الآيات 71 - 74

﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاَْوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ(72) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الُْمخْلَصِينَ (74)﴾

التّفسير

الاُمم الضالّة السابقة:

بما أنّ المسائل السابقة المتعلّقة بالمجرمين والضالّين لا تختّص بزمان ومكان معينين، فالقرآن يتوسّع في الآيات التي تبحث بشكل مفصّل عن هذه المسائل، ويهيء الأرضية في عدّة آيات قصيرة ومختصرة لشرح اُمور كثيرة عن الاُمم السابقة، والتي بالإطلاع عليها تكون أدلّة ناطقة للبحوث السابقة. ومن تلك الاُمم أقوام نوح وإبراهيم وموسى وهارون ولوط ويونس وغيرهم، إذ يقول: (ولقد ضلّ قبلهم أكثر الأوّلين).

فمشركو مكّة ليسوا هم الوحيدين الذين ابتلوا بالضلال نتيجة سيرهم على نهج أجدادهم الأوّلين، وإنّما إبتليت قبلهم الكثير من الاُمم السابقة بنفس المصير.

والتذكير بهذا الأمر إنّما جاء لتسلية رسول الله (ص) والثلّة من أصحابه المؤمنين الذين كانوا في مكّة- آنذاك- محاصرين من قبل العدو من كلّ الجوانب.

ثمّ يضيف القرآن المجيد أنّ ضلالتهم لم تكن بسبب إفتقادهم القائد وعدم موعظتهم (ولقد أرسلنا فيهم منذرين).

إذا أنّنا أرسلنا إليهم أنبياء لإنذارهم من خطر الشرك بالله والكفر به، والظلم والإعتداء، وتقليد الآخرين بصورة عمياء، ولإطلاعهم على مسؤولياتهم.

صحيح أنّ الرسل يحملون في يد رسالة الإنذار، وفي الاُخرى رسالة البشارة، لكن الإنذار يشغل الجزء الأكبر من مواعظهم ونصائحهم، خاصّة بالنسبة لمثل تلك الاُمم الضالّة والعاصية، ولهذا أكّد عليه هنا.

ثمّ يقول في عبارة قصيرة ذات معان عميقة (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين).

المخاطب في لفظة (فانظر) من الممكن أن يكون رسول الله (ص) أو أي شخص عاقل يقظ. وفي الحقيقة إنّ هذه الآية المباركة تشير إلى نهاية أقوام سنستعرض أحوالها وأوضاعها بصورة مفصّلة في الآيات القادمة.

أمّا آخر آية في بحثنا فإنّها تستثني جماعة من العذاب الإلهي (إلاّ عباد الله المخلصين).

الملاحظ أنّ هذه الآية تشير إلى عاقبة هذه الاُمم، وتدعو إلى التمّعن في العذاب الأليم الذي ابتلوا به، والذي أهلكهم وأبادهم جميعاً ما عدا عباد الله المؤمنين والمخلصين الذين نجوا من هذا العذاب(1).

وجدير بالذكر أنّ كلمة (المخلصين)- بفتح اللام- كرّرت خمس مرّات، وهذا بيان لعلو منزلتهم ومرتبتهم، وكما أشرنا سابقاً فإنّ عباد الله المخلصين هم الصفوة التي تسلّحت بالعلم والإيمان، وإنتصرت على النفس بعد مجاهدتها، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه وأزال عنهم الشوائب ليجعلهم خالصين، ولهذا فإنّهم يمتلكون الحصانة الكاملة تجاه الإنحرافات والزلل.

والشيطان عاجز وآيس من النفوذ إلى داخلهم، إذ قطع عليه الطريق المؤدّي إليهم منذ اليوم الأوّل، وإعترف هو بعجزه هذا.

كذلك فإنّ فتن المجتمع الذي يعيشون فيه ووساوس الغاوين، إضافة إلى وجود المتّبعين لنهج آبائهم وأجدادهم الأوّلين، والثقافة الخاطئة والطاغوتية، لا تؤثّر أبداً على عباد الله المخلصين ولا تحرفهم عن مسيرتهم.

حقيقة الأمر، أنّ هذه الآية هي خطاب إطمئنان لمؤمني مكّة المقاومين والصامدين في ذلك الوقت، وإنّها دعوة لمسلمي عالم اليوم المليء بالفتن، تدعوهم إلى الإنفصال عن صفوف أعداء الله والإنضمام إلى عباد الله المخلصين.


1- هذه الجملة إستثناء من محذوف يفهم من المذكور، تقديره هكذا: فانظر كيف كان عاقبة المنذرين فإنّا أهلكناهم جميعاً إلاّ عباد الله المخلصين.