الآيات 62 - 70

﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَـهَا فِتْنَةً لِّلظَّـلِمِينَ(63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَـطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لاََكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيم (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ(68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَاءَهُمْ ضَآلِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى ءَاثَـرِهِمْ يُهْرَعُونَ(70)﴾

التّفسير

جوانب من العذاب الأليم لأهل النار:

بعد توضيح النعم الكثيرة والخالدة التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل الجنّة، تستعرض الآيات أعلاه العذاب الأليم والمثير للأحزان الذي أعدّه الله لأهل جهنّم، وتقارنه مع النعم المذكورة سابقاً، بحيث تترك أثراً عميقاً في النفوس يردعها عن إرتكاب الأعمال السيّئة والمحرّمة.

ففي البداية تقول: (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقّوم).

كلمة (نُزُل) تعني الشيء الذي يهيّأ لورود الضيف فيقدّم إليه إذا ورد، والبعض الآخر قال: إنّها تعني الشيء الأوّل الذي يقدّم للضيف حين وروده، وهذه إشارة إلى النعم المهيئة لورود الضيوف الأعزّاء والمحترمين إلى الجنّة.

والقرآن الكريم يقول: أذلك خير أم شجرة الزقوم؟ ولفظة (خير) ليست دليلا على أنّ شجرة الزقّوم شيء جيّد، والنعم التي أعدّها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنّة أجود، إذ أنّ مثل هذه الألفاظ تستخدم أحياناً في لغة العرب بشأن بعض الأشياء التي لا فائدة فيها أبداً، ويحتمل بأنّها نوع من الكناية، ومثلها كمثل شخص غارق بالذنوب وقد فضح أمام الناس، وهم يقولون له: هل هذه الفضيحة خير، أم الفخر والعزّة والشرف؟

وأمّا "زقّوم" فقد قال أهل اللغة: إنّه اسم نبات مرّ وذي طعم ورائحة كريهة(1).

فيما قال بعض المفسّرين: إنّه اسم نبات يحمل أوراقاً صغيرة مرّة وكريهة الرائحة وهو موجود في أرض تهامة، وكان يعرفه المشركون(2). وأضاف صاحب تفسير (روح المعاني) أنّ لهذا النبات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورّم(3).

وقال الراغب في (مفرداته): الزقّوم هو كلّ غذاء يثير إشمئزاز أهل جهنّم.

وقال صاحب كتاب (لسان العرب): هذا اللفظ يأتي أساساً بمعنى بلع الشيء، ويضيف: عندما نزلت هذه الآية قال أبو جهل، لا توجد مثل هذه الشجرة في أرضنا، فمن منكم يعرف معنى زقّوم؟

وهنا أجابه شخص من أفريقيا قائلا: الزقّوم بلغة أهل أفريقيا تعني الزبد والتمر، وفور ما سمع أبو جهل بجواب الأفريقي، نادى جاريته، وقال لها باستهزاء: زقمّينا بمقدار من التمر والزبد. فكانوا يأكلون ويسخرون ويقولون: إنّ محمّد يخوّفنا من هذا في الآخرة، فنزلت آيات قرآنية قاطعة وحازمة تردّ على أبي جهل وبقيّة المشركين سنتطرّق إليها فيما بعد.

على كلّ حال فإنّ كلمة (شجرة) لا تأتي دائماً بمعناها المعروف، وإنّما تعني في بعض الأحيان (النبات) والقرائن هنا تشير إلى أنّ المراد من الشجرة هو المعنى الثاني أي (النبات).

ثمّ يستعرض القرآن الكريم بعض خصائص هذه النبتة، ويقول: (إنّا جعلناها فتنة للظالمين).

ولفظة (فتنة) تعني المحنّة والعذاب، كما تعني الإمتحان، وغالباً ما جاء هذا المعنى في موارد متعدّدة من سور القرآن المجيد، وهو إشارة إلى أنّ المشركين عندما سمعوا كلمة (الزقّوم) عمدوا إلى السخرية والإستهزاء، فيما كان هذا الأمر إمتحاناً لاُولئك الطغاة.

ويضيف القرآن الحكيم (إنّها شجرة تخرج في أصل الجحيم).

ولكن الظالمين المغرورين يواصلون إستهزاءهم، ويقولون: كيف يمكن لنبات أو شجرة ينبت في قعر جهنّم؟ فأين النار وأين الشجر والنبات؟ وتبعاً لذلك فإنّ سماع اسم هذا النبات وأوصافه هو إختبار دنيوي لهم، وسيكون سبباً لعذابهم ومحنتهم في الآخرة.

وكأنّهم كانوا غافلين عن أنّ الاُصول التي تحكم في ذلك العالم- أي الآخرة- تختلف كثيراً عن الاُصول الحاكمة في العالم الدنيوي، فالأشجار والنباتات التي تنبت في قعر جهنّم، وتنمو في ذلك الظرف ويكون لونها بلون النار، ليست كالأشجار والنباتات النابتة في حدائق وبساتين هذا العالم، ويحتمل عدم جهلهم بهذا الأمر، بل هدفهم الإستهزاء والسخرية فقط.

ثمّ يضيف القرآن الكريم (طلعها كأنّه رؤوس الشياطين).

(الطلع) يقال لأوّل ما يبدو من حمل النخلة، وله قشر أخضر اللون، وفي داخله فروع بيضاء اللون تتحوّل فيما بعد إلى عنقود يحمل التمر.

وكلمة (طلع) من مادّة (طلوع) وبهذه المناسبة أُطلق على الثمر في أوّل ظهوره.

