الآيات 24 - 32
﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ(27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الَْيمِينِ (28) قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـنِ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَـغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)فَأَغْوَيْنَـكُمْ إِنَّا كُنَّا غَـوِينَ (32)﴾
التّفسير
الحوار بين القادة والأتباع الضالّين: الآيات السابقة إستعرضت كيفية سوق ملائكة العذاب للظالمين ومن يعتقد إعتقادهم برفقة الأصنام والآلهة الكاذبة التي كانوا يعبدونها من دون الله، إلى مكان معيّن، ومن ثمّ هدايتهم إلى صراط الجحيم.
وإستمراراً لهذا الإستعراض يقول القرآن: (وقفوهم إنّهم مسؤولون)(1).
نعم عليهم أن يتوقّفوا ويجيبوا على مختلف الأسئلة التي تطرح عليهم، ولكن عمّاذا يسألون؟
قال البعض: يسألون عن البدع التي اختلقوها.
وقال البعض الآخر: يسألون عن أعمالهم القبيحة وأخطائهم.
والبعض أضاف: إنّهم يسألون عن التوحيد وقول لا إله إلاّ الله.
وذهب آخرون: إنّهم يسألون عن النعم التي أُنعمت عليهم، وعن شبابهم وصحّتهم وأعمارهم وأموالهم ونحوها، وهناك رواية يذكرها الشيعة والسنّة في أنّهم يسألون عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)(2).
وبالطبع فإنّ هذه التفاسير لا يوجد أي تناقض بينها، لأنّ في ذلك اليوم يتمّ السؤال عن كلّ شيء، عن العقائد وعن التوحيد والولاية، وعن الحديث والعمل، وعن النعم والمواهب التي وضعها الله سبحانه وتعالى في إختيار الإنسان.
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه، وهو: كيف يساق اُولئك أوّلا إلى صراط الجحيم، ثمّ يؤمرون بالتوقّف لإستجوابهم؟
ألا ينبغي تقديم عملية إيقافهم ومساءلتهم على سوقهم إلى صراط الجحيم؟
هناك جوابان لهذا السؤال وهما:
أوّلا: كون اُولئك من أهل جهنّم أمر واضح للجميع، وحتّى لأنفسهم، وإستجوابهم إنّما يتمّ لإعلامهم بمقدار وحجم الذنوب والجرائم التي إقترفوها ..
ثانياً: طرح هذه الأسئلة عليهم لا لمحاكمتهم، وإنّما ذلك لتوبيخهم ومعاقبتهم نفسياً.
وبالطبع فإنّ كلّ ذلك في حالة كون الأسئلة متعلّقة بما أوردنا آنفاً، أمّا إذا إرتبط الحديث بالآية التالية والتي تسألهم عن عدم نصرتهم بعضهم البعض، فهنا لا تبقى أيّة مشكلة في تفسير الآية، ولكن هذا التّفسير لا يتطابق مع ما جاء في عدّة روايات بهذا الشأن، إلاّ إذا كان هذا السؤال جزء من أسئلة مختلفة.
على أيّة حال، فعندما يساق المجرمون إلى صراط الجحيم، تكون أيديهم مقطوعة عن كلّ شيء وقاصرة عن تحصيل العون، ويقال لهم: أنتم الذين كان أحدكم يلجأ إلى الآخر في المشكلات ويطلب العون منه، لِمَ لا ينصر بعضكم بعضاً الآن (ما لكم لا تناصرون).
نعم، فكلّ الدعائم التي تصوّرتم انّها دعامات مطمئنة في الدنيا اُزيلت عنكم، ولا يمكن أن يساعد بعضكم البعض، كما أنّ آلهتكم ليسوا بقادرين على تقديم العون لكم، لأنّهم عاجزون ومنشغلون بأنفسهم.
