الآيات 1 - 3

﴿ص وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّة وَشِقَاق(2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْن فَنَادَوا وَّلاَتَ حِينَ مَنَاص (3)﴾

أسباب النّزول

وردت في كتب التّفسير والحديث أسباب متشابهة لنزول الآيات الاُولى من هذه السورة، وسنستعرض أحد هذه الأسباب لكونه مفصّلا وجامعاً أكثر من الأسباب الاُخرى، ففي حديث نقله المرحوم العلاّمة الكليني عن الإمام الباقر (ع)جاء فيه: "أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا: إنّ ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا، فادعه ومره فليكفّ عن آلهتنا ونكفّ عن إلهه.

فبعث أبو طالب إلى رسول الله (ص) فدعاه، فلمّا دخل النّبي لم ير في البيت إلاّ مشركاً فقال: (السلام على من اتّبع الهدى) ثمّ جلس فخبّره أبو طالب بما جاؤوا به، فقال رسول الله (ص): "أو هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم"؟

فقال أبو جهل: نعم وما هذه الكلمة؟

قال: "تقولون: لا إله إلاّ الله".

وما إن سمعوا هذه الكلمات حتّى وضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا وهم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إنّ هذا إلاّ إختلاق، فأنزل الله في قولهم: (ص والقرآن ذي الذكر- إلى قوله- إلاّ إختلاق)(1).

التّفسير

إنقضاء مهلة النّجاة:

مرّة اُخرى تمرّ علينا سورة تبدأ آياتها الاُولى بحروف مقطّعة وهو حرف (ص) ويطرح نفس السؤال السابق بشأن تفسير هذه الحروف المقطّعة: هل هذه إشارة إلى عظمة القرآن المجيد الذي يتألّف من مثل هذه الحروف المتيسّرة في متناول الجميع كالحروف الهجائية، والذي غيّرت محتوياته مجرى حياة الإنسانية في هذا العالم... وأنّ قدرة الله العظيمة هي التي أوجدت من هذه الحروف البسيطة تركيباً رائعاً عظيماً هو القرآن المجيد كلام الله، أم أنّها إشارة إلى رموز وأسرار بين الله سبحانه وتعالى وأنبيائه ..

أمّ أنّها تعني اُموراً اُخرى؟

مجموعة من المفسّرين إعتبرت هنا حرف (ص) رمزاً يشير إلى أحد أسماء الله، وذلك لأنّ الكثير من أسمائه تبدأ بحرف الصاد مثل (صادق)، (صمد)، (صانع) أو أنّه إشارة إلى (صدق الله) التي إختصرت بحرف واحد.

ولابدّ أنّكم طالعتم تفسير هذه الحروف المقطّعة بصورة مفصّلة في تفسير بدايات آيات سور (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف).

ثمّ يقسم الله تعالى بالقرآن ذي الذكر والذي هو حقّاً معجزة إلهيّة (والقرآن ذي الذكر)(2).

فالقرآن ذكر ويشتمل على الذكر، والذكر يعني التذكير وصقل القلوب من صدأ الغفلة، تذكّر الله، وتذكّر نعمه، وتذكّر محكمته الكبرى يوم القيامة، وتذكّر هدف خلق الإنسان.

نعم، فالنسيان والغفلة هما من أهمّ عوامل تعاسة الإنسان، والقرآن الكريم خير دواء لعلاجهما.

فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين في الآية (67) من سورة التوبة: (نسوا الله فنسيهم) أي إنّهم نسوا الله، والله في المقابل نسيهم وقطع رحمته عنهم.

ونقرأ في نفس هذه السورة الآية (26) عن الضالّين، قوله تعالى: (إنّ الذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).

نعم، فالنسيان هو الإبتلاء الكبير الذي ابتلي به الضالّون والمذنبون، حتّى أنّهم نسوا أنفسهم وقيمة وجودها، كما قال القرآن الكريم، كلام الله الناطق (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم اُولئك هم الفاسقون).(3)

فالقرآن خير وسيلة لتمزيق حجب النسيان، وهو نور لإزالة الظلمات والغفلة والنسيان، حيث أنّ آياته تذكّر الإنسان بالله وبالمعاد، وتعرّف الإنسان قيمة وجوده في هذه الحياة.

الآية التالية تقول لرسول الله (ص): إذا رأيت هؤلاء لا يستسلمون لآيات الله الواضحة ولقرآنه المجيد، فاعلم أنّ سبب هذا لا يعود إلى أنّ هناك ستاراً يغطّي كلام الحقّ، وإنّما هم مبتلون بالتكبّر والغرور اللذين يمنعان الكافرين من قبول الحقّ، كما أنّ عنادهم وعصيانهم- هما أيضاً- مانع يحول دون تقبّلهم لدعوتك (بل الذين كفروا في عزّة وشقاق).

"العزّة" كما قال الراغب في مفرداته، هي حالة تحوّل دون هزيمة الإنسان (حالة الذي لا يقهر) وهي مشتقّة من (عزاز) وتعني الأرض الصلبة المتينة التي لا ينفذ الماء خلالها، وتعطي معنيين، فأحياناً تعني (العزّة الممدوحة) المحترمة، كما في وصف ذات الله الطاهر بالعزيز، وأحياناً تعني (العزّة بالإثم) أي الوقوف بوجه الحقّ والتكبّر عن قبول الواقع، وهذه العزّة مذلّة في حقيقة الأمر.

