الآيات 123 - 132

﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ (124)أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَـلِقِينَ (125) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآئِكُمُ الاَْوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَُمحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُـخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاَْخِرِينَ (129) سَلَـمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ(130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُـحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)﴾

التّفسير

النّبي إلياس ومواجهته للمشركين:

القصّة الرابعة في هذه السورة إستعرضت بصورة مختصرة حياة نبي الله (إلياس)، يقول تعالى: (وإنّ إلياس لمن المرسلين).

الحديث حول "إلياس" وخصوصياته ونسبه وحياته سيأتي لاحقاً في آخر هذه الآيات- إن شاء الله.

ثمّ تبدأ الآيات بالتفصيل بعد الإجمال وتقول: واذكر عندما أنذر قومه (إذ قال لقومه ألا تتّقون).

أي اتّقوا الله واجتنبوا الشرك وعبادة الأصنام وإرتكاب الذنوب والمظالم، وكلّ ما يؤدّي بالإنسان إلى الباطل والفساد.

أمّا الآية التي تلتها فقد تحدّثت بصراحة أكثر (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين).

ومن هنا يتّضح أنّ قومه كانوا يعبدون صنماً إسمه (بعل) ويسجدون له، وأنّ هذا النّبي كان يدعوهم إلى ترك هذا العمل القبيح، والتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون العظيم وتوحيده وعبادته.

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ إلياس كان مبعوثاً إلى مدينة "بعلبك" إحدى مدن بلاد الشام(1) لأنّ (بعل) هو اسم ذلك الصنم و (بك) تعني مدينة، ومن تركيب هاتين الكلمتين نحصل على كلمة (بعلبك) وقيل: إنّ الصنم (بعل) كان مصنوعاً من الذهب وطوله حوالي (20) ذراعاً وله أربعة أوجه، وخدمته كانوا (400) شخصاً(2).

ولكن البعض ذهبوا إلى أنّ (بعل) ليس إسماً لصنم معيّن، بل يطلق بصورة عامّة على الأصنام، فيما قال البعض الآخر: إنّها تعني (الربّ والمعبود). وقال (الراغب) في مفرداته: إنّ كلمة "بعل" تعني (الزوج) أمّا العرب فتطلقها على الأصنام التي تعبدها والتي بواسطتها يقربون إلى الله سبحانه وتعالى على حدّ زعمهم.

وعبارة (أحسن الخالقين) رغم أنّها تشير إلى أنّ الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون ولا يوجد خالق سواه، فهي تشير أيضاً حسب الظاهر إلى الأشياء المصنوعة، أي التي يصنعها الإنسان بعد أن يغيّر شكل المواد الطبيعية، ومن هنا سمّي بالخالق، رغم أنّه تعبير مجازي.

على أيّة حال، فقد عمد إلياس إلى توبيخ قومه بشدّة، وقال لهم: (الله ربّكم وربّ آبائكم الأوّلين).

إذ أنّ الله مالككم ومربّيكم، وكلّ نعمة عندكم فهي منه، وأي مشكلة عندكم تتيسر بقدرته، فغيره، لا يعدّ مصدراً للخير والبركة، ولا يمكنه دفع الشرّ والبلاء عنكم.

الظاهر هنا أنّ المشركين في زمان إلياس، قالوا- كما قال المشركون في زمان نبيّنا محمّد (ص)- إنّنا نتّبع سنن أجدادنا الأوّلين، فأجابهم إلياس (ع) بقوله: (الله ربّكم وربّ آبائكم الأوّلين).

وإستخدام كلمة (ربّ) هنا أفضل منبّه للعقل والتفكير، لأنّ أهمّ قضيّة في حياة الإنسان هي أن يعرف من الذي خلقه؟ ومن هو مالكه ومربّيه وولي نعمته اليوم؟

إلاّ أنّ قومه اللجوجين والمتكبّرين لم يعطوا اُذناً صاغية لنصائحه ومواعظه، ولم يعبأوا بما يقوله لهدايتهم، وإنّما كذّبوه (فكذّبوه).

ومقابل تصرفاتهم هذه توعدهم الله سبحانه وتعالى بعذابه بعبارة قصيرة جاء فيها: إنّنا سنحضرهم إلى محكمة العدل الإلهي وسنعذّبهم في جهنّم (فإنّهم لمحضرون) لينالوا جزاء أعمالهم القبيحة والمنكرة.

ولكن يبدو أنّ هناك مجموعة من الأطهار المحسنين والمخلصين قد آمنوا بما جاء به إلياس، ولكي لا يضيع حقّ هؤلاء، قال تعالى مباشرةً بعد تلك الآية (إلاّ عباد الله المخلصين)(3).

