الآيات 111 - 113
﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَـهُ بِإِسْحَـقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّــلِحِينَ(112) وَبَـرَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَـقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) ﴾
التّفسير
إبراهيم ذلك العبد المؤمن:
الآيات الثلاث المذكورة أعلاه هي آخر الآيات التي تواصل الحديث عن قصّة إبراهيم وإبنه وتكملها، وفي الحقيقة إنّها دليل يوضّح ما مضى، وفي نفس الوقت هي نتيجة له.
في البداية تصف الآية القرآنية الكريمة إبراهيم (إنّه من عبادنا المؤمنين).
وفي الواقع إنّ هذه الآية دليل على ما ذكر فيما قبل، كما توضّح حقيقة مفادها أنّ إيمان إبراهيم القوي دفعه إلى أن يضع كلّ وجوده وكيانه وحتّى إبنه العزيز البارّ، في صحن الإخلاص فداءً لربّه سبحانه وتعالى.
نعم كلّ هذه هي من ثمار الإيمان، وتجلّياته، وما أعجب هذه الثمار والتجلّيات!!
هذا التعبير يعطي أبعاداً أوسع وأعمّ لما جرى لإبراهيم وإبنه، ويخرج هذه المجريات من بعدها الشخصي والخاص، ويوضّح أنّه أينما كان الإيمان كان هناك إيثار وحبّ وفداء وعفو، وأنّ إبراهيم كان يختار كلّ ما يختاره الله ويريد كلّ ما أراده الله، وكلّ مؤمن يستطيع أن يكون كذلك.
ثمّ تتناول هذه الآيات نعمة اُخرى من النعم التي وهبها الله تعالى لإبراهيم (وبشّرناه بإسحاق نبيّاً من الصالحين).
فبالإنتباه إلى الآية (فبشّرناه بغلام حليم) التي ذكرناها في مقدّمة هذه الأحداث، يتّضح بصورة جيّدة أنّ هاتين البشارتين تتعلّقان بولدين، وبما أنّ البشرى الأخيرة وفق ما جاء في الآية تخصّ (إسحاق)، فإنّ (الغلام الحليم) بالتأكيد هو (إسماعيل) فالذين يصرّون على أنّ الذبيح هو (إسحاق) عليهم أن يعرفوا أنّهم اعتبروا الآيتين تشيران إلى موضوع واحد مع هذا التفاوت، وهو أنّ الآية الاُولى بشّرت بالولد والآية الثانية بشّرت بالنبوّة، ولكن هذا المعنى مستبعد جدّاً، والآيات المذكورة أعلاه تبيّن بوضوح أنّ البشارتين تتعلّقان بولدين.
على أيّة حال فإنّ بشرى النبوّة تكشف عن أنّ إسحاق يجب أن يبقى حيّاً وأن يؤدّي تكاليف ومهمّة النبوّة، وهذا لا يتلاءم مع قضيّة الذبح.
مرّة اُخرى سنتطرّق إلى عظمة مرتبة الصالحين، إذ وصفت الآية الكريمة إسحاق بأنّه (يجب أن يصبح نبيّاً وأن يكون من الصالحين) فكم هي رفيعة مرتبة الصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟
الآية الأخيرة تتحدّث عن البركة التي أنزلها الباري جلّ وعلا على إبراهيم وإبنه إسحاق (وباركنا عليه وعلى إسحاق).
ولكن البركة في أي شيء؟ لم يرد بهذا الشأن أي توضيح، وكما هو معلوم فإنّ الفعل عندما يأتي بصورة مطلقة ومن دون أي قيد أو شرط، فإنّه يعطي معنىً عاماً، فبهذا تكون البركة شاملة لكلّ شيء، في الحياة، في الأجيال القادمة، في التأريخ، والرسالة، وفي كلّ شيء.
فكلمة (بركة) مشتقّة من (برك) على وزن (درك) وتعني صدر البعير، وعندما يضع صدره على الأرض يقال (برك البعير).
وتدريجيّاً أعطت هذه الكلمة معنى الثبات وبقاء شيء ما، ولهذا يطلق على المكان الذي فيه ماء ثابت ومستقر (بركة) في حين يقال لمّا كان خيره باقياً وثابتاً مبارك.
ومن هنا يتّضح أنّ الآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهيّة على إبراهيم وإسحاق وعلى اُسرتهم، وإحدى البركات التي أنعم الله بها على إبراهيم وإسحاق أن جعل كلّ أنبياء بني إسرائيل من ذريّة إسحاق، في حين أنّ نبي الإسلام العظيم هو من ذريّة إسماعيل.
وهذه البركات لا تشمل كلّ أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته، وإنّما تشمل- فقط- المؤمنين والمحسنين منهم، إذ تقول الآية في آخرها (ومن ذريّتهما محسن وظالم لنفسه مبين).
كلمة (محسن) جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع لله، وهل يتصوّر أنّ هناك إحسان وعمل حسن أرفع من هذا؟
و (ظالم) جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب.
وعبارة (لنفسه) إشارة إلى الكفر وإرتكاب الذنوب يعدّ أوّلا ظلم للنفس، الظلم الواضح والمكشوف.
فالآية المذكورة أعلاه تجيب اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء الأنبياء، وتقول لهم: إنّ صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للإفتخار، إن لم ترافقها صلة في الفكر والإلتزام بالرسالة.
وكشاهد على هذا الكلام فقد ورد حديث لنبيّنا محمّد (ص) يخاطب فيه بني هاشم "لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم" أي أنّهم مرتبطون بي رسالياً وأنتم مرتبطون بي جسدياً(1).
1- روح البيان، المجلّد 7، الصفحة 479.