الآيات 139 - 148

﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(140)فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ(142) فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَـهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِين (146) وَأَرْسَلْنَــهُ إِلَى مِائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ(147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَـهُمْ إِلَى حِين (148)﴾

التّفسير

يونس في بوتقة الإمتحان:

الحديث هنا عن قصّة نبي الله "يونس" (ع) وقومه التائبين، والتي هي سادس وآخر قصّة تتناول قصص الأنبياء والاُمم السابقة، والذي يلفت النظر أنّ القصص الخمس التي تحدّثت عن قوم (نوح) و (إبراهيم) و (موسى وهارون) و (الياس) و (لوط) أشارت إلى أنّ تلك الأقوام لم تصغ لنصائح الأنبياء الذين بعثوا إليها وبقيت غارقة في نومها، فعمّها العذاب الإلهي، فيما أنقذ الله سبحانه وتعالى الأنبياء العظام الذين أرسلهم إلى تلك الأقوام مع القلّة القليلة ممّن اتّبعهم.

إلاّ أنّ قضيّة نبي الله يونس تنتهي أحداثها بشكل معاكس لما إنتهت إليه تلك القصص، إذ أنّ قوم يونس صحوا من غفلتهم وتابوا إلى الله فور مشاهدتهم دلائل العذاب الإلهي الذي سيحلّ لهم إن لم يؤمنوا، وأنّ الله شملهم بلطفه وأنزل عليهم بركاته الماديّة والمعنوية، وفي المقابل فإنّ نبي الله يونس إبتلي ببعض الإبتلاءات والمشاكل لأنّه تعجّل في ترك قومه وهجره إيّاهم، حتّى أنّ القرآن المجيد أطلق عليه كلمة (أبق) والتي تعني هرب العبد من مولاه!

وهذه القصّة بمثابة خطاب موجّه لمشركي قريش، وإلى كلّ البشر على طول التأريخ، جاء فيه: هل تريدون أن تكونوا كالأقوام الخمسة الماضية، أم كقوم يونس؟ وهل ترغبون في أن تكون عاقبتكم الشؤم والألم؟ أما ترغبون في أن تنتهي عواقبكم بخير وسعادة؟ اعلموا أنّ ذلك مرتبط بما تعزمون عليه.

على أيّة حال، فإن ذكر هذا النّبي العظيم وقصّته مع قومه، وردت في سور متعدّدة من سور القرآن المجيد (منها سورة الانبياء، ويونس، والقلم، وفي هذه السورة أي الصافات) وعكست كلّ واحدة منها جوانب من أوضاعه وحياته، وسورة "الصافات" هذه تسلّط الأضواء أكثر على قضيّة هرب يونس وإبتلاءه، ومن ثمّ نجاته من بطن الحوت.

في البداية، وكما تعوّدنا في القصص السابقة، فإنّ الحديث يكون عن مقام رسالته، إذ تقول الآية: (وإنّ يونس لمن المرسلين).

نبي الله "يونس" (ع) كسائر الأنبياء العظام بدأ بالدعوة إلى توحيد الله ومجاهدة عبدة الأصنام، ومن ثمّ محاربة الأوضاع الفاسدة التي كانت منتشرة في مجتمعه آنذاك، إلاّ أنّ قومه المتعصّبين الذين كانوا يقلّدون أجدادهم الأوائل رفضوا الإستجابة لدعوته.

إستمرّ يونس (ع) بوعظ قومه بقلب حزين لأجلهم، مريداً لهم الخير وكأنّه أب رحيم لهم، في حين كانوا يواجهون منطقه الحكيم بالسفسطة والمغالطة، عدا مجموعة قليلة منهم، يحتمل أن لا تتعدّى الشخصين (أحدهما يسمّى بالعابد والثاني بالعالم) آمنت برسالته.

وبعد فترة طويلة من دعوته إيّاهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأصنام، يئس يونس من هدايتهم، وكما جاء في بعض الروايات، فإنّ يونس (ع) قرّر طبقاً لإقتراح الرجل العابد، مع ملاحظة أوضاع وأحوال قومه الضالّين، قرّر الدعاء عليهم(1).