الآيات الأخيرة من بحثنا إستعرضت نفس القضايا الأربعة التي وردت بحقّ الأنبياء الماضين (نوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون) ولأهميّتها نستعرضها مرّة اُخرى.

قوله تعالى: (وتركنا عليهما في الآخرين) أي إنّ الاُمم القادمة سوف لن تنسى الجهود الكبيرة التي بذلها الأنبياء الكبار من أجل حفظ خطّ التوحيد، وسقاية شجرة الإيمان، وما دامت الحياة موجودة في هذه الدنيا فإنّ رسالتهم ستبقى حيّة وخالدة.

وفي المرحلة الثانية أثنى الله سبحانه وتعالى وبعث بتحيّاته إلى آل ياسين، قال تعالى: (سلام على إل ياسين).

إستخدام عبارة (الياسين) بدلا عن (الياس) إمّا لكونها من الناحية اللغوية لفظاً لـ (إلياس) واللتين لهما نفس المعنى، أو أنّها إشارة إلى (إلياس) وأتباعه المؤمنين، فوردت بصورة الجمع(4).

وفي المرحلة الثالثة، قال تعالى: (إنّا كذلك نجزي المحسنين).

"الإحسان" هنا شمل، معنىً واسعاً وهو العمل بكلّ السنن والأوامر، ومن ثمّ الجهاد ضدّ كافّة أشكال الشرك والإنحراف والذنوب والفساد.

أمّا المرحلة الرابعة فتطرح الإيمان كأمر أساسي يجب أن يتوفّر في الأنبياء الذين إستعرضتهم هذه السورة المباركة فتقول الآية هنا: (إنّه من عبادنا المؤمنين).

"الإيمان" و "العبودية" لله هما مصدر الإحسان، والإحسان يؤدّي إلى إنضمام المحسن لصفوف المخلصين الذين يشملهم سلام الله.

بحثان

1- من هو إلياس؟

لا يوجد أيّ شكّ في أنّ "إلياس" هو أحد أنبياء الله الكبار، وآيات بحثنا تصرّح بهذا الأمر، قال تعالى: (إنّ الياس لمن المرسلين).

اسم نبي الله (إلياس) جاء في آيتين من آيات القرآن المجيد، الاُولى في هذه السورة، أي سورة الصافات، والثانية في سورة الأنعام الآية (85) إذ ذكر إسمه مع مجموعة اُخرى من الأنبياء (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كلّ من الصالحين).

وأبدى المفسّرون وجهات نظر متعدّدة بشأن إلياس، إذ أنّ البعض تساءل هل أنّ إسم "إلياس" هو اسم ثان لنبي واحد، أم أنّه يتعلّق بنبي ليس له اسم ثان، وما هي صفات وخصائص هذا النبي؟

للإجابة على هذه التساؤلات نستعرض وجهات النظر المتعدّدة تلك:

أ- يعتقد البعض أنّ "إلياس" هو إدريس (لأنّ كلمة إدريس، تلفظ إدراس، وبعد أن طرأت عليها تغيّرات بسيطة أضحت إلياس).

ب- "إلياس" هو أحد أنبياء بني إسرائيل، وهو ابن (ياسين) أحد أحفاد هارون أخي نبي الله موسى (ع).

ج- مجموعة من المفسّرين إعتبرت "إلياس" هو الخضر.

في حين أعربت مجموعة اُخرى عن إعتقادها في أنّ إلياس هو صديق الخضر، وكلاهما ما زال حيّاً، وأنّ إلياس موكّل بالفيافي، والخضر موكّل بالبحار والجزر.

ومجموعة ثالثة أكّدت على أنّ إلياس موكّل بالصحاري والخضر موكّل بالجبال، ويقولون بخلود الإثنين.

والبعض يرى أنّ إلياس ابن (اليسع).

د- إلياس هو نفسه (إيليا) نبي بني إسرائيل الذي عاصر الملك (آجاب) والذي أرسله الباري عزّوجلّ لإنذار وهداية (آجاب) الطاغية المتجبّر.

وقال البعض: إنّه يحيى معمدان المسيح.

ولكن الذي يتناسب وظاهر آيات القرآن الكريم هو أنّ هذا الاسم اسم أحد أنبياء الله غير تلك الأسماء التي وردت في القرآن المجيد، وأنّه بعث لهداية قوم يعبدون الأصنام، فكذّبه أكثر القوم، عدا مجموعة من المؤمنين المخلصين الذين صدّقوه.

وكما أشرنا سابقاً فإنّ البعض يعتقد بأنّه بعث إلى بلاد الشام، إستناداً إلى اسم الصنم (بعل) الذي كان يعبده القوم الموجودون في تلك المنطقة، وهي "بعلبك" التي هي اليوم إحدى مدن لبنان وتقع قرب الحدود السورية.

