الآيات 41 - 49

﴿اُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِى جَنَّـتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُر مُّتَقَـبِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْس مِّن مَّعِين (45) بَيْضَاءَ لَذَّة لِّلشَّـرِبِينَ (46) لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47) وَعِندَهُمْ قَـصِرَتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (49)﴾

التّفسير

جوانب من النعم لأهل الجنّة:

الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدّثت عن عباد الله المخلصين، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض العطايا والنعم غير المحدودة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنّة، ويمكن توضيحها في سبعة أقسام:

تقول الآية أوّلا: إنّ لهم رزقاً معلوماً ومعيّناً (اُولئك لهم رزق معلوم).

فهل هذه هي خلاصة لتلك النعم التي ستبيّنها الآيات فيما بعد، وتوضيح للنعم التي ستغدق عليهم بصورة خفيّة.

أو إشارة إلى نعم معنوية غير معروفة وغير قابلة للوصف، تتصدّر نعم أهل الجنّة.

بعض المفسّرين فسّرها بالشكل الأوّل، فيما فسّرها آخرون بالشكل الثاني، وتناسب البحث يتواءم مع المعنى الثاني، وبهذا فإنّ النعمة الاُولى من النعم السبع- التي وردت في آيات بحثنا- هي الهبات المعنوية والمتع الروحية ودرك مظاهر ذات الله، وتناول الشراب الطاهر والغمرة في عشق الله. اللذّة التي لا يمكن أن يدركها العبد ما لم يتذوّقها ويعيش رحابها.

والسبب في أنّ العطايا الماديّة في الجنّة قد ذُكرت في آيات القرآن الكريم بالتفصيل والهبات المعنوية والملذّات الروحية استعرضت بصورة خفيّة، فهو أنّ الأُولى قابلة للوصف دون الثانية.

وأمّا بشأن معنى (رزق معلوم) فلقد قيل عنها الكثير، هل هي بمعنى معلوم الوقت، أم بقاءه ودوامه، أم سائر خصائصه؟ ولكن كما قلنا قبل قليل فانّ "معلوم" تعبير خفي ومجمل عن المواهب التي لا تقبل الوصف.

ثمّ ينتقل إلى بيان نعم اُخرى، ويعدّد قبل كلّ شيء بعض نعم الجنّة التي تقدّم لأهل الجنّة بكل إحترام وتكريم (فواكه وهم مكرمون).

وليس بتلك الصورة التي يرمى فيها الطعام أمام الحيوان لتناوله، وإنّما يقدّم لهم الطعام بكلّ إحترام وكأنّهم ضيوف أعزّاء.

هنا نترك الحديث عن أنواع الفواكه التي تقدّم لأهل الجنّة باحترام وتجليل، لنتطرّق إلى أماكنهم في الجنّة، حيث أنّ القرآن الكريم يقول: إنّ أماكنهم في حدائق خضراء مملوءة بنعم الجنّة (في جنّات النعيم).

فأي نعمة يتمنّونها موجودة هناك، وكلّ ما يطلبون يجدونه أمامهم.

وأشارت الآيات إلى النعمة الرابعة، وهي إستئناس أهل الجنّة بمجالس السمر التي يعقدونها مع أصدقائهم في جوّ ملؤه الصفاء، إذ يجلسون على سرر متقابلة وينظر كلّ منهم إلى الآخر (على سرر متقابلين).

يتذاكرون في كلّ شيء، فمرّة تراهم يتحدّثون عن ماضيهم في الدنيا، واُخرى عن النعم العظيمة التي أغدقها عليهم الباري عزّوجلّ في الآخرة، وأحياناً يستعرضون صفات الجمال والجلال عند الله، وفي أوقات يتحدّثون عن مقام الأولياء وكراماتهم، ويتذاكرون قضايا اُخرى قد لا ندركها نحن المسجونون في هذه الدنيا.

"سرر" هي جمع (سرير) وهي الأسرّة التي يجلس عليها الناس في مجالس سمرهم، كما أنّ لهذه الكلمة معان أوسع، حتّى أنّها تطلق أحياناً على تابوت الميّت، ويحتمل أن يكون إطلاق هذه التسمية على تابوت الميّت برجاء أن يكون التابوت مركب بهجة يسير به إلى الرحمة الإلهية وجنّة الخلد.

أمّا القسم الخامس فيتحدّث عن نعمة اُخرى من النعم التي تغدق على أهل الجنّة، إذ تطرّق إلى الشراب الطهور الذي يطاف به عليهم بكؤوس مملوءة بأنواع الخمور الطاهرة، ومتى ما أرادوا فإنّهم يسقون من ذلك الخمر ليغرقوا في عالم من النشاط والروحية (يطاف عليهم بكأس من معين).

وهذه الكؤوس ليست في مكان معيّن يذهبون إليها لأخذها، وإنّما يطاف بها عليهم (يطاف عليهم).