وبالفعل فقد دعا عليهم، فنزل عليه الوحي وحدّد له وقت حلول العذاب الإلهي بهم، ومع حلول موعد نزول العذاب، رحل يونس- بمعيّته الرجل العابد- عن قومه وهو غاضب عليهم، ووصل إلى ساحل البحر، وشاهد سفينة عند الساحل غاصّة بالركاب فطلب منهم السماح له بالصعود إليها.

وهذا ما أشارت إليه الآية التالية، حيث قالت: (إذ أبق إلى الفلك المشحون).

كلمة "أبق" مشتقّة من (إباق) والتي تعني فرار العبد من سيّده، إنّها لعبارة عجيبة، إذ تبيّن أن ترك العمل بالاُولى من قبل الأنبياء العظام ذوي المقام الرفيع عند الله، مهما كان بسيطاً فإنّه يؤدّي إلى أن يتّخذ الباري عزّوجلّ موقفاً معاتباً ومؤنّباً للأنبياء، كإطلاق كلمة (الآبق) على نبيّه.

ومن دون أي شكّ فإنّ نبي الله يونس (ع)، معصوم عن الخطأ، ولكن كان الأجدر به أن يتحمّل آلاماً اُخرى من قومه، وأن يبقى معه حتّى اللحظات الأخيرة قبل نزول العذاب، عسى أن يستيقظوا من غفلتهم ويتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى.

حقّاً إنّه دعا قومه إلى توحيد الله أربعين عاماً- وفق ما ورد في بعض الروايات- ولكن كان من الأجدر به أن يضيف عدّة أيّام أو عدّة ساعات إلى ذلك الوقت ببقائه معهم، لذلك فعندما ترك قومه وهجرهم شبهه القرآن بالعبد الآبق.

ووفق ما ورد في الرّوايات، فقد صعد يونس (ع) إلى السفينة، ثمّ إنّ حوتاً ضخماً وقف أمام السفينة، فاتحاً فمه وكأنّه يطلب الطعام، فقال ركاب السفينة أنّ هناك شخصاً مذنباً معنا يجب أن يكون طعام هذا الحوت، ولم يجدوا سبيلا سوى الإقتراع لتحديد الشخص الذي يرمى للحوت، وعندما إقترعوا خرج اسم يونس، وطبقاً للرواية فإنّهم اقترعوا ثلاث مرّات وفي كلّ مرّة كان يخرج اسم يونس (ع)، فأمسكوا بيونس وقذفوه في فم الحوت العظيم، وقد أشار القرآن المجيد في آية قصيرة إلى هذه الحادثة، قال تعالى: (فساهم فكان من المدحضين).

"ساهم" في مادّة (سهم) وتعني إشتراكه في الإقتراع، فالإقتراع تمّ على ظهر السفينة بالشكل التالي، كتبوا اسم كلّ راكب على (سهم) ثمّ خلطوا الأسهم وسحبوا سهماً واحداً، فخرج السهم الذي يحمل اسم يونس (ع).

(مدحض) مشتقّة من (دَحْض) وتعني إبطال مفعول الشيء أو إزالته أو التغلّب عليه، والمراد هنا أنّ إسمه ظهر في عملية الإقتراع من بين بقيّة الأسماء.

وورد بهذا الشأن تفسير آخر يقول: إنّ إعصاراً هبّ في البحر عرض السفينة ومن فيها من الركّاب للخطر بسبب ثقل حمولتها، ولم يكن لهم سبيل للنجاة سوى تخفيف وزن السفينة من خلال إلقاء بعض ركّابها في وسط البحر، وعندما اقترعوا على من يرمونه في الماء خرج اسم يونس، وبعد رميه في البحر إبتلعه حوت عظيم.

وقال القرآن الكريم: (فالتقمه الحوت وهو مليم) أي إنّ حوتاً عظيماً التقمه وهو مستحقّ للملامة.

"التقم" مشتقّة من (الإلتقام) وتعني (البلع).

