الآيات 161 - 170
﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَـتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ(167) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الاَْوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُـخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(170)﴾
التّفسير
الإدّعاءات الكاذبة:
الآيات السابقة تحدّثت عن الآلهة المختلفة التي كان المشركون يعبدونها، أمّا الآيات- التي هي مورد بحثنا الآن- فتتابع ذلك الموضوع، حيث توضّح في كلّ بضع آيات موضوعاً يتعلّق بهذا الأمر.
بداية البحث تؤكّد الآيات على أنّ وساوس عبدة الأصنام لا تؤثّر على الطاهرين والمحسنين، وإنّما- قلوبكم المريضة وأرواحكم الخبيثة هي التي تستسلم لتلك الوساوس، قال تعالى: (فإنّكم وما تعبدون).
نعم، أنتم وما تعبدون لا تستطيعون خداع أحد بوسائل الفتنة والفساد عن الطريق المؤدّي إلى الله (ما أنتم عليه بفاتنين)(1) إلاّ اُولئك الذين يريدون أن يحترقوا في نار جهنّم (إلاّ من هو صالّ الجحيم).
هذه الآيات- خلافاً لما يتصوّره أتباع مذهب الجبر- دليل ضدّ هذا المذهب، وهي إشارة إلى أنّه لا يعذر أي أحد إنحرف عن الطريق المستقيم، مدّعياً أنّه قد خدع، وإنحرافه وعبادته للأوثان بسبب هذه الوساوس، ولذا تقول الآيات المباركة، أنتم- المشركون- لا قدرة لديكم على إضلال الأشخاص وخداعهم، إلاّ إذا كان اُولئك يتّجهون بإرادتهم نحو صراط الجحيم.
وعبارة (صالّ الجحيم) شاهد على الكلام المذكور أعلاه، لأنّ كلمة (صالي) جاءت بصيغة اسم الفاعل، وعندما تستخدم أي كلمة بصيغة اسم الفاعل بشأن موجود عاقل فإنّها تعطي مفهوم تنفيذ العمل بإرادته وإختياره، مثل (قاتل) و (جالس) و (ضارب)، إذن فإنّ (صالّ الجحيم) تعني رغبة الشخص في الإحتراق بنار جهنّم، وبهذا تغلق كافّة طرق الأعذار أمام كلّ المنحرفين.
والذي يثير العجب أنّ بعض المفسّرين المعروفين فسّروا الآية بالمعنى التالي: (إنّكم لا تستطيعون خداع أحد، إن لم يكن مقدّراً له الإحتراق بنار جهنّم).
إن كان حقّاً هذا هو معنى الآية، فلِمَ يبعث الأنبياء؟ ولأي سبب تنزل الكتب السماوية؟ وما معنى محاسبة ولوم وتوبيخ عبدة الأوثان يوم القيامة التي نصّت عليها الآيات القرآنية؟ وأين ذهب عدل الباري عزّوجلّ؟
نعم، يجب قبول هذه الحقيقة، وهي انّ الإقرار بمبدأ الجبر ضدّ مبدأ الأنبياء تماماً، ويمسخ كلّ المفاهيم التي بعثوا من أجل ترسيخها، ويقضي على كلّ القيم الإلهية والإنسانية.
ومن الضروري الإلتفات إلى هذه النقطة وهي أنّ (صالي) مشتقّة من (صلى) وتعني إشعال النار والدخول فيها أو الإحتراق بها و (فاتن) إسم فاعل مشتقّة من (فتنة) وتعني الذي يثير الفتن والذي يضلّ الآخرين.
بعد إنتهاء بحثنا حول الآيات الثلاث السابقة التي وضّحت مسألة إختيار الإنسان في مقابل فتن وإغراءات عبدة الأصنام، نواصل بحثنا حول الآيات الثلاث التالية والتي تتناول المرتبة العالية لملائكة الله، وتقول مخاطبة عبدة الأصنام: إنّ الملائكة التي كنتم تزعمون أنّها بنات الله لها مقام معيّن، والجميل في هذه العبارة أنّ الملائكة هي التي تتحدّث عن نفسها (وما منّا إلاّ له مقام معلوم)(2).
وتضيف ملائكة الرحمن: وإنّنا جميعاً مصطفون عند الله في إنتظار أوامره، (وإنّا لنحن الصافّون).
وإنّنا جميعاً نسبّحه، وننزّه عمّا لا يليق بساحة كبريائه (وإنّا لنحن المسبّحون).
نعم، نحن عباد الله، وقد وضعنا أرواحنا على الأكف بإنتظار سماع أوامره، إنّنا لسنا أبناء الله، إنّنا ننزّه الباري عزّوجلّ من تلك المزاعم الكاذبة والقبيحة وإنّنا منزعجين ومشمئزّين من خرافات وأوهام المشركين.
في الحقيقة، إنّ الآيات المذكورة أعلاه أشارت إلى ثلاث صفات من صفات الملائكة.
الاُولى: هي أنّ لكلّ واحد منهم مقام معيّن ومشخّص ليس له أن يتعدّاه.
والثانية: هي أنّهم مستعدّون دائماً لإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى وتنفيذها في عالم الوجود، وهذا الشيء مشابه لما ورد في الآيتين (26) و (27) من سورة الأنبياء (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون).
والثالثة: أنّهم يسبّحون الله دائماً وينزّهونه عمّا لا يليق بساحة كبريائه.