على أيّة حال، فقد وردت قصص مختلفة في الكتب بشأن هذا النبي، ولأنّها غير معتمدة وموثوقة فقد صرف النظر عنها(5).

2- من هم إل ياسين؟

المفسّرون والمؤرخون أبدوا وجهات نظر مختلفة بشأن (الياسين) منها:

أ- ذهب البعض إلى أنّ إلياس والياسين هما لغتان، كما هو شائع بالنسبة لـ (ميكال) و (ميكائيل) إذ أنّهما لغتان في اسم واحد لأحد الملائكة، ولـ (سيناء) و (سينين) حيث تطلقان على مساحة من الأرض تقع بين مصر وفلسطين، و (إلياس) و (الياسين) هي أيضاً لغتان في اسم واحد لهذا النّبي الكبير(6).

ب- البعض الآخر يعتبرها جمعاً، وبهذا الشكل (إلياس) اُضيفت إليها (ياء) فأصبحت (الياسي)، وبعد ذلك جمعت بإضافة الياء والنون إليها فأصبحت (الياسيين) وبعد تخفيفها غدت (الياسين)، وطبقاً لهذا يفهم منها أنّها تخصّ كلّ الذين أطاعوا الياس والتزموا بنهجه(7).

ج- (آلياسين) بالألف الممدودة، مركّبة من كلمتي (آل) و (ياسين) وقيل أنّ ياسين هو اسم والد (الياس)، ووفق رواية اُخرى فإنّه أحد أسماء نبيّنا الأكرم محمّد (ص) وبهذا فإنّ كلمة (آل ياسين) تعني عائلة نبي الإسلام أو عائلة ياسين والد الياس.

الدلائل الواضحة الموجودة في القرآن تؤيّد المعنى الأوّل، والذي يقول: إنّ المقصود من (الياسين) هو (الياس) لأنّ الآية التي تلي هذه الآية المباركة (سلام على إل ياسين) بآية تقول: (إنّه من عبادنا المؤمنين) وعودة الضمير المفرد على (الياسين) دليل على أنّه شخص واحد لا أكثر، وهو إلياس.

وهناك دليل آخر، هو أنّ الآيات الأربعة الأخيرة التي وردت في نهاية قصّة إلياس، هي نفس الآيات التي وردت في نهاية قصص نوح وإبراهيم وموسى وهارون، وعندما نضع هذه الآيات الواحدة إلى جنب الاُخرى نرى أنّ سلام الله في تلك الآيات مرسل إلى الأنبياء الذين تتطرّق إليهم الآيات المباركة، (سلام على نوح في العالمين- سلام على إبراهيم- سلام على موسى وهارون).

وطبقاً لذلك فإنّ (سلام على إل ياسين) تعني السلام على إلياس.

والنقطة التي ينبغي الإلتفات إليها، أنّ الكثير من التفاسير أوردت حديثاً بسند عن ابن عبّاس يصرّح بأنّ المراد من (آل ياسين) هم آل محمّد (ص)، لأنّ أحد أسماء نبيّنا هو ياسين.

روى الشيخ الصدوق في كتابه (معاني الأخبار) في باب تفسير (آل ياسين) خمسة أحاديث بهذا الشأن، كلّها لا تنتهي من حيث السند إلى أهل البيت (ع) سوى واحد، والراوي لهذا الحديث شخص يدعى (كادح) أو (قادح)(8) وهو مجهول ولا توجد ترجمته في كتب الرجال.

وعلى فرض- وفقاً لهذه الأخبار- أنّ الآية الآنفة تقرأ بصورة (سلام على آل ياسين) وبغضّ النظر عن عدم تناسب الآيات، ورأينا أنّ إسناد هذه الرّوايات أيضاً قابلة للنقاش، فمن الأفضل أن نتجنّب القضاء بخصوص هذه الرّوايات ونترك الحكم عليها لأهلها.


1- بعلبك اليوم جزء من لبنان وتقع قرب الحدود السورية.

2- "روح المعاني" ذيل الآيات الخاصّة بالبحث.

3- وفقاً لما ذكرناه أعلاه فإنّ هذا الإستثناء هو استثناء متّصل من (الواو) في "كذّبوه"، وتعني أنّ كلّ قومه كذّبوه وابتلوا بالعذاب الإلهي، عدا عباد الله المخلصين.

4- في البداية كانت (إلياس) ثمّ نسبت إليها ياء فأصبحت (الياسيّ)، ثمّ جمعت فأصبحت، (الياسيين) وعند تخفيفها أضحت (الياسين).

5- تفسير (مجمع البيان) وتفسير (الميزان) و (روح البيان) و (فخر الرازي) و (في ظلال) و (أعلام القرآن).

6- البيان في غريب إعراب القرآن، المجلّد 2، صفحة 308.

7- المصدر السابق.

8- معاني الأخبار: ص 122.