(مليم) من مادّة (لوم) وتعني التوبيخ والعتب (وعندما تأتي بصفة الفعل فإنّها تعطي معنى إستحقاق الملامة).

ومن المسلّم أنّ هذه الملامة لم تكن بسبب إرتكابه ذنباً كبيراً أو صغيراً وإنّما بسبب تركه العمل بالأولى، وإستعجاله في ترك قومه وهجرانهم.

وبعد بلعه من قبل الحوت أعطى الله سبحانه وتعالى أمراً تكوينياً إلى الحوت أن لا تلحق الأذى بيونس، إذ أنّ عليه أن يقضي فترة في السجن الذي لم يسبق له مثيل، كي يدرك تركه العمل بالأولى، ويسعى لإصلاحه.

وورد في إحدى الرّوايات أنّ "أوحى الله إلى الحوت: لا تكسر منه عظماً ولا تقطع له وصلا"(2).

يونس (ع) إنتبه بسرعة للحادث، وتوجّه على الفور إلى الله سبحانه وتعالى وتكامل وجوده مستغفراً الله على تركه العمل بالأولى، وطالباً العفو منه.

ونقلت الآية (87) في سورة الأنبياء صورة توجّه يونس (ع) بالدعاء الذي يسمّيه أهل العرفان باليونسية، قال تعالى: (فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين).

أي إنّه نادى من بطن الحوت بأن لا معبود سواك، وأنّني كنت من الظالمين، إذ ظلمت نفسي وإبتعدت عن باب رحمتك.

إعتراف يونس الخالص بالظلم، وتسبيحه الله المرافق للندم أدّى مفعوله، إذ إستجاب الله له وأنقذه من الغمّ، كما جاء في الآية (88) من سورة الأنبياء، (فاستجبنا له ونجّيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين).

ونلاحظ الآن ماذا تقول الآيات بشأن يونس (ع)، قال تعالى: (فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) أي لو لم يكن من المسبّحين لأبقيناه في بطن الحوت حتّى يوم القيامة، ويعني تبديل سجنه المؤقّت إلى سجن دائم، ومن ثمّ تبديل سجنه الدائم إلى مقبرة له.

وبخصوص بقاء يونس في بطن الحوت حتّى يوم القيامة (على فرض أنّه ترك تسبيح الله والتوبة إليه) فهل أنّه يعني بقاءه حيّاً أم ميّتاً، المفسّرون ذكروا بهذا الشأن إحتمالات متعدّدة منها:

أوّلا: بقاء الإثنين- أي يونس والحوت- أحياء، ويونس يبقى إلى يوم القيامة مسجوناً في بطن الحوت.

ثانياً: وفاة يونس، وبقاء الحوت حيّاً بإعتباره قبراً متحركاً لجثّة يونس.

ثالثاً: وفاة الإثنين، وهنا يكون بطن الحوت قبراً ليونس، والأرض قبراً للحوت، حيث يدفن في قلب الحوت، والحوت يدفن في باطن الأرض إلى يوم القيامة.

الآية مورد البحث لا تدلّ على أي من الإحتمالات التي ذكرناها، فهناك آيات عديدة في القرآن الكريم تؤكّد موت الجميع في آخر الزمان، لذا فإنّ بقاء يونس أو الحوت أحياء حتّى يوم القيامة غير ممكن، وبهذا يعدّ الإحتمال الثالث أقرب الإحتمالات إلى الواقع(3).

وهناك إحتمال آخر يقول: إنّ هذه العبارة هي كناية عن طول المدّة، وتعني أنّه سيبقى لمدّة طويلة في هذا السجن.

ولا ننسى أنّ هذه الاُمور كان يمكن أن تتحقّق لو أنّه كان قد ترك تسبيح الله والتوبة إليه، ولكن الذي حدث أنّ تسبيحه وتوبته جعلاه مشمولا بالعفو الإلهي.

ويضيف القرآن، وقد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتا، وهو مريض (فنبذناه بالعراء وهو سقيم).