كلمة (كأس) يطلقها أهل اللغة على إناء الشراب المملوء، فيما يطلقون كلمة (قدح) عليه إن كان خالياً، وقال الراغب في مفرداته: الكأس الإناء بما فيه من الشراب.

أمّا كلمة (معين) مشتقّة من (معن) على وزن (صحن) وتعني الجاري، إشارة إلى أنّ هناك عيوناً جارية من الخمر الطاهر، تملأ منها- في كلّ لحظة- الكؤوس، ومن ثمّ يطاف بها على أهل الجنّة، وهذه العيون الجارية من الخمر الطاهر لا تنضب ولا تفسد، إضافةً إلى أنّ الحصول عليها لا يحتاج إلى أي مشقّة أو تعب.

ثمّ ينتقل الحديث إلى وصف كؤوس الشراب، إذ يقول: إنّها بيضاء اللون ومتلألئة وتعطي لذّة للشاربين بها (بيضاء لذّة للشاربين).

وكلمة (بيضاء) إعتبرها بعض المفسّرين صفة لكؤوس الشراب، فيما إعتبرها البعض الآخر صفة للشراب الطهور، ويعني أنّ ذلك الشراب ليس كالأشربة الملوّنة في الدنيا، بل إنّها أشربة طاهرة، خالية من الألوان الشيطانية، وبيضاء اللون شفّافة.

وبالطبع فإنّ المعنى الثاني أنسب لجملة (لذّة للشاربين).

الآية السابقة التي تطرّقت إلى الشراب والكؤوس ربّما تجلب إلى الأذهان مفاهيم اُخرى، أمّا الآية التي تليها فتطرد في جملة قصيرة كافّة تلك المفاهيم عن الأذهان (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون).

أي أنّ ذلك الخمر هو شراب طاهر لا يفسد العقل، ولا يؤدّي إلى السكر والغفلة، وإنّما يؤدّي إلى اليقظة والنشاط وفيه متعة للروح.

وكلمة (غول) على وزن (قول) تعني الفساد الذي ينفذ إلى الشيء بصورة غير محسوسة، ولهذا يقال في الأدب العربي لعمليات القتل التي تتمّ بصورة سريّة أو خفية بأنّه (قتل غيلة).

وكلمة (ينزفون) من مادّة (نزف) على وزن (حذف) وتعني فقدان الشيء تدريجيّاً، وعندما تستخدم هذه الكلمة بشأن آبار المياه، فإنّها تعطي معنى إستخراج الماء من البئر تدريجيّاً حتّى ينضب، ويقال "نزيف الدم" وهو خروج الدم من الجسد تدريجيّاً حتّى ينتهي تماماً.

على أيّة حال، فإنّ المقصود في هذه الآية ذهاب العقل تدريجيّاً والوصول إلى حالة السكرة، أمّا خمر الجنّة الطاهر فإنّه لا يسكر على الإطلاق، إذ لا يذهب بالعقل ولا يسبّب أي مضارّ.

هاتان العبارتان تتطرّقان في آن واحد- بصورة ضمنية ودقيقة- إلى الشراب في عالم الدنيا والذي ينفذ إلى حياة الإنسان بصورة تدريجية وسرية، ويوجد عنده حالات الفساد والضياع، حيث أنّها لا تؤدّي بعقل الإنسان وأعصابه إلى

الدمار فحسب، بل إنّ تأثيرها السلبي والذي لا يمكن إنكاره يمتدّ إلى جميع أعضاء جسم الإنسان، إلى القلب وحتّى الشرايين، وإلى المعدة والكلية والكبد، وأحياناً تودي بحياة الإنسان وكأنّها تقتله غيلة، وكذلك تأثيرها على عقل وذكاء الإنسان يشبه عملية سحب ماء البئر تدريجيّاً حتّى يجفّ.

ولكن الشراب الطهور الإلهي في يوم القيامة لا يحمل هذه الصفات(1).

أمّا القسم السادس، فإنّه يشير إلى الحور العين في جنّات النعيم (وعندهم قاصرات الطرف عين)، أي نرزقهم زوجات لا يعشقن سوى أزواجهن ويقصرن طرفهن عليهم فقط، ولهذه الزوجات أعيناً واسعة وجميلة.

(طرف) في الأصل تعني جفن العين، وهذه الكلمة كناية عن النظر، إذ أنّ أجفان العين تتحرّك عندما ينظر الإنسان إلى شيء ما، إذن فإنّ عبارة (قاصرات الطرف) تعني النساء اللواتي ينظرن نظرة قصيرة، كما أنّ هناك تفسيرات متعدّدة وردت بهذا الشأن يمكن درجها كالتالي:

الأوّل: هو أنّهن ينظرن إلى أزواجهنّ فقط، ولا تمتد أبصارهنّ إلى سواهم.

