الآيات 4 - 7

﴿وَعَجِبُوآ أَن جَآءَهُم مُّنِذرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَـفِرُونَ هَذَا سَـحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الاَْلِهَةَ إِلَـهاً وَحِداً إِنَّ هَـذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ(5)وَانطَلَقَ الْمَلاَُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَـذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَـذَا فِى الْمِلَّةِ الاَْخِرَةِ إِنْ هَـذَا إِلاَّ اخْتِلَـقٌ (7)﴾

أسباب النّزول

سبب نزول هذه الآيات يشبه سبب نزول الآيات السابقة، وغير مستبعد أن يكون هناك سبب واحد لنزول كلّ تلك الآيات.

ولكن بما أنّ سبب النّزول المذكور لهذه الآيات يحوي مطالب جديدة، نذكره كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم، حيث جاء فيه: بعد أن أظهر رسول الله (ص)الدعوة، إجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: ياأبا طالب، إنّ ابن أخيك قد سفه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم، جمعنا له حالا حتّى يكون أغنى رجل في قريش، ونملكه علينا.

فأخبر أبو طالب رسول الله (ص)، فأجابه رسول الله قائلا: "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركته، ولكن كلمة يعطوني يملكون بها العرب وتدين بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنّة".

فقال لهم أبو طالب ذلك، فقالوا: نعم وعشرة كلمات بدلا من واحدة، أي كلمة تقصد أنت؟

فقال لهم رسول الله (ص): "تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله".

تضايقوا كثيراً عند سماعهم هذا الجواب، وقالوا: ندع ثلاث مائة وستّين إلهاً ونعبد إلهاً واحداً؟ إنّه لأمر عجيب؟ نعبد إلهاً واحداً لا يمكن مشاهدته ورؤيته.

وهنا نزلت هذه الآيات المباركة (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذّاب... إنّ هذا إلاّ إختلاق)(1).

هذا المعنى ورد أيضاً في تفسير مجمع البيان مع إختلاف بسيط، إذ ذكر صاحب تفسير مجمع البيان في آخر الرواية أنّ رسول الله (ص) استعبر بعد أن سمع جواب زعماء قريش وقال: "ياعمّ والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتّى انفذه أو اُقتل دونه" فقال له أبو طالب: امض لأمرك، فوالله لا أخذلك أبداً(2).

التّفسير

هل يمكن قبول إله واحد بدلا من كلّ تلك الآلهة؟

المغرورون والمتكبّرون لا يعترفون بأمر لا يلائم أفكارهم المحدودة والناقصة، إذ يعتبرون أفكارهم المحدودة والناقصة مقياساً لكلّ القيم. لذا فعندما رفع رسول الله (ص) لواء التوحيد في مكّة، وأعلن الإنتفاضة ضدّ الأصنام الكبيرة والصغيرة في الكعبة، والبالغ عددها (360) صنماً، تعجّبوا: لماذا جاءهم النذير من بينهم؟ (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم).

كان تعجّبهم بسبب أنّ محمّداً (ص) رجل منهم .. فلماذا لم تنزل ملائكة من السماء بالرسالة؟.. هؤلاء تصوّروا أنّ نقطة القوّة هذه نقطة ضعف، فالذي يبعث من بين قوم، هو أدرى بإحتياجات وآلام قومه، كما أنّه أعرف بمشكلاتهم وتفصيلات حياتهم، ويمكن أن يكون لهم اُسوة وقدوة، إلاّ أنّهم اعتبروا هذا الإمتياز الكبير نقطة سلبية في دعوة الرّسول (ص) وتعجّبوا من أمر بعثته إليهم.

وأحياناً كانوا يجتازون مرحلة التعجّب إلى مرحلة إتّهام رسول الله بالسحر والكذب (وقال الكافرون هذا ساحر كذّاب).

وقلنا عدّة مرّات: إنّ إتّهامهم الرّسول الأكرم (ص) بالسحر، إنّما نتج من جرّاء رؤيتهم لمعجزاته التي لا تقبل الإنكار وتنفذ بصورة مدهشة إلى أفكار المجتمع، وإتّهامه بالكذب بسبب تحدّثه باُمور تخالف سنّتهم الخرافية وأفكارهم الجاهلية التي كانت جزءاً من الاُمور المسلّم بها في ذلك المجتمع، وإدّعاء الرسالة من الله.

وعندما أظهر رسول الله (ص) دعوته لتوحيد الله، أخذ أحدهم ينظر للآخر ويقول له: تعالى واسمع العجب العجاب (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيء عجاب)(3).

نعم، فالغرور والتكبّر إضافة إلى فساد المجتمع، تساهم جميعاً في تغيّر بصيرة الإنسان، وجعله متعجّباً من بعض الاُمور الواقعية والواضحة، في حين يصرّ بشدّة على التمسّك ببعض الخرافات والأوهام الواهية.

وكلمة (عجاب) على وزن (تراب) تعطي معنى المبالغة، وتقال لأمر عجيب مفرط في العجب.