فالحوت الضخم لفظ يونس- الذي لم يكن غذاءً صالحاً لذلك الحوت- على ساحل خال من الزرع والنبات، والواضح أنّ ذلك السجن العجيب أثر على سلامة وصحّة جسم يونس، إذ أنّه تحرّر من هذا السجن وهو منهار ومعتل.

إنّنا لا نعلم كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت، فمن المسلّم به أنّه لا يمكن تجنّب المؤثّرات هناك مهما كانت الفترة الزمنية التي قضاها في بطن الحوت، صحيح أنّ الأمر الإلهي كان قد صدر في أن لا يهضم يونس داخل بطن الحوت، ولكن هذا لا يعني أن لا يتأثّر بعض الشيء بمؤثّرات ذلك السجن، لذا فقد كتب بعض المفسّرون أنّ يونس خرج من بطن الحوت وكأنّه فرخ دجاجة ضعيف وهزيل جدّاً لا يمتلك القدرة على الحركة.

مرّة اُخرى شمله اللطف الإلهي، لأنّ جمسه كان مريضاً ومتعباً، وكلّ عضو من أعضاء جسمه كان مرهقاً وعاجزاً، وكانت حرارة الشمس تؤذيه، فيحتاج إلى ظلّ لطيف يظلّل جسده. والقرآن هنا يكشف عن هذا اللطف الإلهي بالقول، إنّنا أنبتنا عليه شجرة قرع ليستظلّ بأوراقها العريضة والرطبة (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين).

(اليقطين) تعني- كما قال أصحاب اللغة والتّفسير- كلّ نبات لا ساق له وله أوراق كبيرة، مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار وما يشابهها. ولكن الكثير من المفسّرين ورواة الحديث أعلنوا بأنّ المقصود من (اليقطين) هو (القرع)، والذي يجب الإلتفات إليه أنّ كلمة "الشجرة" في اللغة العربية تطلق على النباتات التي لها ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان، وبعبارة اُخرى: تشمل كلّ الأشجار والنباتات، ونقلوا حديثاً لرسول الله (ص)، قالوا فيه: إنّ شخصاً سأل رسول الله (ص): إنّك تحبّ القرع؟ فأجاب رسول الله (ص): "أجل هي شجرة أخي يونس"(4).

وقيل: إنّ أوراق شجرة القرع، إضافةً إلى أنّها كانت كبيرة ورطبة جدّاً ويمكن الإستفادة منها كظلّ جيّد، فإنّ الذباب لا يتجمّع حول هذه الأوراق، ولهذا فإنّ يونس (ع) التصق بتلك الأوراق كي يرتاح من حرقة الشمس ومن الحشرات في

نفس الوقت، إذ أنّ بقاءه في داخل بطن الحوت أدّى إلى أن يصبح جلده رقيقاً جدّاً وحسّاساً، بحيث يتألّم إن استقرّت عليه حشرة.

ويحتمل أنّ الباري عزّوجلّ يريد من هذه المرحلة إكمال الدرس الذي أعطاه ليونس في بطن الحوت، إذ كان عليه أن يحسّ بتأثير حرارة الشمس على جلده الرقيق، كي يبذل جهداً وسعياً أكثر- عندما يتسلّم القيادة في المستقبل- لإنقاذ اُمّته من نار جهنّم، وقد ورد هذا المضمون في روايات متعدّدة(5).

نترك الحديث عن يونس ونعود إلى قومه، فبعد أن ترك يونس قومه وهو غضبان، ظهرت لقومه دلائل تبيّن لهم قرب موعد الغضب الإلهي، هذه الدلائل هزّت عقولهم بقوّة وأعادتهم إلى رشدهم، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم) الذي كان آمن بيونس وما زال موجوداً في المدينة، واتّخاذه قائداً لهم ليرشدهم إلى طريق التوبة.

وورد في روايات اُخرى أنّهم خرجوا إلى الصحراء، وفرّقوا بين المرأة وطفلها، وحتّى بين الحيوانات وأطفالها، وجلسوا يبكون وينتحبون بأعلى أصواتهم، داعين الله سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبّل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتّباعهم نبي الله يونس.

