الآيات 178 - 182
﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)سُبْحَـنَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَـمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ (182)﴾
التّفسير
تولّ عنهم!
كما قلنا، فإنّ الآيات الأخيرة النازلة في هذه السورة جاءت لمواساة الرّسول الأكرم (ص) والمؤمنين الحقيقيين، ولتهديد الكافرين اللجوجين.
الآيتان الأوّليان في بحثنا هذا، تشبهان الآيات التي وردت في البحث السابق، وتكرارها هنا إنّما جاء للتأكيد، إذ تقول بلغة شديدة مرفقة بالتهديد: تولّ عنهم واتركهم في شأنهم لمدّة معيّنة (وتولّ عنهم حتّى حين).
وانظر إلى لجاجة اُولئك الكافرين وكذبهم وممارساتهم العدائية ونكرانهم لوجود الله، الذين سينالون جزاء أعمالهم عمّا قريب (وأبصر فسوف يبصرون).
التكرار- كما قلنا- جاء للتأكيد، وذلك ليدرك اُولئك الكافرون أنّ جزاءهم وهزيمتهم وخيبتهم أمر قطعي لابدّ منه وسيكون ذلك عمّا قريب، وسيبتلون بالنتائج المريرة لأعمالهم، كما أنّ إنتصار المؤمنين هو أمر قطعي ومسلّم به أيضاً.
أو أنّه هدّدهم في المرّة الاُولى بالعذاب الدنيوي، وفي المرّة الثانية بجزاء وعقاب الله لهم يوم القيامة.
ثمّ تختتم السورة بثلاثة آيات ذات عمق في المعنى بشأن (الله) و (الرسل) و (العالمين)، إذ تنزّه الله ربّ العزّة والقدرة من الأوصاف التي يصفه بها المشركون والجاهلون (سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون).
فأحياناً يصفون الملائكة بأنّها بنات الله، وأحياناً يقولون بوجود نسبة بين الله والجنّ، وأحياناً اُخرى يجعلون مصنوعات لا قيمة لها من الحجر والخشب بمرتبة الباري عزّوجلّ.
ومجيء كلمة (العزّة)- أي ذو القدرة المطلقة والذي لا يمكن التغلّب عليه- هنا تعطي معنى بطلان وعدم فائدة كلّ تلك المعبودات المزيّفة والخرافية التي يعبدها المشركون.
فآيات سورة الصافات تحدّثت أحياناً عن تسبيح وتنزيه (عباد الله المخلصين)وأحياناً عن تسبيح الملائكة، وهنا تتحدّث عن تسبيح وتنزيه الباري عزّوجلّ لذاته المقدّسة.
وفي الآية الثانية شمل الباري عزّوجلّ كافّة أنبيائه بلطفه غير المحدود، وقال: (وسلام على المرسلين). السلام الذي يوضّح السلامة والعافية من كلّ أنواع العذاب والعقاب في يوم القيامة، السلام الذي هو صمّام الأمان أمام الهزائم ودليل للإنتصار على الأعداء.
وممّا يذكر أنّ الله سبحانه وتعالى أرسل في آيات هذه السورة سلاماً إلى كثير من أنبيائه وبصورة منفصلة، قال تعالى في الآية (79) (سلام على نوح في العالمين)، وفي الآية (109) (سلام على إبراهيم)، وفي الآية (سلام على موسى وهارون)، وفي الآية (130) (سلام على آل ياسين).
وقد جمعها هنا في سلام واحد موجّه لكلّ المرسلين، قال تعالى: (وسلام على المرسلين).
وأخيراً إختتمت السورة بآية تحمد الله (والحمد لله ربّ العالمين).
الآيات الثلاث الأخيرة يمكن أن تكون إشارة وإستعراضاً مختصراً لكلّ القضايا والاُمور الموجودة في هذه السورة، لأنّ الجزء الأكبر منها كان بشأن التوحيد والجهاد ضدّ مختلف أنواع الشرك، فالآية الاُولى تعيد ما جاء بشأن تسبيح وتنزيه الله عزّوجلّ عن الصفات التي وصف بها من قبل المشركين، والقسم الآخر من السورة يبيّن جوانب من أوضاع سبع أنبياء كبار أشارت إليها هنا الآية الثانية.
