الآيات 8 - 11

﴿أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِى الاَْسْبَبِ (10) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الاَْحْزَابِ(11)﴾

التّفسير

الجيش المهزوم:

الآيات السابقة تحدّثت عن المواقف السلبية التي إتّخذها المعارضون لنهج التوحيد والإسلام، ونواصل في هذه الآيات الحديث عن مواقف المشركين. فمشركو مكّة بعد ما أحسّوا أنّ مصالحهم اللامشروعة باتت في خطر، وإثر تزايد إشتعال نيران الحقد والحسد في قلوبهم، ومن أجل خداع الناس وإقناع أنفسهم عمدوا إلى مختلف الإدّعاءات بمنطق زائف لمحاربة رسول الله (ص)، ومنها سؤالهم بتعجّب وإنكار (أأنزل عليه الذكر من بيننا).

ألم يجد الله شخصاً آخر لينزل عليه قرآنه، غير محمّد اليتيم والفقير- خاصّة وأنّ فينا الكثير من الشيبة وكبار السنّ الأثرياء المعروفون.

هذا المنطق لم يكن منحصراً بذلك الزمان فقط، وإنّما يتعدّاه إلى كلّ عصر وزمان، وحتّى في زماننا، فإن تولّى شخص ما مسؤولية مهمّة طفحت قلوب الآخرين بالغيظ والحسد، وبدأت ألسنتهم بالثرثرة وتوجيه النقد والطعن: ألم يكن هناك شخص آخر حتّى توكّل هذه المهمة بالشخص الفلاني الذي هو من عائلة فقيرة وغير معروفة؟

نعم، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى يشتركون بعض الشيء مع المسلمين، ولكن حبّ الدنيا من جهة، وحسدهم من جهة اُخرى، تسبّبا في أن يبتعدوا عن الإسلام والقرآن، ويقولوا إلى عبدة الأصنام: إنّ الطريق الذي تسلكونه أفضل من الطريق الذي سلكه المؤمنون (ألم تر إلى الذين اُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذي آمنوا سبيلا).(1)

من البديهي أنّ إشكال التعجّب والإنكار المتولّدة عن الخطأ في "تحديد القيم" إضافة إلى الحسد وحبّ الدنيا، لا يمكن أن تكون معياراً منطقياً في القضاء، فهل أنّ شخصيّة الإنسان تحدّد باسمه أو مقدار ماله أو مقامه أو حتّى سنّه؟ وهل أنّ الرحمة الإلهيّة تقسّم على أساس هذا المعيار؟

لهذا فإنّ تتمّة الآية تقول: إنّ مرض اُولئك شيء آخر، إنّهم في حقيقة الأمر يشكّكون في أمر الوحي وأمر الله (بل هم في شكّ من ذكري).

ملاحظاتهم التي لا قيمة لها على شخصيّة الرّسول ما هي إلاّ أعذار واهية، وشكّهم وتردّدهم في هذه المسألة ليس بسبب وجود إبهام في القرآن المجيد، وإنّما بسبب أهوائهم النفسية وحبّ الدنيا وحسدهم.

وفي نهاية الأمر فإنّ القرآن الكريم يهدّدهم بهذه الآية (بل لمّا يذوقوا عذاب)أي إنّ هؤلاء لم يذوقوا العذاب الإلهي، ولهذا السبب جسروا على رسول الله (ص) ودخلوا المعركة ضدّ الوحي الإلهي بهذا المنطق الأجوف.

نعم، فهناك مجموعة من الناس لا ينفع معها المنطق والكلام، ولكن سوط العذاب هو الوحيد الذي يحطّ من تكبّرهم وغرورهم، لذا يجب أن يعاقب اُولئك بالعقاب الإلهي كي يشفوا من مرضهم.

ويضيف القرآن الكريم في الردّ عليهم: هل يمتلكون خزائن الرحمة الإلهيّة كي يهبوا أمر النبوّة لمن يرغبون فيه، ويمنعونها عمّن لا يرغبون فيه؟ (أم عندهم خزائن رحمة ربّك العزيز الوهّاب).

فالله سبحانه وتعالى بمقتضى كونه (ربّ) هذا الكون ومالكه، وباريء عالم الوجود وعالم الإنسانية، ينتخب لتحمل رسالته شخصاً يستطيع قيادة الاُمّة إلى طريق التكامل والتربية. وبمقتضى كونه (العزيز) فإنّه لا يقع تحت تأثير الآخرين ويسلّم مقام الرسالة إلى أشخاص غير لائقين، فمقام النبوّة عظيم، والله سبحانه وتعالى هو صاحب القرار في منحه. ولكونه (الوهّاب) فإنّه ينفذ أيّ شيء يريده، ويمنح مقام النبوّة لكلّ من يرى فيه القدرة على تحمّله.