وهنا أزاح الله عنهم سُحُب العذاب وأنزلها على الجبال، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بلطف الله(6).

بعد هذا عاد يونس إلى قومه ليرى ماذا صنع بهم العذاب الإلهي؟ ولكن ما إن عاد إلى قومه حتّى فوجىء بأمر أثار عنده الدهشة والعجب، وهو أنّه ترك قومه في ذلك اليوم يعبدون الأصنام، وهم اليوم يوحّدون الله سبحانه.

القرآن يقول هنا: (وأرسلناه إلى مائة الف أو يزيدون) كانوا قد آمنوا بالله، واُغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدّة معيّنة، (فآمنوا فمتّعناهم إلى حين).

وبالطبع فإنّهم بعد توبتهم كانوا يتمتّعون بإيمان بسيط، وقد إزداد بعد عودة يونس إليهم، أي إزداد إيمانهم بالله وبرسوله يونس، وأخذوا ينفّذون تعليماته وأوامره.

ويتبيّن من آيات القرآن الكريم أنّ يونس (ع) بعث من جديد إلى قومه السابقين، أمّا الذين قالوا: إنّه بعث إلى قوم آخرين، فقولهم لا يتناسب مع ظاهر الآيات.

لأنّنا نقرأ من جهة قوله تعالى: (فآمنوا فمتّعناهم إلى حين) يعني أنّ القوم الذين بعثنا إليهم يونس كانوا قوماً مؤمنين، وأنّنا قد أغدقنا عليهم النعم لمدّة محدودة. ومن جهة اُخرى، فقد ورد نفس هذا التعبير في سورة يونس بشأن قومه السابقين، وذلك في الآية (98) (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتّعناهم إلى حين).

ومن هنا يتّضح أنّ المراد من (إلى حين) هو لفترة معيّنة، أي إلى نهاية حياتهم وحلول أجلهم الطبيعي.

سؤال يطرح نفسه: لماذا قالت الآية المذكورة أعلاه: (مائة ألف أو يزيدون)؟ وما المقصود من يزيدون أي عدد بعد المئة ألف؟ المفسّرون أعطوا تفسيرات مختلفة لها، ولكن الظاهر أنّ مثل هذه العبارات تأتي لتأكيد شيء ما، وإعطائه هالة من العظمة، وليس لخلق حالة من الترديد والشكّ(7).

بحوث

1- عرض موجز لحياة يونس(ع):

(يونس) بن (متى) ويلقّب بـ (ذي النون) أي صاحب الحوت، وقد اُعطي هذا اللقب لأنّ قصّته إرتبطت بالحوت، وهو من المعروفين، وعلى الظاهر أنّه ولد بعد موسى وهارون.

وقال البعض: إنّه من أولاد (هود) وقد كلّف من قبل الباري عزّوجلّ بهداية من تبقّى من قوم ثمود.

والمنطقة التي بعث إليها كانت إحدى مناطق العراق وتسمّى (نينوى)(8).

وقال البعض: إنّ بعثته كانت قبل ولادة المسيح (ع) بحوالي (825) عاماً، وحالياً هناك قبر قرب مدينة الكوفة على ضعاف النهر يعرف بقبر (يونس).

وجاء في بعض الكتب أنّ يونس كان من أبناء بني إسرائيل وبعث إلى أهل نينوى بعد سليمان. وقد شرح كتاب (يوناه) أحد كتب التوراة العهد القديم في بحوث مفصّلة حياة النّبي يونس وتحت عنوان (يوناه بن متى). وطبقاً لما جاء في هذا الكتاب، فإنّ يونس كان مكلّفاً بالذهاب إلى مدينة (نينوى) الكبيرة، ومجابهة شرور الطغاة هناك.