فالسفهاء من قريش كانوا يعتقدون أنّه كلّما إزدادت عدد آلهتهم إزداد نفوذهم وقدرتهم، ولهذا السبب فإنّ وجود إله واحد يعدّ قليلا من وجهة نظرهم، في حين- كما هو معلوم- أنّ الأشياء المتعدّدة من وجهة النظر الفلسفية تكون دائماً محدودة، والوجود اللامحدود واحد لا أكثر، ولهذا السبب فإنّ كلّ الدراسات في معرفة الله تنتهي إلى توحيده.

وبعد أن يئس طغاة قريش من توسّط أبي طالب في الأمر وفقدوا الأمل، خرجوا من بيته، ثمّ إنطلقوا وقال بعضهم لبعض، أو قالوا لأتباعهم: اذهبوا وتمسّكوا أكثر بآلهتكم، واصبروا على دينكم، وتحمّلوا المشاق لأجله، لأنّ هدف محمّد هو جرّ مجتمعنا إلى الفساد والضياع وزوال النعمة الإلهية عنّا بسبب تركنا الأصنام، وإنّه يريد أن يترأّس علينا (وإنطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشيء يراد).

"إنطلق" مشتقّة من (إنطلاق) وتعني الذهاب بسرعة والتحرّر من عمل سابق، وهنا تشير إلى تركهم مجلس أبي طالب وعلامات الضجر والغضب بادية عليهم.

و (الملأ) إشارة إلى أشراف قريش المعروفين الذين ذهبوا إلى أبي طالب، وبعد خروجهم من بيته تحدّث بعضهم لبعض أو لأتباعهم أن لا تتركوا عبادة أصنامكم وأثبتوا على عبادة آلهتكم.

وجملة (لشيء يراد) تعني أنّ هناك أمراً يراد بنا. ولكونها جملة غامضة بعض الشيء، فقد ذكر المفسّرون لها تفاسير عديدة، منها: أنّها إشارة إلى دعوة الرّسول الأكرم (ص)، إذ اعتبرت قريش هذه الدعوة مؤامرة ضدّها، وقالت: إنّ ظاهرها يدعو إلى الله، وباطنها يهدف إلى السيادة والرئاسة علينا وعلى العرب، وما هذه الدعوة إلاّ ذريعة لتنفيذ ذلك الأمر، أي السيادة والرئاسة، ودعت الناس إلى التمسّك أكثر بعبادة الأصنام، وترك تحليل أمر هذه المؤامرة إلى زعماء القوم، وهذا الاُسلوب طالما لجأ إليه أئمّة الضلال لإسكات أصوات السائرين في طريق الحقّ، إذ يطلقون على الدعوة إلى الله لفظة (مؤامرة) المؤامرة التي يجب أن يتولّى

رجال السياسة تحليلها بدقّة لوضع الخطط والبرامج المنظّمة لمواجهتها، وأن يمرّ بها عامة الناس مرّ الكرام من دون أن يعيروا لها أي إهتمام، وأن يتمسّكوا أكثر بما عندهم، أي بأصنامهم.

ونظير هذا الحديث ورد في قصّة نوح، عندما قال الملأ من قوم نوح لعامّتهم (ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم).(4)

وذهب آخرون إلى أنّ المقصود من هذه العبارة هو: ياعبدة الأصنام أثبتوا واستقيموا على آلهتكم، لأنّ هذا هو المطلوب منكم.

أمّا البعض الآخر فقد قال: المقصود هو أنّ محمّداً يستهدفنا نحن، وأنّه يريد جرّ مجتمعنا إلى الفساد من خلال تركنا لآلهتنا، وفي نهاية الأمر ستزال النعم عنّا وينزل علينا العذاب!

فيما إحتمل البعض الآخر أنّ المراد هو أنّ محمّداً لن يتوقّف عن دعوته وأنّه مصمّم على نشرها بعزم راسخ، ولهذا فإنّ المحادثات معه عقيمة، فاذهبوا وتمسّكوا أكثر بعقائدهم.

وأخيراً إحتمل بعض المفسّرين أنّ المقصود هو أنّ المصيبة ستحلّ بنا، وعلى أيّة حال، علينا أن نتهيّأ لها وأن نتمسّك أكثر بسنّتنا.

وبالطبع، لكون هذه الجملة لها مفهوم عامّ، فإنّ أغلب التفاسير يمكن أن تعطي المعنى المطلوب، رغم أنّ التّفسير الأوّل يعدّ أنسب من بقيّة التفاسير.

وعلى أيّة حال، فإنّ زعماء المشركين أرادوا بهذا القول تقوية المعنويات المنهارة لأتباعهم، والحيلولة دون تزعزع معتقداتهم أكثر، ولكن كلّ مساعيهم ذهبت أدراج الرياح.

ولخداع عوامّ الناس وإقناع أنفسهم، قال زعماء المشركين (ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إنّ هذا إلاّ إختلاق).

فلو كان ادّعاء التوحيد وترك عبادة الأصنام أمراً واقعيّاً لكان آباؤنا الذين كانوا بتلك العظمة والشخصيّة قد أدركوا ذلك، وكنّا قد سمعنا ذلك منهم، لذا فهو مجرّد حديث كاذب وليست له سابقة.