"شقاق" مشتقّة من (شقّ)، ومعناه واضح، ثمّ إستعمل في معنى المخالفة، لأنّ الإختلاف يسبّب في أن تقف كلّ مجموعة في شقّ، أي في جانب.

القرآن هنا يعدّ مسألة العجرفة والتكبّر والغرور وطيّ طريق الإنفصال والتفرقة من أسباب تعاسة الكافرين، نعم هذه الصفات القبيحة والسيّئة تعمي عين الإنسان وتصمّ آذانه، وتفقده إحساسه، وكم هو مؤلم أن يكون للإنسان عيون تبصر وآذان تسمع ولكنّه يبدو كالأعمى والأصم.

فالآية (206) من سورة البقرة تقول: (وإذا قيل له اتّق الله أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنّم ولبئس المهاد) أي عندما يقال للمنافق: اتّق الله، تأخذه العصبية والغرور واللجاجة، وتؤدّي به إلى التوغّل في الذنب والسقوط في نار جهنّم وإنّها لبئس المكان.

ولإيقاظ اُولئك المغرورين المغفّلين، يرجع بهم القرآن الكريم إلى ماضي تأريخ البشر، ليريهم مصير الاُمم المغرورة والمتكبّرة، كي يتّعظوا ويأخذوا العبر منها (وكم أهلكنا من قبلهم من قرن).

أي إنّ اُمماً كثيرة كانت قبلهم قد أهلكناها (بسبب تكذيبها الأنبياء، وإنكارها آيات الله، وظلمها وإرتكابها للذنوب) وكانت تستغيث بصوت عال عند نزول العذاب عليها، ولكن ما الفائدة فقد تأخّر الوقت! ولم يبق أمامهم متّسع من الوقت لإنقاذ أنفسهم (فنادوا ولات حين مناص).

فعندما كان أنبياء الله في السابق يعظونهم ويحذّرونهم عواقب أعمالهم القبيحة، لم يكتفوا بصمّ آذانهم وعدم الإستماع، وإنّما كانوا يستهزئون ويسخرون من الأنبياء ويعذّبون المؤمنين ويقتلونهم، فبذلك أضاعوا الفرصة ودمّروا كلّ الجسور التي خلفهم، فنزل العذاب الإلهي ليهلكهم جميعاً، العذاب الذي رافقه إنغلاق باب التوبة والعودة، وفور نزوله تبدأ أصوات الإستغاثة تتعالى، والتي لا تغني عنهم يومئذ شيئاً.

وكلمة (لات) جاءت للنفي، وهي في الأصل (لا) نافية اُضيفت إليها (تاء) التأنيث، لتعطي معنى التأكيد(4).

"مناص" من مادّة (نوص) وتعني الملاذ والملجأ، ويقال: إنّ العرب عندما كانت تقع لهم حادثة صعبة ورهيبة، وخاصّة في الحروب كانوا يكرّرون هذه الكلمة ويقولون (مناص ... مناص) أي: أين الملاذ؟ أين الملاذ؟ ولأنّ هذا المفهوم يتناسب مع معنى الفرار، وأحياناً تأتي بمعنى إلى أين الفرار(5).

على أيّة حال، فإنّ اُولئك المغرورين المغفّلين لم يستفيدوا من الفرصة التي كانت بأيديهم للجوء إلى أحضان الرحمة واللطف الإلهي، وعندما أضاعوا الفرصة ونزل عليهم العذاب الإلهي، أخذوا ينادون ويستغيثون ويبذلون الجهد للعثور على طريق نجاة لهم، ولكن كلّ هذه الجهود تبوء بالفشل، حيث أنّهم مهما بذلوا من جهد ومهما إستغاثوا فإنّهم لا يصلون إلى مقصدهم.

هذه كانت سنّة الله مع كلّ الاُمم السابقة، وستبقى كذلك، لأنّ سنّة الله لا تتغيّر ولا تتبدّل.

ومن المؤسف أنّ الناس- على الأغلب- غير مستعدّين للإتّعاظ من تجارب الآخرين، وكأنّهم راغبون في تكرار تلك التجارب المرّة، التجارب التي تقع أحياناً مرّة واحدة في طول عمر الإنسان، ولا تتكرّر ثانية، وبصورة أوضح: إنّها الاُولى والأخيرة.


1- اُصول الكافي نقلا عن نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 440.

2- جملة (والقرآن ذي الذكر) جملة قسم جوابها محذوف، وتقديرها (والقرآن ذي الذكر إنّك صادق وإنّ هذا الكلام معجز).

3- الحشر، 19.

4- البعض قال: إنّ (التاء) زائدة وإعتبرها للمبالغة كما في كلمة (علامة) كما إعتبر البعض أنّ (لا) هنا (نافية للجنس) والبعض شبّهها بـ (ليس) وعلى أيّة حال إضافة (التاء) إلى (لا) يوجد أحكاماً خاصّة، منها من المؤكّد أنّها تستخدم للزمان، والاُخرى أنّ إسمها أو خبرها محذوف دائماً، وتذكر في الكلام بإحدى الحالتين المذكورتين آنفاً، وطبقاً لهذا فإنّ عبارة (ولات حين مناص) تقديرها (ولات الحين حين مناص).

5- مفردات الراغب، تفسير فخر الرازي، تفسير روح المعاني، كتاب مجمع البحرين مادّة (نوص).