يقال أنّ (أبا جهل) نادى يوم معركة بدر "نحن جميع منتصر"، والقرآن المجيد أعاد تكرار قوله في الآية (44) من سورة القمر (أم يقولون نحن جميع منتصر)فيوم القيامة يسأل أبو جهل وأمثاله: لماذا لا يسعى بعضكم لمساعدة البعض الآخر؟ ولكن لا يمتلكون أي جواب لهذا السؤال، سوى سكوتهم الدالّ على ذلّتهم.
الآية التي تليها تضيف: إنّهم في ذلك اليوم مستسلمون لأوامر الله وخاضعون له، ولا يمكنهم إظهار المخالفة أو الإعتراض (بل هم اليوم مستسلمون)(3).
وهنا يبدأ كلّ واحد منهم بلوم الآخر، ويسعى إلى إلقاء أوزاره على عاتق الآخر، والتابعون يعتبرون رؤساءهم وأئمّتهم هم المقصّرون، فيقابلونهم وجهاً لوجه، ويبدأ كلّ منهم بسؤال الآخر، كما تقول الآية: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون).
وهنا يقول التابعون لمتبوعيهم: إنّكم شياطين، إذ كنتم تأتوننا بعنوان النصيحة والهداية والتوجيه وإرادة الخير والسعادة لنا، ولكن لم يكن من وراء مجيئكم سوى المكر والضياع (قالوا إنّكم كنتم تأتوننا عن اليمين).
إذ أنّنا- بحكم فطرتنا- كنّا نسعى وراء الخير والطهارة والسعادة، ولذا لبّينا دعوتكم، لكنّنا لم نكن نعلم أنّكم تخفون وراء وجوهكم الخيّرة ظاهراً وجهاً آخر شيطانياً وقبيحاً أوقعنا في الخطيئة، نعم فكلّ الذنوب التي إرتكبناها أنتم مسؤولون عنها، لأنّنا لم نكن نملك شيئاً سوى حسن النيّة وطهارة القلب، وأنتم الشياطين الكذّابون لم يكن لديكم سوى الخداع والمكر.
كلمة (يمين) تعني (اليد اليمنى) أو (الجهة اليمنى) والعرب تعتبرها في بعض الأحيان كناية عن الخير والبركة والنصيحة، وكلّ ما يرد إليهم من جهة اليمين يتفاءلون به، ولذا فإنّ الكثير من المفسّرين يفسّرون (كنتم تأتوننا عن اليمين) على أنّها تظهر الخير والنصيحة كما ذكرنا ذلك أعلاه.
على أيّة حال، الثقافة العامّة تعتبر العضو الأيمن أو الطرف الأيمن شريفاً، والأيسر غير شريف، ولهذا السبب تستعمل اليمين للإحسان وعمل الخيرات.
وقد ذكرت مجموعة من المفسّرين تفسيراً آخر وهو: إنّ المقصود هو أنّكم أتيتمونا بإعتمادكم على القدرة، لأنّ الجهة اليمنى تكون عادةً هي الأقوى، وبهذا الدليل فإنّ أغلب الناس ينجزون أعمالهم المهمّة والصعبة باليد اليمنى، لذا فقد أصبح هذا التعبير كناية عن "القدرة".
وهناك تفسيرات اُخرى تعود إلى هذين التّفسيرين أعلاه، ولكن لا شكّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب.
وفي المقابل فإنّ المتبوعين والقادة لا يسكتون، بل يجيبون تابعيهم بالقول: (قالوا بل لم تكونوا مؤمنين).
فلو لم تكن أهواؤكم منحرفة، ولو لم تكونوا من طلاّب الشرّ والشيطنة، لما اتّبعتمونا بإشارة واحدة، ولماذا لم تستجيبوا لدعوة الأنبياء والصالحين؟ إذاً فالخلل فيكم أنتم، اذهبوا ولوموا أنفسكم والعنوها. ودليلنا واضح، إذ لم تكن لنا أي سلطة عليكم، ولم نضغط عليكم ونجبركم لعمل أي شيء (وما كان لنا عليكم من سلطان).