وعبارة (الملّة الآخرة) يحتمل أنّها تشير إلى جيل آبائهم باعتباره آخر جيل بالنسبة لهم، ويمكن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب وخاصّة (النصارى) الذين كانوا آخر الملل، ودينهم كان آخر الأديان قبل ظهور نبي الإسلام (ص)، أي إنّنا لم نعثر في كتب النصارى على شيء ممّا يقوله محمّد، وذلك لأنّ كتب النصارى كانت تقول بالتثليث، أمّا التوحيد الذي دعا إليه محمّد فإنّه أمر جديد.

ولكن يتّضح من آيات القرآن الكريم أنّ عرب الجاهلية لم يكونوا معتمدين على كتب اليهود والنصارى، وإنّما إعتمادهم الأساس كان على سنن وشرائع أجدادهم وآبائهم، وهذا دليل على صحّة التّفسير الأوّل.

"إختلاق" مشتقّة من (خلق) وتعني إبداء أمر لم تكن له سابقة، كما تطلق هذه الكلمة على الكذب، وذلك لأنّ الكذّاب غالباً ما يطرح مواضيع لا وجود لها، ولهذا فإنّ المراد من كلمة (إختلاق) في الآية- مورد البحث- أنّ التوحيد الذي دعا إليه هذا النبيّ مجهول بالنسبة لنا ولآبائنا الأوّلين، وهذا دليل على بطلانه.

ملاحظة

الخوف من الجديد!

الخوف من القضايا والاُمور المستحدثة والجديدة كانت- على طول التاريخ- أحد الأسباب المهمّة التي تقف وراء إصرار الاُمم الضالّة على إنحرافاتها، وعدم إستسلامها لدعوات أنبياء الله، إذ أنّهم يخافون من كلّ جديد، ولهذا كانوا ينظرون لشرائع الأنبياء بنظرة سيّئة جدّاً، وحتّى الآن هناك اُمم كثيرة تحمل آثاراً من هذا التفكير الجاهلي، في الوقت الذي لم تكن فيه دعوة الرسل للتوحيد أمراً جديداً، ولا يمكن أن تكون حداثة الشيء دليلا على بطلانه، فيجب أن نتّبع المنطق، ونستسلم للحقّ أينما كان وممّن كان.

والأمر العجيب أنّ مسألة الخوف من الأمر الجديد- مع شديد الأسف- قد طالت بعض العلماء أيضاً- إذ يتّخذون موقفاً معارضاً للنظريات العلمية الحديثة ويقولون: (إنّ هذا إلاّ إختلاق).

وهذا الأمر شوهد بصورة خاصّة في تأريخ الكنيسة المسيحية، إذ أنّهم كانوا يتّخذون مواقف سلبية تجاه الإكتشافات العلمية لعلماء الطبيعة، وكان أحدهم "غاليلو" إذ تعرّض لأشدّ هجمات الكنيسة على أثر إعلانه عن أنّ الأرض تدور حول الشمس وحول نفسها، حيث كانوا يقولون: إنّ هذا الكلام بدعة.

وأكثر ما يثير العجب أنّ بعض العلماء الكبار، كانوا عندما يتوصّلون إلى حقائق علمية جديدة، يعمدون إلى البحث في اُمّهات الكتب لعلّهم يعثرون على علماء سابقين يوافقونهم في الرأي، وذلك خوفاً من تعرضهم لهجمات المعارضين وبهذا الاُسلوب إستطاع كثير من العلماء إبداء وجهة نظرهم وكأنّها قديمة وليست بجديدة، وهذا أمر مؤلم جدّاً.

ومثال هذا الحديث يمكن مشاهدته في كتاب (الأسفار) فيما ورد عن النظرية المعروفة بـ (الحركة الجوهرية) لصدر المتألهين الشيرازي.

على أيّة حال فإنّ طريقة التعامل مع القضايا الحديثة والإبتكارات الجديدة أدّى إلى وقوع خسائر كبيرة في المجتمع الإنساني وفي عالم العلم والمعرفة، وعلى أصحاب العلاقة أن يعملوا بجدّ لإصلاح هذا الأمر، وإزالة الرسوبات الجاهلية من أفكار الرأي العامّ.

إلاّ أنّ هذا الحديث لا يعني قبول كلّ رأي جديد لكونه جديداً، حتّى ولو كان بلا أساس، إذ يصبح حينئذ نفس التمسّك بالجديد بلاءاً عظيماً كعشق القديم، فالإعتدال الإسلامي يدعونا إلى عدم الإفراط أو التفريط في العمل.


1- تفسير علي بن إبراهيم، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 442 الحديث 7.

2- مجمع البيان، المجلّد 8، الصفحة 465.

3- "الجعل" بمعنى التصيير، وهو ـ كما قيل ـ تصيير بحسب القول والإعتقاد والدعوى لا بحسب الواقع.

4- المؤمنون، 24.