والثاني: هذا التعبير كناية عن كونهنّ لا يعشقن إلاّ أزواجهنّ، وقلوبهم متيّمة بمحبّتهم، ولا توجد محبّة اُخرى في قلوبهنّ، وهذا هو أكبر إمتياز للمرأة التي تحبّ زوجها وتتأمّل به.

والتّفسير الثالث: هو أنّ لهنّ أعين سكرى، هذه الحالة الخاصّة التي طالما وصف فيها الشعراء جمال العين في قصائدهم(2).

وبالطبع فإنّ المعنى الأوّل والثاني يبدوان أنسب، مع أنّه لا مانع من الجمع بين المعاني.

كلمة (عِين) على وزن (سين) وجمعها (عيناء) وتعني المرأة ذات العين الواسعة.

وأخيراً، فإنّ آخر آية في بحثنا هذا تعطينا وصفاً آخر لزوجات الجنّة، إذ توضّح طهارتهنّ وقداستهن من خلال هذه العبارة (كأنّهنّ بيض مكنون) أي إنّهن نظيفات وظريفات، وذوات أجسام بيضاء صافية كالبيض الذي كنه الريش في العشّ فلم تمسّه الأيدي ولم يصبه الغبار.

(بيض) جمع بيضة.

(مكنون) مشتقّة من (كن) على وزن (جنّ) وتعني المستور بالإدّخار.

هذا التشبيه القرآني يتّضح بصورة جيّدة إذا نظر الإنسان إلى البيضة في اللحظة التي تنفصل فيها عن الدجاجة، ولم تمسّها بعد يد الإنسان لتستقرّ تحت جناح الدجاجة وريشها، إذ تبدو عليها شفافية وصفاء عجيبان.

وبعض المفسّرين يرى بأنّ كلمة (مكنون) تعني المحتويات الداخلية للبيضة المختفية تحت القشرة، وفي الواقع فإنّ التشبيه المذكور يشير إلى بيضة مطبوخة قد اُزيلت قشرتها الخارجية لتوّها، وقد بدا عليها البياض اللامع والنعومة واللطافة.

الملاحظ أنّ عبارات القرآن المجيد الخاصّة بتوضيح الحقائق، عميقة ومفعمة بالمعاني، فعبارة قصيرة ولطيفة واحدة توضّح حقائق كثيرة وباُسلوب لطيف.

ملاحظة

إلقاء نظرة عامّة على ما جاء في الآيات السابقة:

الهبات التي منّ الله تعالى بها على أهل الجنّة- المذكورة في الآيات السابقة- هي مجموعة من الهبات الماديّة والمعنوية، ونستشف من عبارة (اُولئك لهم رزق معلوم) أنّ أوّل هبة هي تلك المتعلّقة بالهبات المعنوية والروحية التي يعجز اللسان عن وصفها.

أمّا الأقسام الستّة الاُخرى وهي الفواكه، والشراب الطاهر، والزوجات الصالحات، والإحترام الكامل، والمسكن الحسن، والأصدقاء الجيدون في الجنّة، فقد أعطت أبعاداً مختلفة لنعم الجنّة، والتي غالباً ما تمزج بالعطايا والمنح المادية والمعنوية.

لكن كلّ ما طرحناه كان بلغتنا التي لا تستطيع أبداً أن تعكس كلّ جوانب النعم في الجنّة، ومن الطبيعي فإنّنا نحتاج إلى حواس سمع ونظر وإدراك اُخرى، إضافةً إلى ألفاظ وجمل وكلام آخر، كي نتمكّن من شرح هذه الاُمور.

وبعبارة اُخرى، فإنّ حقيقة النعم التي تغدق على أهل الجنّة خفيّة عن أهل الدنيا، إلاّ إذا ذهبوا إلى هناك وشاهدوها عن قرب ليدركوها.

على أيّة حال، فإنّ (عباد الله المخلصين) والذين وصلوا في علومهم وإيمانهم إلى مرحلة الكمال، أعزّاء عند الله، ويشملهم اللطف الإلهي بصورة غير محدودة، ومهما تصوّرنا علو مقامهم، فإنّهم أفضل وأعلى من ذلك.


1- الضميران (فيها) و (عنها) يعودان على "الخمر" التي لم ترد بصورة مباشرة في الجملة، لكن ذلك يتّضح من سياق الكلام، وكما هو معروف فإنّ الخمرة هي مؤنث مجازي و (عن) في (عنها) إنّما هي لبيان العلّة، وتعني أنّ هذه الخمرة لا تسكر هؤلاء ولا تفقد عقلهم وشعورهم، ويجب الإلتفات إلى أنّ للخمر معنيان مشتركان، إذ هي أحياناً تطلق على شراب يثير الفساد ويذهب بالعقل (إنّما الخمر والميسر ...) (المائدة ـ 90)، وأحياناً تطلق على الشراب الطاهر الذي يعطى لعباد الله المخلصين في جنان الخلد (وأنهار من خمر لذّة للشاربين) (محمّد ـ 15).

2- روح المعاني، المجلّد 33، صفحة 81.