ثمّ تذكر التوراة حوادث اُخرى، تشبه كثيراً ما جاء في القرآن، مع وجود إختلاف، وهو أنّ الروايات الإسلامية تقول: إنّ يونس دعا قومه إلى التوحيد ونفّذ ما أُوكل إليه في هذا المجال، وبعد أن رفض قومه دعوته دعا عليهم وتركهم وحصل له ما حصل في حادثة السفينة والحوت، ولكن التوراة ذكرت عبارة غير مقبولة، إذ قالت: إنّ يونس طلب قبل بعثه إلى قومه أن يعفى من هذه المهمّة، ولهذا توقّف عن الدعوة وإنهزم وحصلت له حادثة السفينة والحوت.

والذي يثير العجب أكثر أنّ التوراة تقول: إنّ يونس تألّم وغضب كثيراً عندما أزال الله سبحانه وتعالى العذاب عن قومه بعد ما أعلنوا توبتهم(9).

وجاء في أحد فصول التوراة- أيضاً- أنّ يونس بعث مرّتين، إمتنع في الاُولى وابتلي بذلك المصير المؤلم، وفي المرّة الثانية بعث أيضاً إلى المدينة (نينوى) نفسها، وكان أهلها قد تيقّظوا من غفلتهم وآمنوا بالله، وتابوا إليه وشملهم العفو الإلهي، ذلك العفو الذي لم يفرح قلب يونس.

وبمقارنة ما جاء في القرآن المجيد والروايات الإسلامية مع ما جاء في كتاب التوراة الحالي يتّضح إلى أي درجة تحطّ (التوراة المحرّفة) من شأن نبي الله يونس، فأحياناً ينسب إليه عدم قبوله حمل الرسالة التي كلّف بها، وأحياناً غضبه وسخطه على قرار الله سبحانه وتعالى بشمول قومه التائبين بالعفو والرحمة. وهذا يدلّ على أنّ التوراة الحالية كتاب لا يمكن الإعتماد عليه بأي شكل من الأشكال.

على أيّة حال، فإنّ يونس من الأنبياء الكبار الذين ذكرهم القرآن بأحسن وأفضل الذكر.

2- كيف بقي يونس حيّاً في بطن الحوت؟

قلنا: إنّه ليس هناك دليل واضح يبيّن كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت؟ هل أنّها كانت عدّة ساعات أم عدّة أيّام أم عدّة أسابيع؟

فقد ورد في بعض الروايات أنّه أمضى (تسع) ساعات في بطن الحوت، فيما قالت روايات اُخرى: إنّه أمضى ثلاثة أيّام، وأكّدت اُخرى أنّه أمضى أكثر، حتّى أنّ البعض قال: إنّه أمضى (40) يوماً في بطن الحوت.

ولكن لا يوجد لدينا دليل ثابت على أي من هذه الأقوال.

وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم نقلا عن حديث لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، أنّ يونس أمضى (تسع) ساعات في بطن الحوت(10).

وقال بعض المفسّرين من أهل السنّة: إنّ المدّة التي أمضاها يونس في بطن الحوت كانت ساعة واحدة فقط(11).

وكم كانت المدّة؟ فإنّ مثل هذا الأمر- من دون أي شكّ- يعدّ أمراً غير عادي، حيث أنّ الإنسان لا يستطيع أن يبقى حيّاً لعدّة دقائق في محيط فارغ من الهواء، وإذا رأينا أنّ الجنين يعيش عدّة أشهر في بطن اُمّه حيّاً، فإنّما ذلك بسبب عدم عمل أجهزته التنفسّية وحصوله على الأوكسجين اللازم عن طريق دم والدته.

ووفقاً لهذا فإنّ ما جرى ليونس إنّما هو معجزة من دون أي شكّ، وهذه ليست المعجزة الاُولى التي نصادفها في القرآن المجيد، فالباري عزّوجلّ- الذي حفظ إبراهيم (ع) في وسط النار، وأنقذ موسى وبني إسرائيل من الغرق بعد أن أوجد لهم طريقاً يابساً وسط البحر، وخلّص نوحاً من الطوفان العظيم بواسطة سفينة بسيطة ليهبط من بعد على الأرض اليابسة بسلام- قادر على حفظ عبد من عباده المخلصين مدّة من الزمن في بطن الحوت.

