الآيات 133 - 138
﴿وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَـهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَـبِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الاَْخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَـمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (138)﴾
التّفسير
تدمير قوم لوط:
"لوط" هو خامس نبي يذكر إسمه في هذه السورة ضمن تسلسل الآيات التي تحدّثت بصورة مختصرة عن تأريخه لإستمداد العبر منه.
وطبقاً لما جاء في آيات القرآن بشأن لوط، يتّضح أنّه كان معاصراً لإبراهيم(ع)، وأنّه من أنبياء الله العظام، وذلك ما جاء في الآية (26) من سورة العنكبوت والآية (74) من سورة هود.
وقد ورد اسم "لوط" كثيراً في آيات القرآن الكريم، وتكرّر البحث في القرآن بشأنه هو وقومه عدّة مرّات، قومه المنحرفون الذين كشف القرآن الكريم (الآيات 167 إلى 173 من سورة الشعراء، وفي الآيات 70 إلى 83 من سورة هود، وفي الآيات 54 إلى 58 من سورة النمل وغيرها من السور) عن المصير الأليم الذي حلّ بهم.
بحثنا يبدأ بقوله تعالى: (وإنّ لوطاً لمن المرسلين).
وبعد هذا البيان الإجمالي يعمد القرآن إلى التفصيل ويبيّن جوانب من قصّة لوط، حيث قال: تذكر تلك الفترة الزمنية التي أنقذنا فيها لوطاً وأهله (إذ نجّيناه وأهله أجمعين).
عدا زوجته العجوز التي جعلناها مع من بقي في العذاب (إلاّ عجوزاً في الغابرين)(1).
(ثمّ دمّرنا الآخرين).
الجمل القصيرة- التي وردت أعلاه- تشير إلى تأريخ قوم لوط المليء بالحوادث، والتي ورد شرحها في سور (هود) و (الشعراء) و (العنكبوت).
"لوط" كسائر الأنبياء بدأ دعوته بتوحيد الله، ثمّ عمد إلى الجهاد ضدّ الفساد الموجود في المجتمع المحيط به، خاصّة ذلك الإنحراف الخلقي المعروف باللواط، والذي ظلّ كوصمة عار لقوم لوط على طول التاريخ.
فهذا النّبي العظيم عانى المرارة مع قومه، وبذل كلّ ما يمتلك من جهد لإصلاح قومه المنحرفين، ومنعهم من الإستمرار في ممارسة عملهم القبيح، ولكن جهوده لم تسفر عن شيء. وعندما شاهد أنّ أفراد قلائل آمنوا به، قرّر إنقاذ نفسه وإنقاذهم من المحيط الفاسد الذي يعيشون فيه.
وفي نهاية الأمر فقد لوط الأمل في إصلاح قومه وعمد إلى الدعاء عليهم، حيث طلب من الله سبحانه وتعالى إنقاذه وعائلته، فإستجاب الباري عزّوجلّ لدعائه وأنقذه وعائلته مع تلك الصفوة القليلة التي آمنت به، عدا زوجته العجوز التي لم ترفض فقط التمسّك بالتعليمات التي جاء بها، وإنّما عمدت- أحياناً- إلى تقديم العون لأعدائه.
وقد عذّب الله قوم لوط بأشدّ العذاب، إذ خسف بهم الأرض ثمّ أمطر عليهم حجارة من سجّيل، ليهلكوا عن آخرهم، وتمحى أجسادهم من الوجود أيضاً.
وباعتبار أنّ هذه الآيات كانت مقدّمة لإيقاظ الغافلين والمغرورين، فقد أضاف القرآن الكريم (وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين). أي إنّكم تمرّون في كلّ صباح بجانب ديارهم الخربة من جرّاء العذاب.
كما تمرّون من هناك في الليل أفلا تعقلون؟ (وبالليل أفلا تعقلون).
هذه الآيات تخاطب قوافل أهل الحجاز التي كانت تذهب ليلا ونهاراً إلى بلاد الشام عبر مدن قوم لوط، وتقول: لو كان لهم آذان حيّة لسمعوا الصراخ المذهل والعويل المفزع لهؤلاء القوم المعذّبين.
لأنّ آثار ديار قوم لوط الخربة تحكي بصمت دروساً كبيرة لكلّ المارّين من هناك، وتحذر من الإبتلاء بمثل هذا العذاب.
نعم، إنّه درس ما أكثر العبر فيه، ولكن المعتبرين منه قليل "ما أكثر العبر وأقلّ الإعتبار"(2).
ونظير هذا المعنى موجود في الآية (76) من سورة الحجر، والتي تقول بعد بيان قصّة قوم لوط (وإنّها لبسبيل مقيم) أي إنّ آثارهم تقع دائماً في طريق القوافل والمشاة المارّين من هناك.
وفسّرت رواية عن الإمام الصادق (ع) الآية بشكل آخر، فعندما سأله أحد أصحابه عن معنى الآية (وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون)أجاب الإمام الصادق قائلا: "تمرّون عليهم في القرآن إذا قرأتم في القرآن فاقرؤوا ما قصّ الله عليكم من خبرهم"(3).
هذا التّفسير قد يكون إشارة إلى تفسير ثان، على أيّة حال فالجمع بين التّفسيرين لا ضرر فيه، لأنّ آثار قوم لوط الباقية شاخصة للأبصار، إضافةً إلى أنّ آيات القرآن الكريم تتطرّق لأخبار قوم لوط والعذاب الذي نزل عليهم.
1- (غابر) من مادّة (غبور) على وزن (عبور) وتعني بقايا الشيء، فعندما تتحرّك مجموعة من مكان ما ويبقى أحد أفرادها هناك يقال له (غابر) ولهذا السبب يقال لما يتبقّى من التراب (غبار)، ولما تبقّى من الحليب في الثدي (غبرة) على وزن (لقمة).
2- نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 297.
3- روضة الكافي، نقلا عن نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 432.