إنّما أنتم قوم طغاة ومعتدون، وأخلاقكم وطبيعتكم الظالمة صارت سبب تعاستكم (بل كنتم قوماً طاغين).
وكم هو مؤلم أن يرى الإنسان قائده وإمامه الذي كان قد إرتبط به قلبيّاً طوال عمره، قد تسبّب في تعاسته وشقائه ثمّ يتبرّأ منه، ويلقي كلّ الذنوب على عاتقه؟
في الحقيقة، إنّ كلا المجموعتين صادقة في قولها، فلا هؤلاء، أبرياء ولا اُولئك، فالغواية والشيطنة كانت من اُولئك، وتقبل الغواية والإستسلام كان من هؤلاء.
فجدالكم لا يؤدّي إلى نتيجة، وهنا يعترف أئمّة الضلال بهذه الحقيقة، ويقولون: بهذا الدليل ثبت أمر الله علينا، وصدر حكم العذاب بحقّ الجميع، وسينالنا جميعاً عذاب الله (فحقّ علينا قول ربّنا إنّا لذائقون).
إنّكم كنتم طاغين، وهذا هو مصير الطغاة، أمّا نحن فقد كنّا ضالّين ومضلّين.
فنحن أضللناكم كما كنّا نحن أنفسنا ضالّين (فأغويناكم إنّا كنّا غاوين).
بناء على ذلك ما الذي يثير العجب في أن نكون جميعاً شركاء في هذه المصائب وهذا العذاب؟
ملاحظتان
1- السؤال أيضاً عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع):
بالشكل الذي أشرنا إليه سابقاً، فإنّ روايات عديدة وردت في مصادر الشيعة وأهل السنّة بشأن تفسير هذه الآية (وقفوهم إنّهم مسؤولون) تبيّن أنّ من جملة القضايا التي يسأل عنها المجرمون يوم القيامة هو ما يتعلّق بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).
فالشيخ "الطوسي" نقل في كتابه (الأمالي) عن أنس بن مالك عن رسول الله(ص): "إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على جهنّم لم يجز عليه إلاّ من معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب، وذلك قوله تعالى: (وقفوهم إنّهم مسؤولون)يعني عن ولاية علي بن أبي طالب (ع)"(4).
كما أكّد الكثير من كتب أهل السنّة على أنّ تفسير هذه الآية يخصّ السؤال بشأن ولاية علي بن أبي طالب (ع)، وقد نقل هذه الرواية ابن عبّاس وأبي سعيد الخدري عن رسول الله (ص)، كما نقلها رواة آخرون منهم:
ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة- الصفحة 147.
عبدالرزاق الحنبلي في كشف الغمّة- الصفحة 92.
العلاّمة سبط ابن الجوزي في التذكرة- الصفحة 21.
الآلوسي في روح المعاني في نهاية هذه الآية.
أبو نعيم الأصفهاني في كفاية الخصال- الصفحة 360، وغيرهم من الرواة(5).
وبالطبع، وكما قلنا مراراً، فإنّ مثل هذه الروايات لا تحدّ من المفهوم الواسع للآيات، بل تعكس- في الحقيقة- مصاديقها الواضحة، بناءً على ذلك فإنّه ليس هناك أي مانع من أن يسأل عن جميع العقائد، لكن بما أنّ للولاية موقعاً خاصّاً في بحث العقائد فقد إستند عليها.
وهناك نقطة جديرة بالإهتمام، وهي أنّ الولاية لا تعني علاقة عادية أو إعتقاداً جافّاً، وإنّما الهدف هو قبول قيادة الإمام علي (ع) في المسائل العقائدية والعلمية والأخلاقية والإجتماعية بعد النّبي الأكرم (ص).