الآيتان (إنّا لنحن الصافّون وإنّا لنحن المسبّحون) تعطيان مفهوم الحصر في الأدب العربي، وبعض المفسّرين قالوا في تفسير هاتين الآيتين: إنّ الملائكة تريد أن تقول: نحن فقط المطيعون لأوامر الله والمسبّحون الحقيقيون له، وهذه إشارة إلى أنّ طاعة الإنسان لله تعالى وتسبيحه يعدّ لا شيء بالنسبة لطاعة وتسبيح الملائكة لله، ولا يمكن المقارنة بينهما.
والذي يلفت الإنتباه أنّ مجموعة من المفسّرين نقلوا في نهاية هذه الآيات حديثاً عن رسول الله (ص)، قال فيه: "ما في السموات موضع شبر إلاّ وعليه ملك يصلّي ويسبّح"(3).
وجاء في رواية اُخرى: "ما في السماء موضع قدم إلاّ عليه ملك ساجد أو قائم"(4).
وفي رواية ثالثة ورد أنّ رسول الله (ص) كان جالساً مع مجموعة من أصحابه، فقال لهم: "أطت السماء وحقّ لها أن تأط! ليس فيها موضع قدم إلاّ عليه ملك راكع أو ساجد، ثمّ قرأ: (وإنّا لنحن الصافّون وإنّا لنحن المسبّحون)"(5).
العبارات المختلفة كناية لطيفة عن أنّ عالم الوجود مكتّظ بالمطيعين لأوامر الله والمسبّحين له.
الآيات الأربع الأخيرة من هذا البحث تشير إلى أحد الأعذار الواهية التي تذرّع بها المشركون فيما يخصّ هذه القضيّة وعبادتهم للأصنام، وتجيب عليهم قائلة: (وإن كانوا ليقولون)(6).
(لو أنّ عندنا ذكراً من الأوّلين) (لكنّا عباد الله المخلصين).
يقول المشركون: لا تتحدّثوا كثيراً عن عباد الله المخلصين الذين أخلصهم الله لنفسه، وعن الأنبياء العظام أمثال نوح وإبراهيم وموسى، لأنّه لو كان الله قد شملنا بلطفه وأنزل علينا أحد كتبه السماوية لكنّا في زمرة عباده المخلصين.
وهذا مشابه لما يقوله الطلاب الكسالى الراسبون في دروسهم، من أجل التغطية على كسلهم وعدم مثابرتهم، لو كان لدينا معلّم واُستاذ جيّد لكنّا من الطلبة الأوائل.
الآية التالية تقول: لقد تحقّق ما كانوا يأملونه، إذ أنزل عليهم القرآن المجيد الذي هو أكبر وأعظم الكتب السماوية، إلاّ أنّ هؤلاء الكاذبين في إدّعاءاتهم كفروا به، ولم يفوا بما قالوا، واتّخذوا موقفاً معادياً إزاءه، فسيعلمون وبال كفرهم (فكفروا به فسوف يعلمون)(7).
كفاكم كذباً وإدّعاءً، ولا تعتقدوا أنّكم أكفّاء للإنضمام إلى صفوف عباد الله المخلصين، فكذبكم واضح، وإدّعاءاتكم غير صادقة، فليس هناك كتاب خير من القرآن المجيد، ولا يوجد هناك نهج تربوي خير من نهج الإسلام، فكيف كان موقفكم من هذا الكتاب السماوي؟ فانتظروا العواقب الأليمة لكفركم وعدم إيمانكم.
1- التركيب النحوي لهذه الآية والتي تسبقها والاُخرى التي تأتي بعدها، وكما هو مشهور كذلك، (ما) في جملة (ما تعبدون) هي (ما) الموصولة معطوفة على اسم أنّ، وجملة (ما أنتم عليه بفاتنين) خبرها. و (ما) في (ما أنتم) نافية، وضمير (عليه) يعود على الله سبحانه وتعالى، وفي مجموعها نحصل على ما يلي (إنّكم وآلهتكم التي تعبدونها لا تقدرون على إضلال أحد على الله بسببها إلاّ من يحترق بنار الجحيم بسوء إختياره).
والبعض الآخر إعتبر الآية (إنّكم وما تعبدون) كلاماً تامّاً مستقلا وتعني أنّكم وآلهتكم، ثمّ تقول في الآية التالية: ما أنتم بحاملين على عبادة ما تعبدونه إلاّ من هو صالّ الجحيم.
2- نقرأ في بعض الرّوايات التي نقلت عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الأئمّة المعصومين هم المقصودون في هذه الآية، ومن الممكن أن يكون هذا التّفسير من قبيل تشبيه مقام الأئمّة بالملائكة، أي كما أنّ للملائكة مقاماً وتكليفاً معيّناً، فإنّ لنا مقاماً وتكليفاً معيّناً أيضاً.
3- تفسير القرطبي، المجلّد 8، الصفحة 581.
4- المصدر السابق.
5- (الدرّ المنثور) نقلا عن تفسير الميزان المجلّد (17) الصفحة 188.
6- (إن) مخفّفة من الثقيلة وتقديرها (وإنّهم كانوا ليقولون).
7- في الكلام حذف تقديره (فلمّا آتاهم الكتاب وهو القرآن كفروا به فسوف يعلمون عاقبة كفرهم).