وهنا يطرح هذا السؤال: هل أنّ الناس شاهدوا رؤوس الشياطين حتّى يشبّه القرآن ثمار الزقّوم بها؟

المفسّرون أعطوا أجوبة متعدّدة لهذا السؤال:

فقال البعض: إنّ إحدى معاني كلمة (الشيطان) هي حيّة كريهة المنظر، شبّهت بها ثمار الزقّوم.

وذهب البعض الآخر إلى أنّه نوع من النبات ذو شكل قبيح، كما جاء في كتاب (منتهى الارب) أنّ (رأس الشيطان) أو (رؤوس الشياطين) نبات.

إلاّ أنّ الرأي الأصحّ، هو أنّ التشبيه هنا استخدم لبيان شدّة قباحة ثمار الزقّوم وشكلها الباعث على النفور والإشمئزاز، لأنّ الإنسان عندما يشمئز من شيء ترتسم صورة ذلك الشيء في مخيلته بشكل قبيح ورهيب، فيما ترتسم صورة الشيء المحبوب بشكل جميل ووديع في مخيلته.

لهذا فإنّ الناس يرسمون صورة الملائكة بشكل جميل، فيما يرسمون صورة الشياطين والعفاريت بأقبح صورة، في الوقت الذي لم ير أحد منهم الملائكة ولا الشياطين. كما يشاهد إستخدام هذا الأمر كثيراً في المصطلحات اليومية، عندما يقال: الشخص الفلاني كالعفريت، أو انّه يشبه الشيطان.

هذه كلّها تشبيهات مبنية على أساس الإنعكاسات الذهنية للناس عن مفاهيم مختلفة، وهي تشبيهات لطيفة وحيّة.

ويواصل القرآن الكريم إستعراض العذاب الذي سينال المشركين والكافرين، (فإنّهم لآكلون منها فمالئون منها البطون)(4).

هذا هو العذاب والفتنة الذي أشرنا إليه في الآيات السابقة، حيث أنّ أكل هذا النبات الذي ينبت في جهنّم ذو الرائحة الكريهة والطعم المرّ واللبن الذي يورم ويحرق الأبدان فور ما يصيبها، وتناوله- وبكميّات كبيرة- يعدّ عذاباً أليماً.

ومن البديهي، فإنّ من يتناول هذا الطعام السيء الطعم والمرّ، يصيبه العطش، ولكن حينما يشعر بالعطش ماذا يشرب؟ القرآن يجيب على هذا السؤال بالقول: (ثمّ إنّ لهم عليها لشوباً من حميم).

"الشوب" هو الشيء المخلوط أو الممزوج مع شيء آخر. و (حميم) هو الماء الحار البالغ في حرارته، وطبقاً لذلك فإنّ حتّى الماء الحار الذي يشربه اُولئك الظالمون غير نقي، بل ملوّث.

وهذا هو غذاء أهل جهنّم، وهذا هو شرابهم، وبعد هذه الضيافة إلى أين يذهبون، فيجيب القرآن على هذا السؤال أيضاً بالقول: (ثمّ إنّ مرجعهم لإلى الجحيم).

بعض المفسّرين فسّروا هذه العبارة على أنّ الماء الحار الملوّث ينبع من عين خارج جهنّم، وأنّ أهل جهنّم يساقون كما تساق البهائم إلى الأماكن المخصّصة لشرب الماء، وبعد تناولهم الماء يرجعون إلى الجحيم.

فيما ذهب البعض الآخر إلى القول بأنّه إشارة إلى وجود أماكن ومواقف مختلفة في جهنّم، ينقل إليها الظالمون والمجرمون ليشربوا منها الماء الحار، ويرجعون بعد ذلك إلى المكان الذي كانوا فيه سابقاً.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يعدّ أنسب.

وكما أشرنا آنفاً، فإنّه لا يمكن تصوّر النعم التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل الجنّة، كما أنّه لا يمكن تصوّر العذاب الذي ينال أهل جهنّم، بل إنّها تخيّلات- وحسب- تتراءى أمام أعيننا من خلال عبارات قصار (اللهمّ أعذنا بلطفك واحفظنا من العذاب).

الآية الأخيرة في بحثنا تناولت السبب الرئيسي الذي أدّى إلى دخول اُولئك إلى جهنّم ونيلهم العذاب الأليم والشديد هناك، تناولته في آيتين قصيرتين مليئتين بالمعاني والحقائق (إنّهم ألفوا آباءهم ضالّين).

وإنّهم كانوا يسرعون على آثارهم ومن دون أي إرادة (فهو على آثارهم يهرعون).

والملاحظ هنا أنّ لفظة (يهرعون) جاءت بصيغة المبني للمجهول، وهي من مادّة (هرع) أي أسرع، وهي إشارة إلى أنّهم كانوا يقلّدون آباءهم قلباً وديناً وإنّهم كانوا يحثّون الخطى على آثارهم إلى درجة كأنّهم يسارعون في ذلك من دون أي إرادة وإختيار، وإشارة اُخرى إلى تعصّبهم وتمسّكهم بالخرافات التي كان أجدادهم الضالّون يعتقدون بها.


1- مجمع البحرين، مادّة (زقم).

2- تفسير روح المعاني، المجلّد 7، الصفحة 464.

3- روح المعاني، المجلّد 23، الصفحة 85.

4- ضمير (منها) يعود للشجرة، وهذا بذاته قرينة على أنّ المقصود من الشجرة هنا النبات وليس الشجرة، لأنّ النبات يؤكل لا الشجرة.