وقد عكست خطب أمير المؤمنين (ع) وكلماته في نهج البلاغة نماذج من تلك المسائل .. المسائل التي يعدّ الإيمان بها والعمل على أساسها وسيلة مؤثّرة للخروج من صفّ أهل جهنّم والإستقرار على صراط الله المستقيم.
2- المتبوعون والتابعون الضالّون: الآيات المذكورة أعلاه وآيات اُخرى في القرآن الكريم، تضمّنت إشارات ذات مغزى عن التخاصم الذي يقع بين الأتباع والمتبوعين يوم القيامة أو في جهنّم وهذا تحذير مفيد لكلّ من يضع عقله ودينه تحت تصرّف أئمّة الضلال.
ومع أنّ كلّ واحد يسعى في ذلك اليوم للتبرؤ من الآخر، وحتّى أنّه يحاول إلقاء تبعات إرتكاب الذنب عليه، ولكن بتلك الحال لا يستطيع أي واحد منهم إثبات براءته.
وشاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ أئمّة الغواية والضلال يقولون بصراحة لتابعيهم: إنّ سبب تأثيرنا عليكم هو وجود روح الطغيان في داخلكم (بل كنتم قوماً طاغين).
هذا الطغيان هيّأ لديكم أرضية التأثّر بإغوائنا، وعبّر هذا الطريق تمكّنا من نقل الخرافات إليكم (فأغويناكم إنّا كنّا غاوين).
التوجّه الدقيق لمعنى (أغوى) والمشتقّة من (غي) يوضّح الموضوع، لأنّ كلمة (غيّ) كما يقول الراغب في (مفرداته) تعني الجهل الناشىء من المعتقدات الفاسدة، إذ أنّ أئمّة الضلال بقوا بعيدين عن معرفة حقائق الوجود والحياة، ونقلوا جهلهم ومعتقداتهم الفاسدة إلى تابعيهم الذين كانوا يحملون روح الطغيان في مقابل أمر الباري عزّوجلّ.
وبهذا الدليل يعترفون هناك بأنّهم هم وتابعوهم يستحقّون العذاب، (فحقّ علينا قول ربّنا إنّا لذائقون).
وكلمة (ربّ) هنا لها مغزى كبير، إذ أنّ الإنسان يصل إلى درجة بحيث أنّ الله الذي هو مالك ذلك الإنسان ومربّيه ولا يريد له سوى الخير والسعادة يأمر بالقائه في أشدّ العذاب!! وهذا أيضاً من شؤون ربوبيته.
على أيّة حال فإنّ ذلك اليوم هو حقّاً (يوم الحسرة) حيث يندم فيه أئمّة الضلال وتابعوهم على أفعالهم، ولكن ما الفائدة؟ فليس هناك أي طريق للرجعة.
1- (قفوهم) من مادّة (وقف) وأحياناً تأتي بصورة فعل متعد وتعني (التوقيف والحبس)، وأحياناً اُخرى تأتي بصورة فعل لازم، وتعني (التوقّف والوقوف) ومصدر الاُولى هو وقفة، ومصدر الثانية وقوف.
2- الرواية هذه وردت في (الصواعق) عن أبي سعيد الخدري نقلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما وردت عن الحاكم بن أبو القاسم الحسكاني في (شواهد التنزيل) نقلا عن رسول الله، كذلك وردت في عيون أخبار الرضا نقلا عن الإمام الرضا (عليه السلام).
3- (إستسلام) من مادّة (السلامة) ولكونها من باب (إستفعال) فهي بمعنى طلب السلامة والتي عادةً تكون ملازمة للإنقياد والخضوع في مقابل قوّة أعظم.
4- تفسير نور الثقلين، المجلّد الرابع، الصفحة 401.
5- لكسب المزيد من الإطلاع في هذا المجال يراجع إحقاق الحقّ، المجلّد الثالث (الطبعة الجديدة) صفحة (104)، والمراجعات، الصفحة 58 (المراجعة 12).