة إلى سليمان (ع).
أمّا التفاسير السابقة التي قالت بنسيان سليمان وغفلته عن أداء صلاة العصر، فهي موضع السؤال التالي، هل يمكن لنبي معصوم أن ينسى واجباً مكلّفاً به؟ رغم أنّ إستعراضه للخيول كان واجباً آخر مكلّفاً به، إلاّ إذا كانت الصلاة- كما قال البعض- صلاة مندوبة أو مستحبّة، ونسيانها لا يسبّب أيّة مشاكل، ولكن إن كانت صلاة نافلة فلا ضرورة إذن لردّ الشمس.
إذا إنتهينا من هذا، فهناك إشكالات اُخرى وردت بشأن هذا التّفسير.
1- كلمة (الشمس) لم تأت بصورة صريحة في الآيات، في حين أنّ الخيل (الصافنات الجياد) جاء ذكرها صريحاً، ونرى من المناسب أن نعود بالضمير على شيء صرّحت به الآيات.
2- عبارة (عن ذكر ربّي) ظاهرها يعني أنّ حبّ هذه الخيل إنّما هو ناشيء من ذكر وطاعة أمر الله، في حين- طبقاً للتفسير الأخير- تعطي كلمة (عن) معنى (على) ويكون معنى العبارة، إنّي آثرت حبّ الخيل على حبّ ربّي، وهذا المعنى مخالف لظاهر الآية.
3- الأعجب من كلّ ذلك هي عبارة (ردّوها عليّ) التي تحمل صفة الأمر، فهل يمكن أن يخاطب سليمان الباري عزّوجلّ أو ملائكته بصيغة الأمر، أن ردّوا عليّ الشمس، كما يخاطب عبيده أو خدمه.
4- قضيّة ردّ الشمس، رغم أنّها في مقابل قدرة الباري عزّوجلّ تعدّ أمراً يسيراً، إلاّ أنّها تواجه بعض الإشكالات بحيث جعلتها أمراً لا يمكن قبوله من دون توفّر أدلّة واضحة عليها.
5- الآيات المذكورة أعلاه تبدأ بمدح وتمجيد سليمان، في حين أنّ التّفسير الأخير لها يعطي معنى الذمّ والتحقير.
6- إذا كانت الصلاة المتروكة واجبة، فتعليلها يعدّ أمراً صعباً، أمّا إذا كانت نافلة فلا داعي لردّ الشمس.
السؤال الوحيد المتبقّي هنا، هو أنّ هذا التّفسير ورد في عدّة روايات في مصادر الحديث، وإذا دقّقنا جيّداً في إسناد هذه الأحاديث، يتّضح لنا أنّها جميعاً تفتقد السند الموثوق المعتبر، وأنّ أكثر هذه الروايات موضوعة.
أليس من الأفضل صرف النظر عن تلك الروايات غير الموثوقة، وإرجاع علمها إلى أصحابها، وتقبّل كلّ ما يبيّنه ظاهر الآيات بذهنية صافية ومتفتّحة، لنريح أنفسنا من عناء الإشكالات الفارغة.
1- ويرى البعض: إنّ (صافنات)، تستعمل للمذكّر والمؤنث، ولهذا فإنّها لا تختّص بإناث الخيل.
2- مجمع البيان في ذيل الآيات مورد بحثنا، قال البعض: إنّ (خير) الواردة في الآية الآنفة الذكر تعني المال أو المال الكثير، وهذا التّفسير من الممكن أن يتطابق مع التّفسير السابق، لأنّ مصداق المال هنا هو الخيل.
3- تنزيه الأنبياء، الصفحة 93.
4- بحار الأنوار، المجلّد 14، الصفحة 104.
5- طبقاً لهذا التّفسير فإنّ الضمير في عبارتي (توارت) و (ردّوها) يعود على الخيل الماهرة والحاذقة (الصافنات الجياد).