وبالطبع فإنّ وجود مثل تلك الحيتان الكبيرة في الماضي والحاضر لا يعدّ أمراً عجيباً، إذ يوجد حالياً نوع من أنواع الحيتان يطلق عليه اسم (بالن) طوله أكثر من (30) متراً ويعدّ أكبر حيوان على وجه الأرض، وقلبه يزن طنّاً واحداً.

في هذه السورة طالعنا قصص الأنبياء السابقين الذين نجوا بإعجاز من قبضة البلاء، ويونس كان آخرهم في هذه السلسلة.

3- دروس وعبر كبيرة في قصص صغيرة:

وكما نعرف، فإنّ إستعراض القرآن لهذه القصص يهدف إلى تربية الإنسان، لأنّ القرآن ليس كتاب قصص وإنّما هو كتاب هدفه بناء الإنسان وتربيته.

من هذه القصّة العجيبة يمكن إستخلاص الكثير من المواعظ والعبر:

أ- ترك النّبي للعمل بالأولى يعدّ أمراً مهمّاً عند الله، ويؤدّي إلى مجازاة ذلك النبي، لأنّ مرتبة الأنبياء عالية جدّاً، وأبسط غفلة منهم تعادل ذنباً كبيراً يرتكبه عوام الناس، ولهذا السبب أطلق الله سبحانه وتعالى تسمية (الآبق) على عبده يونس في هذه الآية، والتي تعني العبد الهارب.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ ركّاب السفينة كانوا يقولون: هناك شخص عاص بيننا!

وعاقبة الأمر أنّ الباري عزّوجلّ إبتلاه بسجن رهيب، ثمّ أنقذه منه بعد أن تاب وعاد إلى الله، وكان منهار القوى مريضاً.

ذلك ليعرف الجميع أنّ التواني غير مقبول من أي أحد، فعظمة مرتبة أنبياء وأولياء الله إنّما يحصلون عليها من طاعتهم الخالصة لأوامر الله سبحانه وتعالى، وإلاّ فالله لا تربطه صلة قربى مع أي أحد، وإنّ الموقف الحازم الذي اتّخذه الله تجاه عبده يونس يوضّح عظمة مرتبة هذا النّبي الكبير.

ب- أحداث هذه القصّة (وخاصّة ما ورد في الآية (87) من سورة الأنبياء) كشفت عن سبيل نجاة المومنين من الغمّ والحزن والإبتلاءات والمشاكل، وهو نفس السبيل الذي إنتهجه يونس، وهو إعترافه بخطئه أمام الله وتسبيحه الله وتنزيهه والعودة إليه.

ج- هذه القصّة توضّح كيف أنّ قوماً مذنبين مستحقّين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التأريخية، بعودتهم إلى أحضان الرحمة الإلهيّة، وإنقاذ أنفسهم من العذاب، وهذا مشروط بالصحوة من غفلتهم قبل فوات الأوان، وإنتخاب شخص "عالم" قائداً لهم.

د- هذه الحادثة تبيّن أنّ الإيمان بالله والتوبة من الذنوب علاوة على أنّها تتسبّب في نزول الآثار والبركات المعنوية، فهي توجد النعم والهبات الدنيوية وتجعلها في إختيار الإنسان، وتوجد حالة من العمران والبناء، وتطيل الأعمار، ونظير هذا المعنى ورد أيضاً في قصّة نوح (ع) والذي سنقرأ شرحه بعون الله في تفسير سورة نوح.

هـ- أخيراً فإنّ مجريات هذه القصّة تستعرض قدرة الباري عزّوجلّ العظيمة التي لا يقف أمامها شيء ولا يصعب عليها شيء، إلى درجة تستطيع حفظ حياة إنسان في فم وجوف حيوان كبير وحشي، وإخراجه سالماً من هناك، هذا الأمر يبيّن أنّ كلّ ما هو موجود في هذا الكون هو أداة بيده تعالى ومسخّر لأوامره.