والآية الثالثة إستعرضت جزءاً آخر من النعم الإلهية، وبالخصوص أنواع النعم الموجودة في الجنّة، وإنتصار جند الله على جنود الكفر، والحمد والثناء الذي جاء في الآية الأخيرة، فيه إشارة لكلّ تلك الاُمور.
المفسّرون الآخرون ذكروا تحليلات اُخرى بخصوص الآيات الثلاث الواردة في آخر هذه السورة، وقالوا: إنّ من أهمّ واجبات الإنسان العاقل معرفة أحوال ثلاثة:
الاُولى: معرفة الله تعالى بالمقدار الممكن للبشر، وآخر ما يستطيعه الإنسان في هذا المجال هو ثلاثة اُمور: تنزيهه وتقديسه عن كلّ ما لا يليق بصفات الاُلوهية، والتي وضّحتها لفظة (سبحان).
ووصفه بكلّ ما يليق بصفات الاُلوهية والكمال، وكلمة (ربّ) إشارة دالّة على حكمته ورحمته ومالكيّته لكلّ الأشياء وتربيته للموجودات.
وكونه منزّهاً في الاُلوهية عن الشريك والنظير، والتي جاءت في عبارة (عمّا يصفون).
والقضيّة الثانية المهمّة في حياة الإنسان هي تكميل الإنسان لنواقصه، والذي لا يمكن أن يتمّ دون وجود الأنبياء (ع)، وجملة (سلام على المرسلين) إشارة إلى هذه القضيّة.
والقضيّة الثالثة المهمّة في حياة الإنسان هي أن يعرف أنّه كيف يكون حاله بعد الموت؟ والإنتباه إلى نعم ربّ العالمين ومقام غناه ورحمته ولطفه يعطي للإنسان نوعاً من الإطمئنان (والحمد لله ربّ العالمين)(1).
ملاحظة
التفكّر في نهاية كلّ عمل:
جاء في روايات عديدة عن أئمّة أهل البيت (ع) "من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى (من الأجر يوم القيامة) فليكن آخر كلامه في مجلسه: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين"(2).
نعم، فلنختتم مجالسنا بتنزيه ذات الله، وإرسال السلام والتحيّات إلى رسله، وحمد وشكر الله على نعمه، كي تمحى الأعمال غير الصالحة أو الكلمات المحرّمة التي جاءت في ذلك المجلس.
وقد جاء في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق، أنّ أحد علماء الشام حضر عند الإمام الباقر (ع)، فقال: جئت أسألك عن مسألة لم أجد أحداً يفسّرها لي، وقد سألت ثلاثة أصناف من الناس، فقال كلّ صنف غير ما قال الآخر.
فقال أبو جعفر (ع): "وما ذلك"؟
فقال: أسألك ما أوّل ما خلق الله عزّوجلّ من خلقه؟ فإنّ بعض من سألته قال:
القدرة. وقال بعضهم: العلم. وقال بعضهم: الروح؟
فقال أبو جعفر (ع): "ما قالوا شيئاً، أخبرك أنّ الله علا ذكره كان ولا شيء غيره، وكان عزيزاً ولا عزّ، لأنّه كان قبل عزّه، وذلك قوله تعالى: (سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون)(3) وكان خالقاً ولا مخلوق" والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة (وهو إشارة إلى انّ ما قاله لك اُولئك النفر لا يخلو من شرك وهو مشمول لهذه الآية، فإنّ الله عزّوجلّ كان قادراً وعالماً وعزيزاً منذ الأزل).
آمين ياربّ العالمين
نهاية سورة الصافات
1- تفسير الفخر الرازي، المجلّد 26، الصفحة 173.
2- مجمع البيان، ذيل آيات البحث، واُصول الكافي، ومن لا يحضره الفقيه نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 440.
3- تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 440.