ممّا يذكر أنّ كلمة (الوهّاب) جاءت بصيغة المبالغة، وتعني كثير المنح والعطايا، وهي هنا تشير إلى أنّ النبوّة ليست نعمة واحدة، وإنّما هي نعم متعدّدة، تتّحد فيما بينها لتمكّن صاحب هذا المقام الرفيع من أداء مهمّته، وهذه النعم تشمل العلم والتقوى والعصمة والشجاعة والشهامة.

ونقرأ في الآية (32) من سورة الزخرف نظير هذا الكلام، قال تعالى: (أهم يقسّمون رحمة ربّك) أي إنّهم يُشكِلون عليك بسبب نزول القرآن عليك، فهل أنّهم هم المسؤولون عن تقسيم رحمة ربّ العالمين؟

هذا ويمكن الإستفادة من كلمة (رحمة) هنا في أنّ النبوّة إنّما هي رحمة ولطف ربّ العالمين بعالم الإنسانية، وحقّاً هي كذلك، فلولا بعث الأنبياء لخسر الناس الدنيا والآخرة، كما خسرها اُولئك الذين ابتعدوا عن نهج الأنبياء.

الآية اللاحقة واصلت تناول نفس الموضوع، ولكن من جانب آخر، حيث قالت: (أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب).

هذا الكلام في حقيقته يعدّ مكمّلا للبحث السابق، إذ جاء في الآية السابقة: إنّكم لا تمتلكون خزائن الرحمة الإلهية، كي تمنحوها لمن تنسجم أهواؤه مع أهوائكم، والآن تقول الآية التالية لها: بعد أن تبيّن أنّ هذه الخزائن ليست بيدكم، وإنّما هي تحت تصرّف البارىء عزّوجلّ، إذن فليس أمامكم غير طريق واحد، وهو أن ترتقوا إلى السماوات لتمنعوا الوحي أن ينزل على رسول الله وإنّكم تعرفون أنّ تحقيق هذا الأمر شيء محال، وأنتم عاجزون عن تنفيذه.

وعلى هذا، فلا "المقتضي" تحت إختياركم، ولا القدرة على إيجاد "المانع"، فماذا يمكنكم فعله في هذا الحال؟ إذاً، موتوا بغيظكم وحسدكم، وافعلوا ما شئتم ..

وبهذا الشكل فإنّ الآيتين لا تكرّران موضوعاً واحداً كما توهّمه مجموعة من المفسّرين، بل إنّ كلّ واحدة منهما تتناول جانباً من جوانب الموضوع.

الآية الأخيرة في بحثنا جاءت بمثابة تحقير لاُولئك المغرورين السفهاء، قال تعالى: (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب)(2) فهؤلاء جنود قلائل مهزومين ..

"هنالك" إشارة للبعيد، وبسبب وجودها في الآية، فقد إعتبر بعض المفسّرين أنّها إشارة إلى هزيمة المشركين في معركة بدر، التي دارت رحاها في منطقة بعيدة بعض الشيء عن مكّة المكرّمة.

وإستخدام كلمة (الأحزاب) هنا إشارة حسب الظاهر إلى كلّ المجموعات التي وقفت ضدّ رسل الله، والذين أبادهم الباري عزّوجلّ، ومجتمع مكّة المشرك هو مجموعة صغيرة من تلك المجموعات، والذي سيبتلى بما ابتلوا به (الشاهد على هذا الحديث هو ما سيرد في الآيات القادمة التي تتطرّق لهذه المسألة).

ولا ننسى أنّ هذه السورة من السور المكيّة، ونزلت في وقت كان فيه عدد المسلمين قليلا جدّاً، بحيث كان من اليسير على المشركين أن يبيدوهم بسهولة، قال تعالى: (تخافون أن يتخطّفكم الناس).(3)

وفي ذلك اليوم لم تكن هنالك أيّة دلائل توضّح إمكانية إنتصار المسلمين، حيث لم تكن المعارك قد وقعت، ولا الإنتصارات في بدر والأحزاب وحنين قد تحقّقت.

ولكن القرآن قال بحزم إنّ هؤلاء الأعداء- الذين هم مجموعة صغيرة- سيهزمون في نهاية المطاف.

واليوم يبشّر القرآن الكريم مسلمي العالم المحاصرين من كلّ الجهات من قبل القوى المعتدية والظالمة بنفس البشائر التي بشّر بها المسلمين قبل (1400) عام، في أنّ الله سبحانه وتعالى سينجز وعده في هزيمة جند الأحزاب، إن تمسّك مسلمو اليوم بعهودهم تجاه الله كما تمسّك بها المسلمون الأوائل.


1- النساء، 51.

2- (ما) تعدّ زائدة في هذه العبارة، إنّما جاءت للتحقير والتقليل، و (جند) خبر لمبتدأ محذوف، و (مهزوم) خبر ثان والعبارة في الأصل هي (هم جند ما مهزوم من الأحزاب) والبعض يعتقد بعدم وجود محذوف في الجملة و (جند) مبتدأ و (مهزوم) خبر، ولكن الرأي الأوّل أنسب.

3- سورة الأنفال، 26.