4- الجواب على سؤال:

هنا يطرح هذا السؤال: عند بيان قصص الأقوام الاُخرى في القرآن المجيد، نلاحظ أنّه عند نزول العذاب عليهم (عذاب الإستئصال الذي كان ينال كلّ الأقوام الطاغية والمتجبّرة) لا تكون التوبة مقبولة والإنابة مؤثّرة، فكيف استثني قوم يونس من هذا الأمر؟

هناك إجابتان على هذا السؤال:

الاُولى: هي أنّ العذاب لم يكن قد نزل بهم، لأنّهم بمجرّد أن شاهدوا دلائل بسيطة تنذر بالعذاب، استغلّوا هذه الفرصة وآمنوا بالله وتابوا إليه قبل حلول البلاء.

الثانية: أنّ عذابهم لم يكن لإهلاكهم، وإنّما كان بمثابة تنبيه وتأديب لهم قبل نزول العذاب المهلك، وهو الاُسلوب الذي كان يتّبع مع الأقوام السابقة، أي تظهر لهم بعض دلائل العذاب كآخر فرصة لهم، فإن آمنوا كفّ الله عنهم العذاب، وإن بقوا على طغيانهم أنزل الله العذاب عليهم ليهلكهم عن آخرهم، كما عذّب قوم فرعون بمختلف أنواع العذاب قبل أن يغرقهم الله في البحر.

5- القرعة ومشروعيتها في الإسلام:

وردت أحاديث متعدّدة بشأن القرعة ومشروعيتها في الإسلام، فعن الإمام الصادق (ع) "أي قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى الله، أليس الله عزّوجلّ يقول: (فساهم فكان من المدحضين)"(12).

وهذا إشارة إلى أنّ القرعة هي طريق الحلّ الصحيح في حالة إستعصاء أمر ما وعدم وجود طريق آخر لحلّه، وتفويض الأمر لله كما جاء في قصّة يونس حيث إنطبقت تماماً مع الواقع.

وهذا المعنى ورد بصراحة في حديث لرسول الله (ص)، قال فيه: "ليس من قوم تنازعوا (تقارعوا) ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلاّ خرج لهم المحقّ"(13).

ومن يريد الإطلاع أكثر على هذه المسألة فليراجع كتاب القواعد الفقهيّة (للمؤلّف).


1- تفسير البرهان، المجلّد 4، صفحة 35.

2- تفسير الفخر الرازي، المجلّد 26، الصفحة 165، كما ورد نفس المعنى مع إختلاف بسيط في تفسير البرهان، المجلّد 4، الصفحة 37.

3- الملفت للنظر أنّ المفسّر الكبير العلاّمة (الطبرسي) الذي غالباً ما يجمع الآراء المختلفة في ذيل الآيات، إقتنع هنا بإيراد إحتمال واحد فقط، والذي يقول (لصار بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة).

4- روح المعاني، المجلّد 7، الصفحة 489.

5- تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 436، الحديث 116.

6- نقل صاحب تفسير البرهان، وفي المجلّد 4، الصفحة 35 هذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام).

7- لهذا فإنّ (أو) هنا تأتي بمعنى، (بل).

8- نينوى، اسم عدّة مناطق; الاُولى: مدينة قرب الموصل، والاُخرى في ضواحي الكوفة في جهة كربلاء، ومدينة في آسيا الصغرى، عاصمة مملكة آشور وتقع عاى ضفاف نهر دجلة (دائرة المعارف ده خدا) والبعض الآخر قال: إنّ نينوى هي أكبر مدن مملكة آشور الواقعة في الضفّة الشرقية لنهر دجلة وقد بنيت مقابل الموصل (معجم قصص القرآن).

9- (التوراة) كتاب (النّبي يوناه) الفصل الأوّل والثاني والثالث والرابع.

10- تفسير علي بن إبراهيم، وفقاً لما ورد في نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 436.

11- تفسير القرطبي، المجلّد 8، الصفحة 567.

12- تفسير البرهان، المجلّد 4، الصفحة 37 الحديث 6.

13- (الوسائل) كتاب القضاء، المجلّد 18، باب الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة في أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى (الباب 13) الحديث (5).